مجدي جعفر - أم دغش.. قصة قصيرة

(1)​
بدت لنا على غير عادة النساء العربيات – والبدويات على وجه الخصوص – ممصوصة كعود قصب ، يابسة كعود حطب ، كادت الرياح أن تذروها – لولا أن اتكأت على جدار البيت وراحت تتفحصنا واحداً تلو الآخر بعينيها الضيقتين من خلف ” البرقع ” !
.. لم تزل آثار السفر على وجوهنا ، و الحقائب أثقلت كواهلنا ، والعرق ينز من جباهنا ، وأنوفنا .. تنظر لنا بعينين حادتين..
– ” مصريون ” ؟
= نعم
– ” ولماذا جئتم ” ؟!
= بحثاً عن لقمة العيش يا خالة .
زامت ، وضيقت ما بين حاجبيها، وتمتمت بكلمات لم نتبينها ثم قالت :
– ” من خرج من داره قل مقداره ” !
ألجمتنا عبارتها ، و كدنا ننسحب ، لولا أن تذكرنا أن أصحاب البيوت يرفضون ” العزاب ” سكاناً ، و كل من سألناه دلنا على ” أم دغش ” .
قادتنا إلى غرفة فوق السطوح – أقامتها بجوار برج للحمام – ضيقة الغرفة كزنزانة ، ارتفاعها لا يتجاوز المترين ، شباك صغير ينفذ منه الضوء بصعوبة ، نصف معتمة ، رغم قربها من الشمس ، فالشمس تكاد تلامس سقف الغرفة المصنوع من الصاج القديم الصدئ..
ما كادت أقدامنا تطأ عتبات الغرفة حتى هب هواء ساخن ، راكد ، و رائحة عفنة ، انكوت وجوهنا ، و نفرت أنوفنا ..
قالت :
– ” بالماء و الصابون تنظفونها ” !
قال أحدنا :
= ولا نهر النيل ينظفها !
نظرت إليه و قالت :
– ” النيل ” 00 النيل ما عاد يجرى ” ! ..
قال ضاحكاً :
= و الله العظيم تركناه – و هو يجرى !!
نظرت إليه ، و شردت قليلاً ، ثم قالت :
– ” النيل توقف من عشرين سنة ” !!
..و ما كادت تنصرف، حتى نزعنا ملابسنا ، و فتحنا صنبور الماء، ورحنا نغسل أرضية الغرفة وجدرانها و نغنى ” مصر ..مصر ..مصر هي أمي ، نيلها هو دمى .. شمسها في سمارى ، شكلها في ملامحى ، حتى لونى قمحي ، لون خيرك يا مصر ” !
( 2 )
ما كدنا نفرغ من تنظيف الغرفة ، و صب الماء على أجسادنا ، حتى جاء ولد صغير دون العاشرة أو أزيد قليلاً ..و قال :
– أمي تقول لكم لا تقربوا الحمام ، وأيش جبتم معاكم من مصر!!
= أنت دغش ؟
– نعم .
راح كل ينقر على ما معه و نغنى ..
= دغش ..يا دغش ..حلو يا دغش ..
أخذ الولد يضحك، و يغنى معنا، ولكنا وجمنا ، وسكتنا فجأة ، حينما رأينا أم دغش على بُعد خطوات منا، فلم نشعر بوقع أقدامها على الأرض، وأسرعنا إلى حقائبنا نفتحها ، ونخرج مافيها ..
: فطير ، عسل نحل ، جبنة قديمة ، ..
نظرت إلى الفطير والجبنة القديمة، وأطالت النظر إلى الفطيرة المستديرة كقرص الشمس وقت الغروب و قالت :
– ” من وين أنتم في مصر ” ؟
= من الشرقية !
ضحكت ، لأول مرة – نراها تضحك .. و قالت :
– ” أنتم اللي عزمتم القطر ” :
ضحكنا و قهقهنا ، و قلنا :
= من قال لك يا أم دغش ؟ !
تناولت الفطيرة ، و بعض العسل و الجبنة القديمة ، و آنستنا بإبتسامة رضا بدت في عينيها ، وريثما انصرفت رحنا نغنى :
= أنا المصري – كريم العنصرين ..
( 3 )
مع قرآن الفجر تصعد أم دغش إلى السطوح ، تدخل برج الحمام ، و تبقى مع الحمام حتى شروق الشمس ، و لا ندرى إن كانت تنوح أم تهدل ، يأتي صوتها همساً أحياناً ، وزعيقاً أحياناً ، أوقاتاً تبكي وأوقاتاً تضحك ، تناغي الحمام وتلاغيه ، يقف على راحتيّ يديها ، وفوق رأسها ، وعلى كتفها ، يحلق حولها ، منظر جميل وبديع يبدو لنا من الشرفة الصغيرة ..
.. أم دغش تلتقط حبات من الحبوب بفمها أو قطرات ماء و تلجه في منقار فرخ الحمام الصغير 00 و قبل غروب الشمس تجلس معه لساعات ، و لا ندرى متى نمت العلاقة بينهم ولا كيف فقهت لغة الطير ؟!
.. فما يكاد الحمام يشعر بقدومها حتى يحلق حولها ، ويتقافز طرباً ، كأطفال صغار – يستقبلون أمهم بعد غياب ، أو كعاشق يقابل محبوبته ..
.. كنا نحترم تلك العلاقة ، و نحاول ألا نزعج أم دغش و حمامها ، ففي حال وجودها لا نصدر أصواتاً – و نلتزم الصمت المهيب ، و أم دغش – كشفت لنا الأيام – عن عصبيتها – و مزاجها الحاد ، تشتمنا أحياناً بلا سبب ..و لا يجرؤ أحد منا على الاعتراض ، و أم دغش لا تكون في حالة سوية إلا وقت وجودها مع الحمام ..
تهدأ نفسها الثائرة و تستكين ، يمتص الحمام ثورتها ، و يشيع في نفسها البِشر و السرور ، و كنا إذا أردنا منها شيئاً أجلناه لبعد قعدتها مع الحمام ، ففي هذا الوقت لا ترفض لنا طلباً و لا تؤخر لنا أمراً و لا تبخل علينا بشيء ، و تكون طيعة ، لينة ، هادئة ..
..أقسم أحدنا أنه رأى – أم دغش – تصنع جناحين كبيرين من ريش الحمام ، و تقيسهما على ذراعيها – و تحدانا – أن نتسلل إلى البرج في الليل – و سنرى الجناحين معلقين على الحائط ، و قال أنه لا أثر لريش أو لزغب في المكان ، و أم دغش رأيناها أكثر من مرة تنتف ريشاً و تنزع زغباً ، و قادنا زميلنا إلى صندوق الزبالة بجوار البرج – فلم نر أثراً لريش أو لزغب – هل صدقتم ؟!
قلنا :
= من يدرى ..عباس بن فرناس أول من حاول الطيران و فشل و قد تنجح أم دغش !!
( 4 )
ما كدنا نضع رؤوسنا على الوسائد حتى نهضنا فزعين على صراخ الولد دغش و طرقاته على الباب
– الحقوا أمي تضرب أبويا !!
صكت الكلمة آذاننا ، و تلاقت أعيننا في استنكار ، و نهضنا ، حفاة – عدونا و بسرعة البرق وصلنا للدور الأرضي – لنرى أم دغش مُمسكة برجل مُسن ، كنا نظنه أباها – كشفت عن مؤخرته ، و أطلقت عليها خرطوم الماء ، و كانت تقرعه عليها و تشتمه و تلعن الأيام السوداء.
و الرجل المسن منكمش كالطفل ، و عندما حاولنا أن نتدخل ، هبت فينا كالمسعورة ، و أطلقت خرطوم الماء في وجوهنا ، و راحت تسبنا ، و لا ندرى لماذا أخذت تسب المصريين و تجرى وراءنا كالمجنونة ..
عرفنا فيما بعد – أن الرجل العجوز – أو الشايب كما يقولون – هو زوجها – و على هرمه لا يفيق من سكر و لا يتحكم في عملية الإخراج ، و يعملها على نفسه في الشارع أو في الفراش !!

( 5 )
كل يوم يمضى نكتشف فيه شيئاً ، و نعرف عنها جديداً ، و الجديد و المدهش هذه المرة – أن أم دغش مصرية !!
رحنا نضرب كفاً بكف – و ما كنا لنصدق أنها مصرية – لولا أن أكد لنا دغش أنها مصرية مائة بالمائة و أننا أخواله !
00 انتظرنا أم دغش قبل أن تدخل البرج و قلنا لها :
= لماذا تكرهين المصريين و أنت مصرية ؟ !
كان الحمام يحلق حولها ، و يحط على رأسها و كتفيها ، كعادته عندما تهل ، أمسكت بحمامة ، و راحت توشوشها بكلمات لم نتبينها ، ثم أطلقتها ، فانطلقت الحمامة ، و استدارت إلينا و قالت:
– كل يوم – من عشرين سنة – و أنا أحمل حمامة رسالة أبعث بها إلى مصر ، و كل يوم أنتظر ، لا الحمامة تعود و لا الرد يصل !!
و تركتنا أم دغش و دخلت ، و أغلقت الباب ، جلسنا بجوار البرج نحاول أن نصغي لبوح أم دغش للحمام 00
سرب من النمل يحمل كسرة خبز جافة و يتحرك صوب البرج ، سمعنا تحذير النملة لزملائها من سليمان و جنوده في قرآن المغرب الذى يُتلى بالمسجد القريب ، و حديث الهدهد ، و الجان ، و الرجل الذى عنده علم ، و أبداً 00 أبداً لم نتبين حديث أم دغش للحمام !
( 6 )
قالت أم دغش :
-” باعوني أولاد الـ ...“
= .....
-” أبويا ، و العمدة ، و المأذون ، ، و طبيب الصحة ، و شاهدا العقد .. و .... ” !
= .....
-” قبضوا الثمن و رموني للقيظ و الحر و الصحراء و البداوة و الحياة القاسية ، و رجل مزواج ، فارغ العينين ، يكبر أبى سناً ، و يقارب جدي في العمر ” !
= ......
-” عشرون عاماً عشتها معه ، ما شفت فيها راحة ” !
-” كنت أتمنى أن آكل يوماً و أجوع يوماً في مصر ، أرقد في عشة على النيل مع بائع فجل أو سائق عربة حنطور أو أعيش عمري كله عانساً بدون زواج ” !
= ....
-” امرأة جاهلة مثلى ، إذا خرجت أبعد من ها الشارع تتوه ” !
= ....
– ” كانت رسائلي – عبر الحمام – فلولاه لمت كمداً – ما تركت أحداً في مصر إلا بعثت له رسالة – حتى أولياء الله الصالحين ” ..
مرة نمت – و دموعي على خدي – حلمت أنى حمامة طايرة – ظللت أطير و أطير ، حتى شفت النيل ، نزلت فرحانة – أبل ريقي ، صحوت – على صوت الولد دغش و هو يبكى حضنته ، و قعدت أبكى ، و خلعت غطاء رأسي و دعوت على اللّي كانوا السبب – و من ذاك اليوم – و أنا عندي أمل أروح مصر و أشرب تاني من النيل !!
( 7 )
على غير عادتنا رجعنا من الشغل مبكرين ، لنسمع و نحن في أول الشارع صراخ أم دغش ، و نحيبها و عويلها ، ارتعدت فرائصنا ، ووجلت قلوبنا لما رأينا الولد دغش ملقى على الأرض يغوص في دمه ، شقت جلبابها ، و لطمت خدها و عفرت وجهها بالتراب 00
قال صبى صغير للعسكري :
– التقطت أرقام السيارة.
قالت امرأة :
-كان السائق هندياً يقود بجنون !
بصعوبة بالغة خلصنا الولد دغش من أمه آلتي احتضنته بهستريا ، و حمله أحدنا إلى الداخل ، و حملنا أم دغش عُنوة ، و صعدنا بها إلى السطوح 00 أدخلناها برج الحمام و أغلقنا عليها .. سمعنا نوح الحمام و بكاءه ..
وفى اللحظة آلتي كان يخرج فيها دغش مُحملاً في النعش .. كانت أم دغش تقف على قمة البرج ، تلبس الجناحين ، يغطى الريش و الزغب مناطق كثيرة من جسمها العاري ، و حولها الحمام يحلق و ينوح – و بينما الناس تتأهب للسير بالنعش – صحنا فيها :
= ارجعي .. ارجعي يا مجنونة؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى