ياسين الخراساني - سيد النهايات

هي المرة الألف التي أسير فيها على رأسي. كل من حولي يمشي على نمط واحد، أرى رؤوسهم و هي تخز الهواء و أتساءل: لماذا رمى الجميع قبعاتهم إلى حفرة قبل أن يردموها بقطع من الأرض.
عقلان هو اسمي. وأذكر من هويتي لون قطة رمادية، و أفهم من تاريخي أن الكلاب تطاردني كلما تسلقت السياج. أريد أن أسير بلا خوف. أريد أن ينام الجميع لكي يفرغ الليل من النجوم التي تضيء نرجسيتها فقط.
قيل لي أن هناك أرضا مسكونة بالأرواح التائهة، أرضا مشيدة من النظرات الخاطفة، وبقايا السكر في الأكواب، والأحلام المتوقفة عند فجاءة الصحو، وقطرة النبيذ التي نشتهي وندلق قبل الثمالة. هي أرض النواقص، ولكنها تناسبني تماما، هل أكون فيها ملكا ؟ هل يشيد لي فيها نصب من الشمع يخرجونه في الليالي الباردة فحسب، إلى ساحة لا تشعل فيها الأضواء ؟
عندما جئت إلى العالم، نقصت من صرختي النهاية. قيل لي أني مزقت ستائر الليل بعويل امرأة ثكلى، وإذ تحلقت حولي نسوة لا تعرفن سبب نقمي على وجود لا أعرفه [كأني أحتاج لسبب آخر] توقف صراخي واستسلمت لنوم عميق يعيدني إلى رحم أمي. كان أول حلمي أني لم أبرح اللحضة السابقة، ولازلت.
ثم نشأت أمتهر إيقاف الأشياء قبل اكتمالها، كأن أعزف عن فكرة قبل استيعابي لها، أو أراقب غروب الشمس وأنصرف قبل اختفائها أو ربما أغلقت سدادة سروالي في المرحاض وحاجتي غير مقضية.
عقلان هو اسمي. ولم أجد قبالتي من أقذفه به فأتخلص من تبعات اسم يثقلني وأثقله. ربما اشتهى رحم نطفة فضمني، أو مل مهد سكونه فهدهدني، أو ربما كان بين نجمين ما يكفي من الفراغ فتنبهت عبقرية اللاجدوى لي. ولكني أتواجد في المكان الخطأ و الزمان الأكثر غباء، وأنا مثلهما لا أفكر بثقة أو نباهة. الحكاية وجيزة تختصر في سببية ضالة قاصرة، أقولها لأرتاح لأني تعبت من تحمل الهواء فوق رأسي، وأكاد أؤذي بثقلي تراب الأرض. لذلك كلما مشيت حاذرت ألا أدب فوقها وكلما قفزت أعلمت الهواء فوقي فلا يجزع من قفزاتي ولا يذعر.
أحمل ما أشتهي في سلة خاوية، وأجري بها إلى خط النهاية في خاطري، ليس هو الخط الذي يسنه غيري وإنما رسمته في لحظة تافهة من حياتي الرتيبة. يومها دون سابق تفكير، خططت على الأرض سطرا وقلت لن أتجاوز في كل ما أشرع هذا البلوغ، هو يكفيني منذ الآن وقناعتي عنده تكون مثخمة كبطن حوت يحوي نبيا.
لا تنقصني البدايات ولي منها حبات عقد لا زال منفرطا، ولكني لا أريد تحمل دفع شيء إلى حتفه. أتركه حيث وجدته. متكئا على عكازة الوجود أسير برجلي الثالثة أبطأ من الوقت ذاته، لعله ينساني وراءه ولعلي أفقد رسمه خلف الأفق.
أذكر في صغري تخلفي عن إدراك الأشياء. عندما تعلم الصبية ركوب الريح، كنت أحبو على أرض وجدتها صلدة، وعندما راكموا صفوف الدرس كنت أراقب الفراغ بين الكلمات وهل هناك حرف أعلى أو أدنى من الآخر. رأيت قدوم الأشياء وهي تكبر على مرمى حجر مني، تسبقني ولولا الحبل الذي يجرني إليها لما سعيت نحوها.
عقلان هو اسمي... تصحرت واحتي يوم ولدت، ولكني لا زلت أحفر .. أحفر، ليس لأجل بلوغ الماء، ولكن لأروي جوف الأرض بهويتي الرطبة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى