أمل الكردفاني- فزع الصمت- قصة

الطفل الذي أنجبناه وخرج إلى الحياة بصمت، ..ظل صامتاً..يوسف الصغير لم يتكلم أبداً، لم يبكٍ ولم يضحك..لكنه رغم ذلك كان بصحة جيدة، هكذا أخبرنا الأطباء..أذناه تعملان بكامل قدرتيهما، لسانه يتحرك، عيناه تريان بل هما صافيتان ونقيتان كالبلور. لكنه لم ينطق أبداً، يتجهم وجهه يبتسم أحياناً وغالبا ما يظل ساهماً كفيلسوف عظيم..أمه -وهي طبيعة النساء- تأقلمت مع ذلك بسرعة ورتبت مواعيد رضاعته..
أدغده فيبتسم..فقط يبتسم بلا صوت رغم أن حباله الصوتية جيدة..أهمس في أذنه: ب..ا..ب..ا . لكنه يحرك شفتيه دون صوت ثم يتجاهلني تماماً. متى بدأ الإنسان الكلام وكوَّن الجمل؟ هكذا سألت أحد أساتذة الجامعات، فقال: لا أحد يدري على وجه التحديد هناك نظريات، بعضهم يقول بأن الإنسان قلد أصوات الطبيعة وغير ذلك من نظريات..فخرجت من مكتبه بلا فائدة. كنت كلما عدت إلى المنزل أسأل زوجتي: هل قال شيئاً؟ فتنفي ذلك بهزتين من رأسها وتمضي إلى أعمالها المنزلية، لذلك مضى الوقت ولم أعد أسأل.
...
من أعطاني الحل كان شخصاً غريب الأطوار يجلس أمام باب العمارة ويدخن باستمرار وأحيانا يضع زجاجة خمر بلدية إمامه. كنت أهدهد يوسف الصامت، فرفع الرجل النحيل رأسه ونظر نحونا باشمئزاز وسأل:
- لماذا تهدهده على كتفك وهو لا يبكي؟
ثم حول وجهه إلى الإتجاه المعاكس لنا بحركة سريعة غريبة، غير منتظر لرد. قال:
- لو أخبرتك بالحل فهل ستقرضني مالاً؟
قلت بحذر:
- إذا نجح الحل..
قال:
- عرِّضه للخوف.. ضعه أمام كلب ينبح وغادر..سيصرخ..سيناديك حتى ولو من فتحة مؤخرته...فالخوف هو من أجبر الإنسان على الكلام..
نظرتُ إلى عينيه المحمرتين وقد ملآني جنونهما بالخوف، فغادرت.
قطعت ثلاثة أزقة مظلمة حتى وجدت مجموعة كلاب متشردة فوضعت الطفل على الأرض وابتعدت قليلاً ثم رشقت الكلاب بالحجارة فبدأت تنبح وهي تقترب من الطفل. ورأيت عيني يوسف تبرقان..وذراعيه الصغيرتين تنفردان..اقترب الكلب منه حتى خشيت عليه، غير أنه لم يصرخ بل فتح فمه الصغير كالقرنفلة...واحتضن الكلب ثم أحاطت به بقية الكلاب وأخذت تتودد إليه وتلعقه..
ألجمني المشهد، ثم تمالكت نفسي وتوجهت نحوه غير أن الكلاب زمجرت..وهاجمتني هجوماً شرساً.. كانت تعتقد أنني خطر عليه..فصحت:
- انا أبوه..ابتعدوا..
لكنهم ازدادوا شراسة..
أخذت حجارة وبدأت في رشقهم بحذر كي لا أصيب الطفل.. لكنه التفت نحوي وصاح بغضب:
- أتركهم..
كان يحميهيم بذراعيه وعيناه غاضبتان..
قلت:
- هل ستبقى معهم؟..
قال:
- هذه عائلتي..
قلت:
- ونحن يا يوسف..أنا وأمك..
قال:
- ليس بعد اليوم..
....

اشتريت زجاجتَيْ خمر بلدية وجلست إلى الرجل، قال:
- نطق؟
- ويا ليته لم ينطق..لقد هجرنا ليعيش مع الكلاب..
قال:
- لقد فهم حقيقة العالم جيداً..
قلت وأنا أجرع الخمر:
- لا أحد يفهم هذا العالم..
نظر نحوي بعينيه المجنونتين وصاح:
- ماعدا الكلاب.. هل تفهم..ماعدا الكلاب..
قلت محاولاً تهدأته:
- حسنٌ.. حسنٌ.. لا تغضب..
صمتَ وحدق في الأفق ثم أخذ يدخن ويشرب في وقت واحد..
...

زوجتي الرومانسية والتي تزوجتها بعد قصة حب مريرة ورفض من أسرتينا لهذا الزواج، استقبلت الخبر ببرود وقالت:
- هذا خياره..
قلت:
- لا زال طفلاً لم يكمل ثلاث سنوات..
قالت وهي تجمع شعرها وبين شفتيها دبوس شعر:
- سيخوض تجربته الخاصة .. اتركه..
- لكنه ابننا..
أدخلت الدبوس في شعرها من الخلف بحركة واحدة سريعة واحترافية وغمغمت:
- إنه إنسان...إنسان حر..
ونظرت لي نظرة ذات مغزى...
....

إن خيانة من نحبهم لثقتنا فيهم مُرة..ولعلني خنت ثقة يوسف حين أسلمته للرعب من أجل رغبتي في سماع صوته..كنت أعلم أنه ليس مريضاً وأنه فقط غير راغب في الكلام، وكان يجب أن أحترم رغبته تلك، لكنني عاملته كدميتي الصغيرة،كما أنجبته بلا استئذان..فقرر أن يعيش كلباً..ليمنحني شعوراً مزمنا بالذنب..
قالت زوجتي:
- لا زلتُ أحيض..فلماذا تبكي؟
أدهشني ذلك:
- حقاً؟
قالت:
- ربما لسنة أخرى ولكنها كافية لانتاج البيض اللازم..
وقد ضاعف الطبيب من آمالنا حين منحنا عقاقير وحقن لتنشيط قدراتنا الفسيولوجية..وانتفخت البطن حاملة كائناً جديداً..
كائناً بديلاً ليوسف، ولا أعرف معنى أن يكون إنسانٌ بديلاً لإنسان..فقط مجرد مجاز..هكذا اقنعت نفسي..
وحين سألَتنا الطبيبة عن رغبتنا في رؤية الجنين رفضنا، فقالت بتردد:
- لم نعرف بعد إن كان ذكراً أم أنثى غير أن الراجح أنها أنثى..
....
بقيتُ خارج غرفة التوليد، مفتقداً لذلك القلق الذي انتابني ساعة ميلاد يوسف، كجريمة القتل الأولى التي تنهي الشعور بالخوف من اقتراف قتل جديد.. بل تستأنسه..ثم سمعت تأوهات زوجتي.. ثم صراخها الذي اختلط بصراخ آخر، فاقتحمت غرفة التوليد، ووجدت الطبيبة والممرضين ينظرون للطفل ذو الرأس الكلبي بخوف..
...

زوجتي التي تزوجتها بعد قصة...ولكنني أخبرتكم بذلك...رفعَتِ الجرو ثم أرخت ثديها لخطمه الصغير فتشممه بضع مرات ثم أطبق على حلمتها وبدأ في مص اللبن..كانت ملامحها باردة ومرهقة في نفس الوقت..
- جرو؟
سألتها فأجابت بصوت خافت:
- جِروةٌ صغيرةٌ حلوة..
ولم ألمسها أبداً..بل تذكرت يوسف..
....

"أحبك يا أبي"
تقول لي الجروة بحنان، فابتسم..كانت تخاف أن تفتح ذراعيها لي فقد جَرَّبت ذلك مراراً دون فائدة..
....

غرفة مكتبي مظلمة جداً، تعمق بظلمتها مأساتي، وتمرق من زواياها أشباح صوتَي يوسف وجروة:
"لتعرف أن للحياة عمقا سحيقاً من البؤس..هل أدركت ذلك؟"
تشتعل وجناتي برغبة البكاء، ويستمرا:
"عشتَ جباناً..ولم تقاوم من أجلنا..إنك لست سوى ذاتك الخائفة.."..
فيتمرغ صوتي في الفزع:
"ليس كذلك..ليس كذلك"..
يأتني صوتهما:
"هناك في أعماقك..في اعماقك التي لا أحد يراها حتى أنت...نحن مسجونان..أخرجنا من سجنك يا ابي"..
وأحاول الغوص في أعماقي،..غير أن الطريق طويلٌ كما لو كان بلا نهاية..وأسمع أصوات قهقهات ذات صدى...
"إمضِ..إمضِ أيها المشرد في قرية الذات المهجورة..يا من لم تفهم يوماً معنى الحب.. إمضِ"..
تتسع عيناي من الألم، وأغادر غرفة مكتبي، وأرى الضوء يسقط من النافذة على سرير زوجتي..أطرافها مرمية بفوضوية كصفحتي كتاب ممزق..أبكي حين أرى عيني الجروة تلمع في سريرها الصغير وهي تراقبني بابتسامتها ذات الأنياب.. أمد كفيَّ وأطبق على رقبة زوجتي..أخنقها.. والتفت بعدها إلى الجروة التي تتوقف عن اللهاث لترمقني بترقب..ترتفع أذناها قليلاً...
"أحبك يا أبي"..
ثم تخضر العروق في وجهها وأتركها جثة هامدة..

(تمت)..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى