حاميد اليوسفي - المرأة الشبح

(ممنوع على أقل من 12 سنة)
فتح الواتساب . لاح فيديو يوثق لمسيرة قيل بأنها لمثليين خرجوا يتظاهرون في أحد شوارع مراكش . والعهدة على من رمى الشريط في وسائل التواصل الاجتماعي . سمع ضحكات نسائية تتعالى من هنا وهناك . فحص الوجوه . بدا شكل أحدهم مشمئزا وغريبا . قصير القامة ، بدين بمؤخرة بارزة ، وشارب ولحية كثة . تساقطت أسنانه الأمامية . لم يحقد عليه ولم يتضامن معه . وقف في منزلة بين المنزلتين . الله خلق الرجل رجلا ، وخلق المرأة امرأة . رأى في الماضي حالات قليلة ونادرة تشذ عن القاعدة . لا تخرج إلى الشارع ولا تتظاهر . لكن الناس طلبوا من الله أن يسترها ويعفو عنها .
تخيل أنه إذا خرج عليه هذا المثلي في منطقة معتمة وخالية من الناس سيطلق ساقيه للريح كما حدت لمهدي رحمه الله .
ـ لكن ماذا حدث لمهدي !
ـ تريد أن تعرف ما وقع لمهدي . افتح أذنيك جيدا !
مهدي رحمه الله عندما يكون مزاجه رائقا ، يروي لشباب الحي حكايات غريبة . قال لنا مرة بأنه رأى امرأة تشبه جارية خرجت من إحدى ليالي ألف ليلة وليلة ، لم يمسسها إنس ولا جان . حدث ذلك منذ زمن بعيد . رآها تلتحف إزارا شفافا أبيض ، شبه عارية ، قامتها الفارعة كعود الخيزران . يجري الماء في جسدها مثل غصن البان . تُنافس القمر بأن تصعد مكانه لتنير الكون . لم يكن في السماء قمر تلك الليلة . كأنه نزل إلى الأرض وتقمص صورتها . لوحت له بيدها ، ثم مدت ذراعيها من بعيد ، كأنها تناديه ، وتريد أن تحتضنه . كل المآسي التي عاشها في حياته مرت في شريط سريع أمام عينيه . هل استجاب الله أخيرا لدعواته الباطنية في أن تكون بجانبه امرأة مثل باقي الناس يمنحها قلبه وينام بين ذراعيها ؟ لا لم يطلب شيئا من هذا . هذه ليست امرأة عادية هذه ملاك هبط من السماء !
كان قادما في وقت متأخر من الليل . مر من طريق المسبح المحاذية لعرصة مولاي عبد السلام ، ما بين السور وباب المسبح على اليمين وراء الموقع القديم لثانوية بن يوسف . طريق خالية يغطيها ضباب خفيف ، وامرأة تتهادى في مشيتها بين الحفر والأتربة والمرتفعات المحاذية لها . كأنها ترقص ، وتتلألأ ضياء مثل الدر المنثور . أطلقت الضفائر السوداء خلفها ، يتلاعب بها النسيم البارد ، ويرميها فوق الإزار الأبيض . كان المكان معتما بظلمة خفيفة . ضوء خافت يلوح من مصباح كهربائي بعيد . أسرع الخطو ، وهو يلتفت ، والمرأة تسير خلفه مادة ذراعيها ، كأنها تتوسل إليه أن يقف . أحس بدبيب يتسرب إلى جسده من تحت إلى فوق . تصبب العرق من جسمه . فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان . خفض بصره ، ورأى رجليها . انتابه الذعر ! شيء لا يصدق ! امرأة بهذه الفتنة وهذا الجمال لها أقدام ماعز . تردد داخله صوت ينبعث من حكايات قديمة ترويها الجدات لأحفادهن :
ـ عيشة قنديشة ! والله هي ! هكذا وصفها الناس الذين خرجت عليهم في الماضي . في كل مرة تظهر بشكل مختلف . ها هي الآن تمشي وراءك بقدمي معزة !
أطلق ساقيه للريح . يحتاج فقط إلى قطع مسافة تقارب ثلاثمائة متر ليصل إلى شارع محمد الخامس . كلما أسرع أحس وكأن الشارع دخل معه في سباق لا ينتهي . لم يقف حتى كاد قلبه يخرج من مكانه . شعر بجفاف في حلقه . نظر خلفه وجد شبح المرأة قد اختفى . جلس على الرصيف لالتقاط ما تبقى من أنفاسه . لعن دخان القنب الهندي الذي أضعف قلبه ، وحد من سرعته في الجري . وقف على رجليه . قال لنفسه يجب الابتعاد من هذا المكان . قطع بضع خطوات في طريق الجبل الأخضر ، ثم عاد أدراجه . المكان أيضا مظلم في وسطه . خاف أن تخرج له المرأة التي تشبه قدماها قدمي معزة من بين الأشجار الباسقة داخل الجدار المحيط بفندق المرابطين . لا بأس من السير في الشارع . أعمدة الكهرباء والسيارات التي تمر بين الفينة والأخرى خير مؤنس حتى يصل إلى مقهى الكتبية ، ويميل على شارع الرميلة ثم يدخل مع باب القصور . لولا أن حلقه لا زال ناشفا لتوقف لتدخين غليون (سبسي) أو اثنان . الأزقة تبدو قاحلة مثل الثلث الخالي من الأرض ، لكن الناس تغط في نوم عميق وراء هذه الجدران . يكاد يشعر بأنفاسها تهبط وتعلو ، وهو ما بعث في نفسه شيئا من الطمأنينة . ما الذي أصابه ؟ من قلب حياته رأسا على عقب ؟ لا يخرج إلى التجول إلا في الوقت الذي ينام فيه الناس . ولا ينام حتى يستيقظ الناس .
لاح باب (الفَنْدَق)* على بعد أمتار من السقاية . توقف ، ونظر وراءه . مد يديه للماء ، بلل حلقه . غسل وجهه ، شرب . نزع قبعته ، رغم انخفاض درجات الحرارة مرر الماء على جلد رأسه . أحس بأن الدم عاد يجري في عروقه كأنه استيقظ من البنج . أخرج (السبسي) و (المطوي) وعود الكبريت . أخذ نفسا عميقا . عادت إليه الروح من جديد .
بعدها أقعده المرض ثلاثة أيام لم يغادر خلالها الفراش .


المعجم :
ـ (الفندق) : بناية كبيرة تتواجد بها دكاكين أغلبها يكتريه صناع تقليديون قادمون من الجنوب يعملون ويبيتون فيها . ويتخذها البعض الآخر غرفا للسكن .

مراكش 25 دجنبر 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى