مجدي جعفر - الجني آدميين

( 1 )

لم يجرؤ أحد من أهل قريتنا على بناء دار له بالقرب من الخرابة ، التي تتوسط القرية تقريباً وتنطلق منها أصوات في الليل تبث الرعب في القلوب ، الكل يخشى الاقتراب منها ، والأمهات يحذرن صغارهن ، قال شيخ المسجد يسكنها الجان.
.. على فتراتٍ متباعدة تمتلئ ساحة القرية بالناس ، يفدون إليها من كل الحارات ، ويدور الهمس واللغط ، وتعلو الأصوات ، ويعلنون الاحتجاج على سلوك الجان ، قال الخفير : إنه أطلق عدة أعيرة نارية وكلها اخترقت أجسادهم ولم يخر أيٍ منها صريعاً ، وأكد كلام الخفير عدد لا بأس به سمعوا دوى الرشاش فانتفضوا من مضاجعهم .
في الهزيع الأخير من الليل يتسللون إلى حظائر المواشي يسرقونها ، ويخطفون الماعز والخراف من الحقول ، يقول شيخ المسجد : " الجان يحن لسيادة الأرض فقبل أن نكون كانت الأرض تمتلئ بهم ، استوطنوا الأرض عشرات الألوف من السنين ، فسدوا فيها ، وسفكوا الدماء ، حلت عليهم لعنة الله ، فاستبدل بهم الملائكة ليعبدوا الله فيها ، ويسبحون بحمده ، ثم تشكلنا من أديم الأرض ، ونفخ الرب فينا من رُوحه ، صرنا نحن البشر من الطين والنور ، صعدت الملائكة للسماء ، وهبطنا نحن الأرض ، وعصى إبليس الرب ، أبى أن يسجد لآدم واستكبر فطرده الرب ، وأمهله إلى يوم البعث ، ستمتلئ جهنم به وبمن تبعه ".

( 2 )

كانت الشمس قد جنحت صوب الغروب ، والناس يفترشون ساحة القرية ، معظم عائلات الحارات توافدت ، فالحدث جدَّ خطير ، لم يسبق للقرية أن شهدت غزواً من الجان بهذه الوحشية ، فضمت بيتين للخرابة عنوة وقسراً ، بعض العائلات تقع بيوتهم بالقرب من الخرابة وهؤلاء أشد الناس خوفاً
فهم واجهة الخطر المباشر، والبعض تقع منازلهم بعيدة قليلاً ، والبعض يميل في سُكناه إلى الأطراف ، والبعض البعيد يرى أن الخطر قادم إليه على المدى البعيد ، ثمة شعور مشترك ممزوج بالرعب يلف الناس جمعياً ، الشيخ يعلن في الناس : وجودهم في هذه المنطقة يشكل خطراً ، انتهاكهم لحرمة المسجد لا يجب السكوت عليه ، فهم يحلمون باستيطان هذه القرية ، يرون أنهم أحق بها ، فضل الله آدم على إبليس، تحدى الله في ضعف آدم، هبط معه إلي الأرض ، لا تخزونا يوم البعث .. وقبل أن ينهي الشيخ حديثه ، أذاع الخفير في الناس أن العمدة قرر الذهاب إلى الخرابة ليلتقي بالأستاذ عفريت ، دهش الناس في البدء ، وظنوا أن الخفير والعمدة يمزحان ، وقبل أن تزول آثار الدهشة ، ذهب العمدة والخفير في موكب كبير ، وتفرقت الناس، منهم من وقف خلفه يؤيده وقال :
جرئ ، ومن عاداه وقال : خائن لا يعنيه غير مصلحته ، وخرج على العُرف والدين ، ومن وصفه بالجنون ، وفوجئ الناس ببيان من العمدة أذاعه الخفير : " أن السيد العمدة قرر الزواج من الفاتنة الجنية الآنسة " سارتاليزا ".
أصبح أهل حارتنا لا يخافون من الخرابة بعد صلة النسب الجديدة ، ولكنا نجد شيئاً قوياً في داخلنا يجعلنا نبغض الخرابة ونبغض قاطنيها ، فهم الذين ينشرون الفساد ومن معدن غير معدننا ، والشيخ أول من أفتى بأن زواج العمدة من " سارتاليزا " باطل وكان أول من دفع الثمن لتمرده على العمدة وحرمه المصون الجنية هانم .
" سارتاليزا " بجسدها العملاق تمشى بجوار العمدة ، يجوبان في الحارة وقتما يحلو لهما ، ويذهبان للخرابة وقتما يريدان ، وأكد بعض العارفين من أهل حارتنا همساً : " أن العمدة كان مخموراً بجمال " سارتاليزا " وأنهم هناك رووه الخمر الجهنمية فذهب عنه العقل ، وأن زواج العمدة من الإنس بسارتاليزا من الجن سيقرب الهوة بين النقيضين وسيكون بداية للتزاوج من بعض ، ومن نسلهما يخرج جنس جديد يسود العالم من الطين والنار ، من الجن والإنس يسمى ( بالجني آدميين ) .
العمدة و سارتاليزا أيامهما كلها شهر العسل ، سارتاليزا قالت ، تحرر من عادات البشر وحماقتهم ، يجب أن ترقى إلى مستوى الجان ، سارتاليزا قالت وقالت : إني حامل !

( 4 )

على بساط الريح يحلقان ، وعلى أنغام الموسيقى يتمايلان ، يشدوان بأغنيةٍ رقيقة حالمة ، بطل من الإنس وبطلة من الجن حققا المستحيل ، قهرا التراب والنار ، والتقيا ، وتسلقا الجبال وعبرا البحار ، وتخطيا الزمان والمكان ، تُدق الطبول ، وتُعزف الألحان ، ويعلن الخفير في الناس : أن العالم الجديد على بشائر التكوين ، سارتاليزا في الشهر الأخير ، ودبَّ الرعب في قلوب أهل حارتنا ، على المدى البعيد سيتلاشى الجنس البشرى ، ولم يتصوروا أبداً أن يجئ جنس آخر ليحل محلهم .
وضعت سارتاليزا المولود الجديد ، مزيجاً من الطين والنار ، وأعلن الخفير أن العمدة سيقيم حفلاً كبيراً في ساحة القرية يحضره الجان والإنس بمناسبة قدوم المولود الجديد مؤسس الجنس الجديد ( الجني آدميون ) .
وغلت الدماء في عروق أهل حارتنا ، وفى اليوم الموعود ، وقف يحمل المولود الجديد ، والفرحة تشع من عينيه ، وأهل حارتنا غير مصدقين ، فانتفض نفر منهم - وأسكنوا - صدر العمدة عدة طلقات .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى