أحمد عبدالرازق أبو العلا - الواقع ومتغيراته في قصص مجدي جعفر

في مجموعته القصصية الأولي ( أصداء رحلة شاب علي مشارف الوصول) يتفاعل الكاتب ( مجدي جعفر) مع الواقع المعيش بمتغيراته المختلفة ، تفاعلا – إيجابيا – ينعكس علي معظم القصص التي تتكون من واحد وعشرين قصة قصيرة ، وأربع قصص قصيرة جدا (1) .
لقد انعكست معظم المتغيرات التي حدثت في مصر السبعينيات ، بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، بشكل واضح ، علي تجربة الكاتب ومن ثم شكلت رؤيته ، وحددت موقفه تجاه الواقع ، وتجاه الحياة التي يستحضر منها شخوصه ، ويستمد منها تجاربه .. ويتأمل الكاتب الأساليب المتباينة لمعاركة الواقع ، ويتتبع ويرصد طبيعة العلاقات الإنسانية التي أنتجتها تلك المتغيرات ، وعلي وجه الخصوص : المتغير الاقتصادي ، حيث إن انتهاج مصر لسياسة الانفتاح الاقتصادي في عام 1974 - وهو وقت مبكر حتى بالنسبة للدول التي كانت مستعدة لاحتضان هذا النهج ، فما بالك بمصر التي لم تكن مهيأة بعد للممارسة . والانفتاح الاقتصادي - تحديدا - متغير كبير ، أحدث أثره علي اختلال منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية نتيجة لإفساحه المجال أمام الطبقات الطفيلية ، لكي تطفو علي السطح تمارس سطوتها بقوة المال ، فكان نتيجة لذلك أن ازداد فقر الفقراء ، وازداد غني الأغنياء ، وأصبح أبناء الطبقة المتوسطة ، علي شفا حفرة من الفقر فانهارت أحلامهم ، وأصبحت - رغم ضآلتها - أحلاما مستحيلة ، فلجأ معظم أبناء هذه الطبقة إلى الهجرة خارج الوطن ، للبحث عن أسباب الحياة ، ولتحسن أحوال المعيشة ، التي أصبح عنصر الاستهلاك فيها عنصرا رئيسا.

تلك الهجرة تركت آثارا جلية علي كل شيء ، ليس فقط علي منظومة القيم ، بل إنها أدت إلى انكسار الروح لدي الشخصية المصرية .. انكسار الروح ، أدي إلى تداعي وانحسار بعض المفاهيم مثل : مفهوم الوطن - مفهوم الشرف - مفهوم الكرامة وأدي إلى إغماض العين عن تقاليدنا ، وعاداتنا ونظم حياتنا ، فكان الدوران في الدائرة المفرّغة من الأهداف غير الواضحة ، تعبيرا عن ضياع الهوية ، وتأكيدا لفكرة الاستلاب.

وكان للمتغير السياسي أثره البالغ في تشكيل عقلية ووجدان الإنسان في مصر ، خاصة بعد اتفاقية ( كامب ديفيد ) وما تبعها من سياسات تمس الإنسان مسا مباشرا ، ومنها علي وجه الخصوص سياسة التطبيع ، تلك السياسة التي دفعتنا دفعا لتغيير ما ترّسخ في نفوسنا منذ سنوات طويلة - ومازال - من أن إسرائيل هي العدو الأول للإنسان العربي ، ومن الصعب عليك قبول هذا في ظل الإرهاب الصهيوني الذي يتبع سياسة خلط الأوراق . ويدخلك في متاهة البحث عن مفاهيم كانت محددة في ذهنك سلفا ولم تعد محددة اليوم ، مثل مفاهيم : المقاومة .. المواجهة .. تحرير الأرض .. السيادة .. الهوية .. التبعية .. الهيمنة .. الخ .
ولا يمكن لأي كاتب كان أن يتنصل من كل هذا ، إذا كان ملتزما بضرورة التعبير عن هموم الوطن والمواطن ، إذا كان ملتزما بمعيار الصدق الفني .. المعيار الأول لأي عمل إبداعي ناجح .
لا يمكن لأي كاتب كان أن يخلق عالما أفلاطونيا لا علاقة له بالواقع المعيش ، ولا علاقة له بجوهر الإنسان الذي هو محور الحياة والوجود .
ومن ثم تدعونا إلى الاندهاش العبارة التي جاءت في الدراسة المرافقة للمجموعة التي كتبها الناقد ( د. خليل أبو ذياب) (2) ويقول فيها " شرع قاصنا الشاب يشخص همم مجتمعه الريفي المحطوم ويرصد ملامحها ، محاولا البحث عن الدواء الناجع لها ، وان أظهر في جوانب كثيرة من إبداعاته حالة من الاستسلام أو السلبية التي تزيد الوضع سوءا ، وتشيع قدرا ظاهرا من اليأس والإحباط ، وهذا أمر يدفعنا إلى أن نهيب بالقاص لتبديل وسائله وأدواته ، وتغيير أساليبه ، واصطناع الجدية في وضع ( الصوي) - يقصد الضوء- علي طريق الواقع لئلا تتحول السلبية والاستسلام إلى فلسفة أو أيديولوجية قائمة لا يرجي منها أي نفع أو خير" (3).
تلك العبارة حق يراد به باطل ، لأنك حين تقوم بتوجيه السؤال إلى الكاتب - أي كاتب - وتقول : لماذا تكتب ؟؟ سيجيبك علي الفور : أكتب لأن هناك شيئا أود أن أقوله ، وتصبح هذه الإجابة بديهية تماما ، لا نختلف حولها أبدا . ولكن أن نقول للكاتب "إن تناولك لمظاهر الاستسلام والسلبية ، تزيد الوضع سوءا ، وتشيع قدرا ظاهرا من اليأس والإحباط" هذه العبارة تنطوي علي تناقض في داخلها ، إذ إنها تدعو الكاتب إلى الاستسلام والسلبية تجاه قضايا مجتمعه ، وهو يكتب – كما قلت – لأن هناك شيئا يود أن يقوله .. دعه يقوله بالطريقة التي يراها ، وعلينا أن نبحث عن ذلك المعيار الذي أغفلناه في دراساتنا النقدية الآن , وأعني به معيار الصدق الفني ، وبدلا من أن نقول له: استبدل وسائلك وأدواتك ، وغير أساليبك .. نقول له : قم بتطوير أدواتك وأساليبك ، بالقدر الذي تستطيع معه استقبال العمل الإبداعي استقبالا جيدا .
وتأتي قصص : ( مصري1 – مصري 2- حكاية كان الغدر- لماذا – الخروج- أم دغش ) لتعالج – من عدة زوايا- موضوعا واحدا هو موضوع : الهجرة خارج الوطن ، كنتيجة من نتائج انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي ، التي أشرنا إليها ، وتأتي قصص أخري لتعبر بشكل مباشر عن نتائج هذا الانفتاح علي أبناء الطبقة المتوسطة مثل قصص: حكاية البنت والولد – القادم – الصرماتي .
وعن اختلال منظومة القيم ، وتأكيدا لفكرة الاستلاب تأتي قصص : بنات أمريكا- انتظار- الثمن – الجني آدميون ، وعلي الرغم من أن الكاتب شدته مظاهر الخلل الذي حدث في المجتمع بشكل عام ، والمجتمع الريفي بشك خاص ، نراه يقدم قصصا يطرح من خلالها الرغبة في التغيير ، وضرورته من أجل مواجهة المستقبل مثل قصص: المهر – طريق الندامة – أصداء رحلة شاب علي مشارف الوصول.
التحولات التي حدثت في القرية المصرية في السبعينيات ، تحولات كبيرة ، عكست ظواهر متنوعة منها : تجريف الأرض لبناء المساكن عليها ، وهذا السلوك أدي إلى إثراء أصحاب تلك الأراضي إثراء فجائيا ، ومنها عدم الاهتمام بخدمة وزراعة المحاصيل الكبيرة مثل القطن والقمح ، نتيجة هجرة الفلاحين المدربين ، فأثر ذلك علي الإنتاج الذي جاء ضعيفا . المزارع في قصة ( مصري 1) ترك قريته وأرضه مهاجرا الي العراق ، فلم يهتم بها ، ولم يتابعها فجاء محصوله ضعيفا ، وتحرّر محضر باسمه - أثناء غيابه- لأن الأرض ضنت بالأرز ، ولم يتم توريد الحصة المقررة ، وفي نفس الموقت بخس محصول القطن ، الذي أرتفع ثمنه " اللوزة ناشفة ضعيفة والأنفار عملة نادرة " ص 107 هذا المزارع أقام بيتا علي أرضه المزروعة ، التي لم يعطها اهتماما يتساوي مع اهتمامه بإنقاذ الطفل العراقي الذي سقط من أمه في ماء النهر .
أوضح الكاتب مفارقة بين موقفين متضادين : العراقيون يهتفون بحياة المصري الشهم الذي أنقذ الطفل من الغرق ، وهو نفسه معرض للغرق ، ويحتاج الي من ينتشله !!
وعلي الرغم من أن السفر الي الخارج كان الوسيلة الناجعة لتخطي عقبات القهر الاقتصادي ، ولتحقيق الأمنيات ، ومنها أمنية زواج الشاب من الفتاة التي يحبها ، إلا أن السفر لم يكن هو الحل الأمثل لبطل قصة ( مصري 2) الذي ترك كل شيء حتى يستطيع الاقتران بحبيبته ، لكنها اقترنت بواحد آخر ثري ، يملك المال بالفعل ، وكأن لسان حال الكاتب يقول : (اللي سبق أكل النبق ) كما يعبر المثل العامي المصري عن هذا الموقف .
ولذلك يقرر فجأة - في نهاية القصة - الاقتران بامرأة وطنية يستطيع معها تخطي الصعاب ، والوصول الي ما يريد من أقصر الطرق ، وأسهلها !
الكاتب يشير – فنيا – الي اختلال منظومة القيم ، المرتبط بالبعد الاقتصادي الذي يدفع بالاحتياجات المادية الي مقدمة الاهتمامات بدون وجود الإمكانيات المساعدة ، ومن ثم تكون الوسائل غير أخلاقية ، وغير مشروعة أحيانا .
البعد الاقتصادي في قصة ( لماذا) هو الذي دفع الولد مدرس الموسيقي ، لكي يقوم ( بلم النقوط) للعالمة التي عمل معها مطربا !! وهو الذي دفع البنت التي تحبه ، وتعمل مدرسة للغة الإنجليزية ، لممارسة أسلوب إرهاب التلاميذ ، والتلويح لهم بدفتر المكتب ، ليلجئوا الي تعاطي الدروس الخصوصية .. أبناء الطبقة المتوسطة ، استسلموا للفجوة التي أحدثها المتغير الاقتصادي السريع ، وباتوا يؤمنون بأن الغاية تبرر الوسيلة للوصول الي الأهداف ، وتحقيق الأحلام ، والحلم هنا هو : الارتباط بالزواج ذلك الرباط المقدس ، الذي يقوم بوسائل غير مقدسة ! والتعاطف مع القضايا القومية الكبرى مثل قضية احتلال العراق للكويت في عام 1990 ، لا يجيء دفاعا عن المصالح العليا ، ولا يجيء لأسباب وطنية مخلصة بقدر ما جاء خوفا علي الأحلام التي لن تتحقق مع هذا الغزو .
بطل قصة ( ليلة كان الغدر) يحلم بالسفر الي الكويت ، وحين سمع نبأ احتلال الكويت قال : " انكوي قلبي ، وظللت أبكي وأبكي " ص100
إن الغدر لم ينل الدولة بمفردها ، بل نال حلمه ، ليصبح مثل صديقه العائد من الخارج محملا بالهدايا والمال يقول " الأسر الكبيرة ارتضت بهم أزواجا لبناتها ، عقارات وأطيان ، محلات وسيارات وفلوس في البنوك ، حياة ناعمة وهادئة ومستقرة ص 99 .. مصالح طبقية .. بالمدخرات تذوب الفوارق وتتلاشي الحواجز .
والزوجة في قصة ( حكاية مصرية ) تحث زوجها علي السفر للخارج ، ليستطيع مواجهة تكاليف الحياة ، وتمارس سطوتها كامرأة نكدية ، حتى يلين عزمه ، ويستجيب لرغبتها ، لكنه لا يهتز أمام ثورتها اليومية ، ويذهب الي الجريدة التي بين يديه يقرأ فيها عله ينسي .. وحين يُسمي الكاتب قصته باسم ( حكاية مصرية ) فانه يريد أن يقول : إن تلك الحكاية هي حكاية كل يوم .
وفي قصة ( أم دغش) يقدم القاص ( مجدي جعفر) عملا محكم البناء – بالفعل – ويعد نموذجا جيدا ، يقاس عليه . فهو يقوم بالتمهيد للحدث ، ويضع المقدمات التي تُفضي - حتما - الي النهايات ، أم دغش تجمع ريش ( الحمام) وتصنع منه جناحين كبيرين ، والراوي - في القصة - يتساءل لماذا تفعل أم دغش هذا !؟ أتريد أن تطير بهذين الجناحين ؟ ويمر الموقف ، لينمو داخل القصة ، وقرب النهاية ، تصطدم عربة طائشة بولدها ( دغش) فيموت علي الفور ، فتقف أم دغش أعلي قمة البرج تلبس الجناحين ، يغطي الريش والزغب مناطق كثيرة من جسمها العاري ، وحولها الحمام يحلق وينوح ، صحنا فيها أرجعي .. ارجعي يا مجنونة ، وتنتهي القصة . أما لماذا فعلت أم دغش هذا ؟ ولماذا أقدمت علي الانتحار ؟ لأنها تزوجت عجوزا مزواجا بغير رغبتها ، أجبرها أبوها بمساعدة العمدة وطبيب الصحة علي الزواج من الرجل الخليجي ، الذي أخذها معه لتعيش عشرين عاما غير سعيدة .. تحلم كل يوم بالعودة الي مصر ، لكنها لا تستطيع .. وكان ( دغش) السبب الذي جعلها تتمسك بالحياة ، برغم مطاردة حلم العودة لها دوما ، وهي تجد مع المصريين الذين تقوم بتسكينهم في حجرة السطح ، الأمان ، والجسر الذي يربطها ببلدها مصر .
السفر الي خارج الوطن باعتباره وسيلة للنجاة من الفشل ، أو النجاة من الموت ، هو موت معنوي يماثل الموت الحقيقي ، ولذلك يقوم الكاتب بالمزاوجة التقليدية بين لحظتّي : الموت والحياة باعتبارهما وجهين لعملة واحدة .
في قصة ( الخروج) نجد الخروج من الوطن يقابله خروج من الحياة ، الأم العجوز تموت في نفس اللحظة التي تُقلع فيها طائرة الابن المسافر الي الخارج بحثا عن أسباب الحياة المفتقدة في بلاده فقّد جاءه عقد عمل ، وأمه لم تكن راضية ، وتقول قولتها الحكيمة : من خرج من داره قل مقداره ، وتضرب له مثلا بأبيه الذي رفض الاستيلاء علي الذهب والعملات القديمة حين وجدها داخل صندوق مومياء فرعونية ، بعد أن ضرب الأرض بفأسه.. و رفض - كذلك - مكافأة الحكومة نظير أمانته ، وحين مات لم يترك لولده إلا الفقر ، لكن العجوز راضية ، وتري أنه قد ترك له الكثير من القيم ، التي هي أثمن من المال ، لكن الابن غير راض يسعي للتغيير ، وكذلك زوجته التي تشجعه علي الرحيل . البطل في القصة من جيل آخر لا يحمل نفس ملامح الأب ( لم يزل صامتا يحملق في صورة أبيه يفتش عن ملامحه) ص 33
وقصة القادم تذكرني بموقف المسئول الإسرائيلي في مسرحية ( سعد الدين وهبة ) المحروسة 2015 الذي طلب من الفلاحين في المحروسة زراعة السحلب والجنزبيل والمغات بدلا من القمح والقطن !! لأن سعد الدين وهبة أراد التحذير من مغبة مواصلة التطبيع الزراعي مع إسرائيل ، الأمر الذي سيوصلنا بعد سنوات قليلة قادمة ، للفقر والجوع ، ومن ثم يصبح من السهل علي الأعداء التحكم والسيطرة وامتلاك زمام الأمور . ومجدي جعفر في قصة القادم يجعل الزائر الأنيق الذي جاء الي القرية بعد طول انتظار ، يدعو الناس لزراعة الورود بدلا من زراعة القمح لأنه بني مصنعا للعطور في القرية ، وهاهو مسئول الزراعة يصرخ في الناس متشنجا مبينا لهم أهمية زراعة القمح ، ولا حياة لمن ينادي ، لأن الناس انجذبوا الي الزائر ، ظنا منهم بأنه سيحل مشاكلهم المستعصية علي الحل ! وعلي الرغم من تحذير شيخ القرية لأهلها من مغبة الاستسلام لرغبات الزائر ( الخواجه) نجدهم يندفعون اندفاعا للترحيب به ، واستقباله " انه قادم ومعه هدايا كثيرة ، سيعطي كل طفل في القرية جلبابا وحذاء ، وبنطلونا ، ويوزع حلوي وشكولاته ، ويذبح كل يوم عجلا ، يوزع علي أهل القرية الفقراء ويدفع لهم مصروفات المدرسة ، ويشتري كتب وكشاكيل ، سيزوج البنات ويعلم الأولاد ، يشغل المتعطلين ، يبني دورا للمحتاجين ، يعطي المحروم والمسكين وابن السبيل "ص22
العوز والحاجة تدفع الإنسان الي التنازل ، وتؤدي به الي الضعف ، ومن ثم يكون من السهل علي الأقوياء القادرين السيطرة عليه ، ودفعه لتحقيق أهدافهم ، وتلك الفكرة طرحها النظام العالمي الجديد في علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر من يستطيع العيش في هذا العالم هم الأقوياء وليس الضعفاء . وحين يلجأ الكاتب الي استخدام الفعل المضارع في القصة ، فانه يحذرنا – بالفعل – من مغبة الاندفاع نحو الآخر بغير روية ووعي وأن هذا الذي يحدث ، يحدث الآن وليس في أي وقت آخر .. ( الصرماتي ) الذي كان لص أحذية المساجد ، يتحول الي ماسح أحذية ، ثم صرماتي قبل هزيمة 67 ، وبعدها يستفيد من أجواء الهزيمة ، ويشتري بضاعة محلات الأحذية بأثمان بخسة حيث إن الكل يعيش في مأتم ، ولا يشتري شيئا ، لكنه بعد انتصار أكتوبر 1973 ، وبعد سياسة الانفتاح ، استأجر محلا كبيرا في المدينة الواسعة ، حمل اسمه ، وأصبح – بالطبع – تاجرا مرموقا.
الصرماتي نموذج حي للطبقات الطفيلية التي استفادت ، وعملت علي إفساد الحياة من حولنا .

مازلنا نتحدث عن أثر المتغير الاقتصادي علي الشخصية المصرية ، ونتتبع – مع الكاتب – طرق المعالجة المختلفة والمتنوعة لهذا الموضوع . وتأتي قصة ( حكاية الولد والبنت ) ليعارض بشخوصها ، قصته السابق الإشارة إليها ، وهي قصة ( لماذا) ، فالولد في هذه القصة لم يتنازل ، ويقبل العمل بصحبة راقصة ، بل تمسك بالقيم ، ولم يتخل عن مبادئه ، وتمسك بمواقفه تجاه مشاكل العالم المختلفة ، يفعل هذا برغم أن حبه للفتاة أضحى مهددا ؛ نتيجة لسنوات الانتظار الطويلة ، ولم يستطع فيها أن يفعل شيئا ، يقربه من الفتاة التي تحبه ، ويحبها ، البنت واقعية ، تحدثه عن السنوات التي مرت ، والصعوبات التي ينبغي مواجهتها والولد رومانسي شاعر ، تحدثه عن الزواج ، فيحدثها عن مؤتمر السلام ، تفكر في البيت والاستقرار والأسرة ، وهو يفكر في الوطن . نقطة الالتقاء بينهما منعدمة ، ولذلك فان العلاقة تنتهي بشكل طبيعي وتلقائي ، ويبدو أمامنا الكاتب وكأنه يترجم - قصصيا - ما ذكره الشاعر العراقي ( بدر شاكر السياب) في إحدى قصائده حين قال :
( كان وهما هوانا
فان القلوب والصبابات
وقفٌ علي الأغنياء (

إن الكاتب ( مجدي جعفر) يملك القدرة علي التقاط اللحظة القصصية ، وتنميتها وتطويرها ، وابراز ما فيها بما يثير اهتمام القارئ . والأبطال في القصص يتصرفون – أيضا- بطريقة تثير الاهتمام والترقب ، فهناك شخص يتزوج امرأة من الجان ( جنية ) في قصة ( الجني آدميون) .
القصة تبدأ بتقديم المشكلة مباشرة ومؤداها : أن أهل القرية لا يجرءون علي بناء البيوت بالقرب من الخرابة المهجورة ويتصورون أن أصواتا تنطلق في الليل منها ، ويعتقدون أن الجان يسكنها ، ويأتي العمدة ليخرج عن الأعراف والتقاليد ، ويتحدي إرادة الخائفين ، ويقرر الزواج من الجنية ( سارتاليزا) . ومع ذلك ازداد خوف أهل القرية من سكان الخرابة ، وكانوا يبغضون قاطنيها " فهم الذين ينشرون الفساد ، ومن معدن غير معدننا " وظلت حياة العمدة مع الحبيبة تسير سيرا طبيعيا إلى أن تلد طفلا ، هو مزيج من الطين والنار !! ، ويعلن العمدة أنه مؤسس الجنس الجديد ( الجني آدميون) ، فيكون رد فعل أهل القرية عنيفا ، حين انتفضوا واسكنوا صدر العمدة عدة رصاصات.
إن هذا الموقف الغرائبي يثير اهتمام القارئ ، ويدفعه إلى التفكير للوصول إلى المعني ، فالكاتب لا يقصد من خلال الفنتازيا تحقيق المتعة فقط ، بل يريد توصيل شيء ما إلى القارئ ، ما هو هذا الشيء؟؟ إنها المخاطر التي يتعرض لها الإنسان المعاصر من قِبل القوي الخارجية التي تريد السيطرة ، فتلجأ لأسلوب طمس الهوية بمساعدة المتعاونين معها ، والمستفيدين منها . والنهاية تعكس موقفا إيجابيا للجموع الذين رفضوا الانصياع ، وقاوموا المتعاون والمستفيد .
القاص هنا مولع بالحدث الذي يستدعيه من الخيال ، والحدث هو خروج عن المألوف ، لكن هذا الخروج قد يُعرض القصة للخطر كما حدث مع قصة ( أصداء رحلة شاب علي مشارف الوصول ) تلك القصة الرومانسية البالغة الرهافة والشاعرية يتناول فيها تجربة شاب أحب امرأة حبا رومانسيا جميلا ، وبادلته
المشاعر ذاتها وبنفس الدرجة ، نراه يتحدث إلى طبيبه ، فنشعر

منذ البداية ، أن ثمة شيء ما قد حدث ، لكن الكاتب يستطرد مع بطله ، وبأسلوب التداعي الحر يدفعه للحديث لنعرف أنه مر بتجربة حب رومانسية مع فتاة رآها علي الشاطئ، يعمل مهندسا وهي شاعرة ، ومن خلال أسلوب التداعي نعلم أنه ابن لعالم مصري تزوج أمريكية ، أثناء وجوده هناك ، وعندما قرر العودة إلى مصر اغتالته رصاصة ، مما تسبب في دخول أمه الأميركية للمصحة النفسية ، وفي نهاية القصة نعلم أن سبب أزمته : زهد الحبيبة المفاجئ ، حيث أخذت تحدثه عن العالم الآخر ، فبدت أمامه ( مجذوبة) ثم فاضت روحها في ثوان معدودات . والقصة علي هذا النحو تمتلئ بالأحداث والمواقف ، وتعكس بُعدا ميلودراميا غير واضح ، هي ممتلئة بالشجن نعم ، لكنها تحتوي علي استطرادات كثيرة ليست في صالحها ، فاللغة الوجدانية التي جاءت بضمير المتكلم يمكن ألا تتوقف نهائيا ، لأن الموقف القصصي أو الحدث ساكن وغير متحرك ، وإذا تحرك فان حركته تكون فجائية ، وبلا مبرر واضح .
هذا ما قصدته من عبارة إن الحدث حين يكون خروجا عن المألوف ، ولا يستطيع الكاتب السيطرة عليه ، قد يُعرض القصة للخطر ، فالموقف الذي وصلت إليه الحبيبة في القصة ، وأدي إلى موتها لا مبرر له ، تشعر أنه ُمقحم من أجل إبراز أزمة الشخصية ليس إلا ! فالمرأة لم تتعرض لمشكلات معقدة مثل تلك المشكلات التي تعرض لها وواجهها في حياته : مقتل الأب .. دخول الأم إلى مصحة الأمراض النفسية .
ينبغي علي كاتب القصة القصيرة الانتقال من المجرد إلى الملموس بتلقائية ، تجعلنا مهيئين لتلقي تجربته ، واستقبالها بشكل جيد .
وفي قصة ( نجم إذا بزغ ونجم إذا هوي ) يعني الكاتب
بالمقطع الأول نجم إذا بزغ ., نجم العلم ، وبالمقطع الثاني ( نجم إذا هوي) نجم التخلف ، انه الصراع الأزلي بين العلم والجهل فشيخ الجامع توقف عند الابتدائية الأزهرية يُعلن أمام الناس أنه رأي في المنام الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد أمره قائلا : قم يا إمام ، في صحن دارك معزة عشار من دون أن يمسسها تيس الذي يتشكل في بطنها جدي مبروك آية للناس ، وفي لبنها شفاء العاقر ستلد بإذن الله ، إذا شربت من لبنها ، والكسيحة تمشي والعانس تتزوج !! ص111 والناس يتقاطرون أمام بيت الشيخ قطارات وصفوف ، في نفس اللحظة هناك نجوم تبزغ ، نجوم العلم الذين تحملوا امتعاض أبناء المدينة من ملابسهم ، وتأففهم من لهجتهم الريفية ، تلك النجوم سُتزيل مساحات العتمة التي انتشرت داخل القرية ، ويمثلها سلوك الشيخ المتخلف .
وفي نفس الإطار ، تدور أحداث قصة ( طريق الندامة) التي ينتصر فيها الكاتب لفعل المعرفة ، والبحث الدائم عنها والسعي إليها مهما كانت المخاطر ، ومهما كانت العقبات ، فطريق الوصول إليها لن يكون هو ( طريق الندامة ) كما يظن معظم الخانعين الكسالى من أهل القرية ، الذين تابعوا - عن بعد - وبلا مشاركة فعلية ، محاولة الفتي والفتاة تخطي الصعاب ، ومتابعة ما يحدث علي الجانب الآخر من القرية ، ذلك الجانب الذي يعتبره أهل القرية جالبا للمخاطر.
القصة تؤكد علي معني هام : إن سمة الإنسان الإيجابي هي الجسارة ، وسمة الإنسان الاتكالي هي الركون إلى الخوف والكاتب ينتصر لسمة الجسارة ، ويشجب الخوف .

البعد السياسي حاضر في معظم قصص المجموعة ، لأنه يعكس رؤية وموقف الكاتب تجاه الحياة ، وتجاه الناس ، ويجعله قادرا
- في الوقت نفسه- علي فهم طبيعة العلاقات التي تربط الإنسان
بالإنسان ، والتي تربط الإنسان بالسلطة ، ربما يكون البعد حاضرا بشكل مباشر كما في قصص ( بنات أمريكا – المهر ) وربما يكون حاضرا في الخلفية كما في معظم القصص التي أشرت إليها .
والكاتب حين يستفيد من هذا البعد ينأي عن المباشرة ، باحثا عن الموقف الذي يحمل فكرته ، وهو موقف قصصي في المقام الأول ففي ( بنات أمريكا) يعكس ولع وانبهار البعض بالنموذج الأمريكي رغبة في تحقيق ومعايشة الحلم الأمريكي المسيطر علي معظم شبابنا .. إنها الهيمنة في أقسى صورها ، أن تُصدر للعالم الثالث صور الحلم الأمريكي ، المُدعم لفكرة الاستلاب التي أشرنا إليها من قبل . صاحب المقهى مفتون بالبنت الأمريكية ، التي يراها من خلال شاشة التلفزيون ، مفتون بجمالها ، وجسدها ، وفي نفس الوقت هناك ولد في المقهى يزعق منفعلا أثناء مشاهدة مباراة بين بنات الصين وبنات أمريكا " لا للهيمنة الأمريكية ، ولا للقطب الواحد وراح يصب جام غضبه لرواد المقهى عن تحيز أمريكا الأعمى لإسرائيل وموقفها من العراق وليبيا ، وشفطها لأموال الخليج " ص121
ونبرة القصة زاعقة ، حتى أنك تشعر أن الفتي الذي يزعق بالشعارات هو المؤلف نفسه ، وليس سواه !! إن البُعد السياسي في القصة - أي قصة - ينبغي أن يتحول إلى فعل ، أو يأتي في صورة فعل .
وفي قصة ( المهر ) يقدم القاص مقابلة بين موقفين متعارضين : الموقف الأول يتعلق ببطل القصة المحارب القديم ، الذي استشهد أبوه في حرب يونيه 67 ، والموقف الثاني يتعلق بسكان الشقة المواجهة له ، هؤلاء الذين لا ينامون في الليل ، ويمارسون متعة السهر والشراب والرقص حتى الصباح ، من خلال هذه المقابلة المتعارضة ، يمكن الوصول إلى المعني ، يراقبهم البطل أثناء
وقوفه في بلكونة حجرته داخل اللوكاندة التي نزل فيها .

وفعل المراقبة يفجر في داخله الذكريات التي حدثت في الماضي إبان هزيمة يونيه 67 ، وما بعد انتصار أكتوبر 73 ، الصخب الذي يراه صخب فارغ ، والصخب الذي عاشه ومر به يتعلق بشرف الوطن ، ويتذكر كيف أن حبيبته ( هند) علقت زواجها منه علي شرط تحرير سيناء أولا ، لتكون مهرها ! ويتذكر زميله المسيحي المتزوج حديثا ، والذي فقد رجولته ، بعد فقد سيناء ، ولم يستطع الاقتراب من زوجته إلا بعد تحريرها .
ما يؤخذ علي هذه القصة هو أنها أغفلت أشياءَ كثيرة منها: يتحدث الراوي ويذكر أنه كان يعيش في شقة مفروشة قبل ذلك ، لكنه الآن ينزل في لوكاندة .. ولا نعرف لماذا نزل إلى هذه اللوكاندة ؟
والد البطل استشهد في حرب يونيه ، وفي نفس الوقت شارك الابن في نفس الحرب .. كيف ؟!
المباشرة في استخدام الرموز في القصة : سيناء مهر هند – الزوج يفقد رجولته حين ُفقدت الأرض.
لقد لعبت اللغة دورها في إبراز المقابلة بين ما يحدث الآن ، وما حدث بالأمس ، بين الذين لا هدف لهم في الحياة سوي المتعة وبين الذين هدفهم هو تحرير الأرض . المقابلة بين السلب والموجب . يقول: " فتي ينظر لفتاة بشبق ، ينظر لعسكري إسرائيلي بشذر ، يلف خصر الفتاة بيديه ، بيديه الممتلئتين يلف عنق العسكري يضغط الفتي يد الفتاة ، يضغط علي عنق العسكري ، يلثم عينيها ، ينبش عينيه بأظافره ..
- رائحة الشواء تملأ انفي يا هانم
الجوع يقرص أحشائي يا أمي .. ص 54
ونتيجة لهذا المجتمع المادي ، يتلاشي الإحساس بالتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة ، الولد الصغير والجد العجوز كلاهما
ينتظران اهتمام الآخرين بهما ، فهما – معا- في حاجة إلى الحنان والدفء المفتقدين ، بسبب انشغال الجميع بالعمل ، الطفل يسأل الجد : متي يتفرغون لي يا جدي .. فأنا أنتظر ، ويخبره الجد : وأنا أيضا ص 95
ويعالج القاص في قصته ( الثمن ) مظهرا من المظاهر التي تعكس الانهيار الأخلاقي الذي حدث في المجتمع الريفي ، وأدي إلى اختلال منظومة القيم – كما أشرنا إلى ذلك من قبل – الفقر يدفع الأطفال الصغار للدخول إلى ( جنينة البيه ) لسرقة الفاكهة لكن الحارس ( حمد) يطاردهم ويعنفهم ، وفي نفس الوقت يستغل براءتهم وينفرد بالطفلة ( ليلي) التي نما في صدرها ( قرصين من العجين) ص14 داخل الجنينة ، تخرج بعدها وفي حجرها فاكهة كثيرة ! والقارئ يعرف جيدا ما يحدث بين ( حمد) وليلي الصغيرة.
انه يغتال براءتها ويعطيها الفاكهة ثمنا لذلك ،وصديقها الصغير الذي هو راوي القصة ، لا يعلم - تحديدا - ما الذي يحدث؟ هو فقط يراقب ، ويصرح بمخاوفه من مطاردة ( حمد) له ، وللأولاد حين يأتون للحصول علي الفاكهة .
اللغة مكثفة جدا ، وإيحائية ، وسلسة .. فقط ذلك الحوار المكتوب بجمل وعبارات رصينة لا تتوافق وطبيعة اللغة القصصية المستخدمة
خبريني ليلي عما بك ، فأنا أفعل المحال من أجلك ص12
هل أنت ليلي أم عفريتتها ، خبريني ، ماذا فعل بك حمد؟
الضمير المستخدم في السرد هو ضمير المتكلم .. الراوي هو بطل القصة في نفس الوقت ، أي أنه مشارك فاعل في الحدث ، ومن ثم يقوم بكشفه ، والكاتب استطاع بهذا الضمير أن يقدم قصة جيدة لم تقع في الآفة التي يمكن أن تصيب أي قصة تعتمد علي ضمير المتكلم ، وأعني بها آفة الرصد الخارجي للحدث ، أو الموقف ، أو المشاعر.
فحين يقول الكاتب علي لسان الصبي في نهاية القصة " تمنيت لو أن معي سكينا أغمده في قلبه " بعد أن رأي ( حمد) يتسلل ومعه ليلي إلى الجنينة ، هنا لم يصرح لنا لماذا يريد إغماد السكين في قلبه ، لأن القارئ يعلم الإجابة ، التلميح لا التصريح سمة من سمات القصص الجيد .

هناك مجموعة من القصص الأخرى التي تحتاج إلى وقفة من الكاتب ، لأنها مجرد إرهاصات أولية لم تكتمل بعد ، وما زالت عناصرها الفنية تحتاج إلى تطوير خاصة علي مستويي : المعالجة / اللغة . منها ( العرافة – شموس- أربع قصص قصيرة جدا) .
قصة العرافة لا تقوم علي فكرة محددة ، ومن ثم فان الهدف فيها يضيع ، والمعني يتلاشي، واللغة في هذه القصة جاءت غاية لذاتها ولم تكن أداة للتوصيل ، فماذا تعني عبارة مثل : من منتصف المسدس خرج مستقيم ليلاقي نقطة تقاطع المستقيمات المتوسطة في المثلث وخرج مستقيم آخر من منتصف المسدس ليلاقي نقطة تقاطع القطرين في المربع وهلم جرا من المستقيمات اللامتناهية التي خرجت من المسدس ، وتمكنت من التحكم في كل الأشكال ص 89
واللغة بشكل عام ، لغة قصصية جيدة ، حيث إن الكاتب لم يستطرد ولم يلجأ إلى الحشو الزائد ، ولم يكن مغاليا في جمالياتها غير الفنية ن هو يبحث عن الجملة الموحية التي تحمل توترا يتساوي مع توتر اللحظة ، أو الموقف أو الحدث ، أو الشخصية .
ونراه يلجأ إلى المفارقة اللغوية - أحيانا – ليعكس مفارقة أخري هي مفارقة الموقف القصصي كما حدث في قصة ( المهر) وكمثال لهذا البعد استحضر العبارة التالية :
" فتي ينظر لفتاة بشبق ، ينظر لعسكري إسرائيلي بشذر ، يلف خصر الفتاة بيديه ، بيديه يلف عنق العسكري .. الخ ص54
ومن قصة ( حكاية البنت والولد) قال الولد وهو يفرك يدي البنت : عقد مؤتمر السلام ضروري
قالت البنت : عقد القران أكثر ضرورة لقطع السنة الناس .
الدولة الفلسطينية ضرورة لإيواء الفلسطينيين بعد طول تشرد. - إيجاد الشقة ضرورة لتأوينا بعد عناء الانتظار الطويل ص63
ويستمر الحوار داخل القصة علي هذا النحو . كل يفكر فيما يشغله وأحيانا نجد لغة راصدة ، وكنموذج لها نقرأ هذا المقطع من قصة ( ليلة كان الغدر) : انطلق من زريبة بعيدة خوار بقرة ، ونهق حمار مربوط ، في الشارع بجوار عربة حنطور ، ونهضت امرأة من نومها وصعدت إلى السطح تحمل فوق رأسها قصعة لمت بداخلها روث البهائم لتصنع منه وقودا ، وامرأة أخري لفت رأسها بفوطة ، وفتحت شرفتها بحذر .. الخ ص 98 هذا الرصد يُعد خارج السياق القصصي ، طالما أنه لم يُضف جديدا ، وطالما أنه قابل للاستمرار والتداعي .ويلجأ الكاتب إلى المزاوجة – أحيانا – بين العامية والفصحي في لغة الحوار .
من قصة القادم : سأبعث لزوجي ليأتي من الخليج..
خيرا تفعلين يا أخت ، ملعونة الغربة ، وبكره الأرض تطلع الذهب.
وأنا سأبعث لزوجي في الأردن.
والنبي حيلهم يتهد بره ،ويقل مقدار هم ويضيع عرقهم ص 21
وأحيانا يلعب الحوار في القصة دورا في كشف المفارقة بين موقفين متضادين كما حدث في قصة ( حكاية الولد والبنت ) التي أشرنا إليها من قبل ، الولد يتحدث عن شيء ، والبنت تتحدث عن شيء آخر تماما ، ولا يلتقيان عند نقطة واحدة ، لكن الحوار المباشر يكون زاعقا أثناء كشف انفعالات الشخصية . والحوار في القصة مجرد أداة وليس عنصرا رئيسيا .
وفي بعض الأحيان نلمس جنوحا بلغة الحوار ، بحيث إننا لا نجد علاقة بين الحوار والشخصية ، أو بين الحوار والموقف ، كما حدث في قصة ( بنات أمريكا) يقول صاحب المقهى موجها خطابه إلى الرواد : " تا الله إذا اشتهيت التفاح الأمريكاني فهناك خدودهن ، وإذا أردت قمح أمريكا فهناك شعورهن ، البنت منهن تبدو سامقة كجبل ، ولكم تمنيت أن أرقد في حضن جبل " ص122
والسرد في قصص المجموعة اعتمد علي ضميرين رئيسيين هما ضمير المتكلم ، وضمير الغائب ، وكان ضمير الغائب هو الغالب حيث إن الكاتب يعالج موضوعات لا يكون طرفا فيها ، بل يكون نائبا عن الغير . وحين يصبح الراوي جزءا من الحدث ، أو شاهدا عليه ، يلجأ القاص إلى استخدام ضمير المتكلم ، وهناك تداخل بين الضمائر المتعددة : المتكلم والمخاطب والغائب في قصتّي : ( أصداء رحلة شاب – كسوف) هذا التداخل تم بشكل فني ، وبما يتوافق وطبيعة التجربة ، وطريقة المعالجة ، والتداخل أحدث تدفقا في السرد وساعد علي سرعة الإيقاع ولهاث اللحظة .

وفي النهاية نستطيع أن نقول إن الكاتب ( مجدي جعفر) يستقي موضوعاته من الواقع المحيط به ومن الحياة ، متصل بالعالم الذي ينتمي إليه ، عالم البسطاء الذين يحلمون بغد أفضل ، ويسعون من أجل تحقيق الحلم ، ما شاء لهم السعي ، وأحيانا يركنون إلى الرضا والقناعة، متصل بأمثالهم الشعبية المفعمة بالدلالة ، المترعة بالمعاني ، ويقدم شخوصا يملكون جسارة الإقدام والمواجهة مهما كانت المخاطر ، ومهما كانت النتائج .
في قصة طريق الندامة يقول: الكل يخشي الاقتراب منه ، الأمهات يحذرن صغارهن ، أصر هو ، كما أصرت هي علي أن يقطعاه ولو كلفهما العمر ، قال : سنمضي بقوة لا تفتر ، وعزيمة لا
لا تكل ص16
في (الثمن) : أمسك بنا من قبل مرات وأشبعنا ضربا ، ولكنا أبدا لم نكف عن التسلل إلى الجنينة طمعا في سرقة العنب والبلح والبرتقال والخوخ والليمون ص11
وفي قصة ( الجني آدميون) تتم مواجهة العمدة ، ويُقتل بسبب خروجه علي الأعراف ، حين تزوج من الجنية ، التي ولدت طفلا هو مزيج من الطين والنار ..



هوامش :
________________________________________
1) أصداء رحلة شاب علي مشارف الوصول – مجدي محمود جعفر – أصوات معاصرة – العدد 52 – السنة العشرون – يناير 2000 – ديرب نجم .
2) د. خليل أبو ذياب – ناقد فلسطيني – أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالرياض – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ( المرجع السابق) ص 139
3) المرجع السابق ص 140
5) المسألة اليهودية – ترجمة د. أحمد الخميسي – مجلة أدب ونقد – العدد رقم 69 – مايو 1991

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى