همس في أذني وهو يحاول جاهدا أن يلملم نفسه، ويصلح بعض ما اعترى هيئته وسحنته المقلوبة لدى خروجه من مكتب المدير بعد أن أدى واجب الولاء والطاعة الصباحي :
- عندما بدأ نشيطا حيويا يستشيركم في كل صغيرة وكبيرة، من منكم جرؤ على إبداء رأي ناصح أو وجهة نظر مغايرة لرأيه من بين تلك الآراء التي كنتم تتداولونها همسا فيما بينكم ؟ من منكم لم يكن ظلا له ؟ يقف خلفه ، يجترح له المزايا ويؤمن على ما يقول ؟ :
ألم تتصدوا بأغلبيتكم فتخمدوا كل صوت جاهد أن يقترح أمرا لم يتفتق عنه ذهن المدير؟
أما كان يمر عليكم محييا حيثما كنتم منتشرين في طابور الصباح، فأبيتم إلا أن تصطفوا عند باب المدرسة على مرأى التلاميذ والمارة انتظارا لمقدمه، فتتسابقوا للظفر بتحيته والسلام عليه؟ ولعل تكرار هذا المشهد بات يحرجه فصار يبكر إلى مكتبه ولا يغادره إلا بعد انتهاء طابور الصباح. و ما نجّاه تمترسه خلف مكتبه من تقاطركم عليه تباعا لتقديم تحية الولاء الصباحي، حتى بعد أن دفع بدفتر الدوام إلى مكتب وكيله .
هل كان في أيامه الأولى يكتب اسمه ويوقع إلا وقت حضوره الفعلي، وحيثما كان ترتيبه بين الحاضرين ؟
هل طلب من أحدكم يوما أن يفرغ له السطر الأول دائما يملؤه متى حضر؟ أم أنكم دفعتم بأنفسكم طوعا خطوتين إلى الوراء، عندما جعلتم من تقاليدكم المهنية العريقة أن تفرغوا مكان الصدارة لمديركم ثم لوكيله ليوقعا متى حضرا، وبذلك أعنتموهما على التراخي، وزينتم لهما الانفلات والتهرب من ضوابط نظام الدوام .
هل طلب منكم يوما أن يكون ترتيب أبنائه الأوائل على صفوفهم في جميع المواد ؟
أم أن ذلك كان هدية طوعية منكم لتنالوا الحظوة لديه، ولتقربكم إليه زلفى؟ بينما نظرات الطلاب المستهجنة تنغرز في عيونكم، وهمساتهم اللاذعة توسعكم اتهاما بالمحاباة والتزوير وهي التي تعرف التلاميذ السباقين في فصولها .
وجم صاحبي وكأن على رأسه الطير، وهو يستمع لي وأنا أقلب له تلك الصفحات من الخنوع التي مهدت لمديرنا الطريق ليصل إلى ما وصل إليه من تعالٍ . ثم سألني متعجبا :
- ونظل معه على هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا أم نجدُّ في البحث عن مكان عمل جديد ؟
- بل تظل مكانك مُعلقا في المكان الذي علّقت فيه أنت وزملاؤك أنفسكم، حتى يهوي الكرسي بصاحبه ذات يوم، فتشمتوا ما شاء لكم أن تشمتوا، وتنطلق ألسنتكم التي بلعتموها دهرا، لتزيح الغطاء عن قمقم الكبت والقمع الذي حبستموها فيه طويلا، فتميط اللثام عن كل القبح الذي سكتم عليه أمدا طويلا، بينما يباغتكم واحد منكم، يتسلل من بين صفوفكم وأنتم عنه في غفلة، فيثب ويتبوأ الكرسي الذي خلا، وينصب نفسه مديرا جديدا وتعودون لسيرتكم الأولى .
- أإلى هذا الحد أنت يائس منا يا رجل؟ ومن إمكانية صلاح أحوالنا ؟
- لو كان الحال الذي وصفته لك متعلقا بشؤون مدرستنا وحدها لهان الأمر، لكنني أراه في كل مكان قرُب أم بعُد، وفي كل مؤسسة صغرت مكانتها أم كبرت .
وبينما كان صاحبي يُطرق عابثا بلحيته وهو يتجرع على مضض كلماتي التي كان لها وقع تساقط الحجارة في أذنيه، كان غيره من المدرسين يمر بنا ميمما وجهه صوب باب الإدارة مسابقا غيره مشيحا بوجهه عنا مخافة أن نستوقفه أوتعيقه تحيتنا، فيقرع جرس الحصة الأولى ويحرمه من التشرف بتقديم مراسم الطاعة الصباحية، أو يرغمه على تأجيل ذلك ولو إلى حين .
فيصل سليم التلاوي
- يا أخي ، أي تبدل هذا الذي أصاب مديرنا ؟ وهل تفعل الكراسي فعلها في الناس إلى هذا الحد من التعالي والتكبر ؟
- يا صديقي أنا ألاحظ كل شيء، وإن كنت لست طرفا في أي شيء، فأنا لم أشارك في أي من المراسم التي اشتركتم جميعا في صياغتها، وإن كنت أحصيها عليكم عدا، وأنتظر بفارغ الصبر يوما تحصدون فيه ما زرعتم . ودهش صاحبي من هذا التشفي وقال :
- عندما بدأ نشيطا حيويا يستشيركم في كل صغيرة وكبيرة، من منكم جرؤ على إبداء رأي ناصح أو وجهة نظر مغايرة لرأيه من بين تلك الآراء التي كنتم تتداولونها همسا فيما بينكم ؟ من منكم لم يكن ظلا له ؟ يقف خلفه ، يجترح له المزايا ويؤمن على ما يقول ؟ :
ألم تتصدوا بأغلبيتكم فتخمدوا كل صوت جاهد أن يقترح أمرا لم يتفتق عنه ذهن المدير؟
أما كان يمر عليكم محييا حيثما كنتم منتشرين في طابور الصباح، فأبيتم إلا أن تصطفوا عند باب المدرسة على مرأى التلاميذ والمارة انتظارا لمقدمه، فتتسابقوا للظفر بتحيته والسلام عليه؟ ولعل تكرار هذا المشهد بات يحرجه فصار يبكر إلى مكتبه ولا يغادره إلا بعد انتهاء طابور الصباح. و ما نجّاه تمترسه خلف مكتبه من تقاطركم عليه تباعا لتقديم تحية الولاء الصباحي، حتى بعد أن دفع بدفتر الدوام إلى مكتب وكيله .
هل كان في أيامه الأولى يكتب اسمه ويوقع إلا وقت حضوره الفعلي، وحيثما كان ترتيبه بين الحاضرين ؟
هل طلب من أحدكم يوما أن يفرغ له السطر الأول دائما يملؤه متى حضر؟ أم أنكم دفعتم بأنفسكم طوعا خطوتين إلى الوراء، عندما جعلتم من تقاليدكم المهنية العريقة أن تفرغوا مكان الصدارة لمديركم ثم لوكيله ليوقعا متى حضرا، وبذلك أعنتموهما على التراخي، وزينتم لهما الانفلات والتهرب من ضوابط نظام الدوام .
هل طلب منكم يوما أن يكون ترتيب أبنائه الأوائل على صفوفهم في جميع المواد ؟
أم أن ذلك كان هدية طوعية منكم لتنالوا الحظوة لديه، ولتقربكم إليه زلفى؟ بينما نظرات الطلاب المستهجنة تنغرز في عيونكم، وهمساتهم اللاذعة توسعكم اتهاما بالمحاباة والتزوير وهي التي تعرف التلاميذ السباقين في فصولها .
وجم صاحبي وكأن على رأسه الطير، وهو يستمع لي وأنا أقلب له تلك الصفحات من الخنوع التي مهدت لمديرنا الطريق ليصل إلى ما وصل إليه من تعالٍ . ثم سألني متعجبا :
- وهل كنت تتابع منا كل ذلك وتحصي علينا أنفاسنا ونحن نظنك لا تبالي بشيء وأنت غارق في صمتك الدائم ؟
- ونظل معه على هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا أم نجدُّ في البحث عن مكان عمل جديد ؟
- بل تظل مكانك مُعلقا في المكان الذي علّقت فيه أنت وزملاؤك أنفسكم، حتى يهوي الكرسي بصاحبه ذات يوم، فتشمتوا ما شاء لكم أن تشمتوا، وتنطلق ألسنتكم التي بلعتموها دهرا، لتزيح الغطاء عن قمقم الكبت والقمع الذي حبستموها فيه طويلا، فتميط اللثام عن كل القبح الذي سكتم عليه أمدا طويلا، بينما يباغتكم واحد منكم، يتسلل من بين صفوفكم وأنتم عنه في غفلة، فيثب ويتبوأ الكرسي الذي خلا، وينصب نفسه مديرا جديدا وتعودون لسيرتكم الأولى .
- أإلى هذا الحد أنت يائس منا يا رجل؟ ومن إمكانية صلاح أحوالنا ؟
- لو كان الحال الذي وصفته لك متعلقا بشؤون مدرستنا وحدها لهان الأمر، لكنني أراه في كل مكان قرُب أم بعُد، وفي كل مؤسسة صغرت مكانتها أم كبرت .
وبينما كان صاحبي يُطرق عابثا بلحيته وهو يتجرع على مضض كلماتي التي كان لها وقع تساقط الحجارة في أذنيه، كان غيره من المدرسين يمر بنا ميمما وجهه صوب باب الإدارة مسابقا غيره مشيحا بوجهه عنا مخافة أن نستوقفه أوتعيقه تحيتنا، فيقرع جرس الحصة الأولى ويحرمه من التشرف بتقديم مراسم الطاعة الصباحية، أو يرغمه على تأجيل ذلك ولو إلى حين .
فيصل سليم التلاوي