حاميد اليوسفي - الكأس المكسورة.. قصة قصيرة

عندما فتح صفحة بيضاء ، بدت له مثل صحراء قاحلة . من قبل كانت الفكرة واضحة في ذهنه ، وكذلك الحدث ، والشخصية التي ستنهض به . تعجب من هذه الكائنات التي يصنعها الكتاب من ورق أبيض ، وكيف تتحول مع كلمات تُخطّ بمداد أسود إلى مخلوقات من لحم ودم ، تبكي وتضحك ، تصدق وتكذب ، تُحب وتكره ؟!
اليوم فكر في خلق شخصية ، كُلما طَلب منها أحد أن تعمل شيئا ، فعلت عكسه . وبقيت على نفس الحال ، حتى كبرت ، ولم تتزوج ، ولم تنجب أبناء .
لا يدري كيف تراءى لعينيه شبح (نرجس والنصف الفارغ من الكأس)* . يحدث في بعض الأحيان أن يتكلم همسا مع بعض شخصياته ، ويُصغي إليها بإمعان عندما تتحدث معه . وقد يبتسم لبعضها ، ويعقد حاجبيه ، وهو ينظر إلى بعضها الآخر . وقد تشاجر مرة مع شبح رب عمل جشع ، يُمعن بدون حياء في السرقة والكذب ، حتى شك بأنه ربما أصابه مسّ . وفكّر في أن يسأل بعض الكُتّاب : هل يحدث معهم ما يحدث له ؟ فخشي أن يسخروا منه . والآن ظهر شبح نرجس أمامه على شاشة الحاسوب ، من غير أن تتكئ على دراجة (ميني)* ، أو تقف على بعد مئة متر من مقهى الحي ، وهي تنتظر أن يظهر بلال ، وتذهب معه إلى السينما ، كما وقع في القصة ، فتوقّف عن الكتابة .
نظرت إليه بملامح غاضبة ، لكنها خاطبته بصوت هادئ :
ـ لا أتفق معك حول المصير الذي رسمته لي في أقصوصتك ، وأكره شفقة القراء .
ثم أضافت بنبرة يغلب عليها مزيج من الحزن والاحتجاج :
ـ من قال للراوي أن إحدى ساقي من حديد ؟ وأن صديقي عندما وضع يده عليها ، وجدها باردة مثل الثلج ؟ ومن منحه الحق في أن يتجسس علي ؟ أنا لا أحب أن يقدمني كواحدة من ذوي الاحتياجات الخاصة ، ولا أحب أن أتعرف على شاب فقط من أجل أن يعانقني في ظلام قاعة السينما ، ثم يتخلى عني عندما نخرج إلى الشارع ، لأثير شفقة القراء . لا ، ليس هذا ما أريده .
ابتسم ، ورد بهدوء :
ـ وماذا تريدين يا نرجس ؟
هزت ردفها الأيسر ، وفتحت ذراعيها أمام صدرها ، ثم أجابت بحركة مسرحية ، وهي تبتسم :
ـ أريد أن يقدمني الراوي برجلين من لحم ودم . أليس الراوي صديق يعمل معك ؟ أطلب منه أن يفتح عينيه ، أو اعمل له نظارات ليُبصر جيدا ؟ وجهي مثل القمر ، فأنا يمكن أن أمشي أحسن من أي فتاة سوية ، ألتفت متوجسة مثل أي غزالة ، أنتقي أجمل العطور ، وأختار ألوانا ساحرة لملابسي ، وأرقص هكذا (جرت في ساحة خالية ، يرتفع جسدها ، وينخفض ، تنظر إلى أعلى ، ثم تقف على أصابع رجليها ، ويداها ممدودتان مثل جناحين ، كأنها تؤدي رقصة باليه) .
استوت في وقفتها ، ثم أضافت :
ـ تخليت عن دراجة (الميني) ، ولم تعد ساقي تؤلمني . وكل من نظرت إليه ، يتمنى لو حظي بأن يتحدث إلي ، ويسير لبضعة دقائق بجانبي . يكفي أن أشير ، فيتهافت علي العشاق من كل حدب وصوب .
قال الراوي وهو يتحدث في الخفاء مع الكاتب بهمس :
ـ ثمة شيء ما يحدث ! ولا أعرف ما هو ؟
نرجس قد تكون الآن على مشارف الستين سنة . وإذا ما تزوجت ، وما زالت على قيد الحياة ، فسيكون لها أبناء ، وربما أحفاد ، أو أنها رحلت عن هذا العالم ، وتنام اليوم في قبر بارد . وقد يكون ما تراه مجرد خيال تهيأ لك بأنه يشبه نرجس !
ابتعد شبح نرجس قليلا ، ثم استدارت ناحيته ، وهي تهدده :
ـ سأرفع قضية ضد الراوي . روى عني أشياء ليست كلها دقيقة ، وكان عليه ، قبل أن تكتب وتنشر ، أن يتصل بي ، ويأخذ رأيي في الموضوع .
نظر إليها مليا حتى يتأكد على أنها هي نرجس ، التي لم ير منها صديقها سوى النصف الفارغ من الكأس ، كما أخبره الراوي ، ثم قال :
ـ لكن أنا كتبت على الأقل ما نقله إلي الراوي ، واعتقدت بأنه صحيح ، وحاولت أن أُنصفك ، وأدافع عنك ، بالنظر إلى النصف المملوء من الكأس .
لست وحدك من ذوي الاحتياجات الخاصة . مجتمعات بكاملها أصبح بعضها أعرج ، وبعضها أعمى ، وبعضها أبكم ، وبعضها أحمق .
لست وحدك ، كلنا نعاني من إعاقة ما يا نرجس ! لكن أخطر إعاقة نعاني منها هنا . وهذه هي الكأس المكسورة ! (ووضع يده على صدغه مشيرا إلى عقله) .



المعجم :
ـ (نرجس والنصف الفارغ من الكأس) : قصة قصيرة نشرتها على صفحتي في الفايس بوك بتاريخ 17 يوليوز 2020 .
ـ دراجة (ميني) : دراجة قصيرة ظهرت كموضة في مغرب السبعينات والثمانينات من القرن الماضي .
مراكش 04 فبراير 2021




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى