إدريس على بابكر - تذكرة حلم.. قصة قصيرة

الركود مس عصب الحياة فاصاب جسد المدينة بالحمى، الفئة الأكثر تأثيراً الحرفيين و العمال و المزارعين و أصحاب المهن الهامشية، قالن بائعات الهوى في همس الليالي حتى بضاعتهن أصابها الكساد، الأماني المؤرقة التهمها جشع الغول فاكتظت شوارع المدينة بالبطالة و التشرد في فراغ الضياع.
الرضى معلم البناء الماهر تهدمت جزء من آماله تلظي بصفقات خاسرة من أطماع المقاولون السماسرة و غش المضاربات حاصرته الديون فاهدرت كرامته و فقد ثقة الأخرين .
في ليلة حزينة الهموم تعصف به من كل جانب كادت أن تشل تفكيره بعد ما تراكمت عليه متأخرات الإيجار و هدده صاحب المنزل بالطرد، يسأل نفسه ماذا يفعل؟ و زوجته الصابرة على وشك استقبال مولودها الجديد، بعد تفكير عميق وجد ثقب ضوء للهروب من الواقع المظلم، وجد الحل في بصيص من الأمل، ستف حقيبته و قرر أن يغامر مثل بقية الشباب الفارين، أخبر زوجته عن سفره المفاجئ بشأن عمل في اقاصي بعيدة ريثما يخرجه من الورطة.
خرج الرضى من منزله منذ الصباح الباكر إلى جهة مقصده، حط في الكراج كانوا سماسرة التذاكر يتنازعون على المسافرين بخفة دم و رشاقة، تتعالى الأصوات الجهورة من هنا وهناك عطبرة.... العبيدية....شندي.... ابو حمد... الخ، ركب الرضى في بص فخيم السائق حريص أن تكتمل عدد الركاب مما أدى إلى تأخير الرحلة من الزمن المحدد، بعد ثواني تحركت الرحلة كل الركاب في حالة صمت إلا ضجيج ثرثرة من إمرأتان مجاورتان، السائق أراد أن ينشل الجميع من سرحانهم حينما أدار المسجل بصوت عالي يبث في اغنية حزينة تدغدغ في الأعماق عزفت على وتر السكون، تغلغل الحزن داخل المشاعر توحدت عواطف كل الركاب حينما غني المغني الشاب بصوته الحزين صادحآ :
لو شفتي كيف يا يمة
الكون ملامحو اتغيرت
كان شفتي يمة الناس كمان
قلوبها اتحجرت
كان شفتي كيف حالة جناكي
فاتوا العمر يجي كم سنة
وسادتو يمة معطنة
قبل أن تكتمل الأغنية شابة في مقتبل العمر انفجرت بالبكاء، رجل طاعن في السن وقف هائجآ في وجه السائق قائلاً : ياخي اقفل اقفل كفاية خلاص، وجد أحد المتشددين ضالته قال بأن الاغاني حرام شرعآ، حاول ينكر بينه وبين نفسه ان الكلمات الحزينة لم تحرك مشاعره المتحجرة، بعد جدال و أراء مختلفة تم تشغيل مواعظ دينية فصار البص مثل جامع في خطبة صلاة الجمعة. لكسر الملل بعض الركاب يشاهدون عبر المنافذ جمال الطبيعة الخلابة التي تسر الناظرين الماشية ترعي في المراعي و تلتهم الحشائش بنهم، بيوت متفرقة على طول الطريق و بعض النسوة يمتطين الحمير بهمة و نشاط، أثناء توقيت صلاة الظهر توقفت الرحلة في استراحة مقطوعة في الخلاء لكي يتناول المسافرين وجبة الإفطار و تأدية الفريضة، جلس الرضى وحيدآ بعيد من الناس يدخن بشراهه يفكر في حال أسرته الصغيرة، شعر أحد المسافرين بوجعه الح عليه بالطلاق أن يتناول معهم الطعام قبل الدعوة على استحياء، بعدها هرول الجميع إلى البص بعد ما سمعوا بوق مزعج من السائق، مقعد ما ظل شاغرآ مل السائق من الإنتظار و هو يدوس على البوق بازعاج مستمر، برهة جاء رجل هرم يمشي بطيئآ كالسلحفاة لم يسلم من عتاب الجميع، تحرك البص بسرعة فائقة بعد مسافة من الزمن وقف في نقطة تفتيش صعد إلى البص رجل أمن مفتول العضلات بملابسه المدنية ينظر للوجوه بعينان قويتان كالنسر الجارح لم يبوح لهم بالسلام أشارة بسباته إلى الرضى قائلاً : أنت تعال وراي.
تابعه الرضى إلى الخيمة المنصوبة على قارعة الطريق وجد بداخله بعض العساكر، أمره رجل الأمن بنهره أن يجلس على الأرض ثم نادي على المساعد أن يأتي بحقيبته، بعثروا مقتنياته بصورة عشوائية ثم تعرض إلى تفتيش شخصي بارهاب غليظ، يأمل أن يتحول شكه إلى حقيقة و لكن خاب ظنه لم يجد شيء مملوس يدينه أو يورطه فأطلق سراحه دون أن يكلف نفسه بكلمة اعتذار، هذا الموقف يحدث عند كل نقطة تفتيش مع شاب آخر هذه الحادثة تركت جرحآ عميقآ في قلب الرضى.
وصل الرضى عند نهاية الرحلة في العبيدية مدينة ناعسة اجفانها على محازاة مجرى النيل، عرج إلى مقهى ادروب المتواضع مشيد من جولات الخيش و أعواد الخيزران، جلس على الأرض مع بعض المغامرين يرتشفون القهوة قاصدين وجهتهم المقبلة، يتسامرون لعلي و عسى يجدوا أحلامهم الضائعة في باطن الأرض التي تكتنز المعدن النفيس، ركبوا المغامرين عربة بوكس اتجهت شرق النيل السائق الماهر يبتعد شيئاً فشيئاً من المدينة شق رمال الصحراء ببراعة حافط طريقه الوعر على ظهر قلب، لا يرى خلفه غير غبار كثيف و أمامه سراب كالماء في بلور و على جانبيه جبال بركانية غاتمة متفرقة تقف بكل شموخ، لا أثر لطير أو شجر و لا حتى غيمة أو ظل لفحات الشمس الحارقة تقسو على الأبدان، السماء تلمع كالفضة و الأرض جدباء لا إتصال لشبكة جوال، فجأة هبت عاصفة ترابية كأنها روح من جان حولت نهارها مثل ليلها غشت الأبصار ارتطمت العربة بصخرة صماء طاحت بها في الهواء انقلبت عدة مرات، تعالت صرخات النجاة في صحراء لا تعرف الحنية و سألت الدماء الذكية، فاق الرضى من غيبوبته الطويلة وجد نفسه طريح الفراش داخل المستشفى علم أنه من الناجين في الحادث، كسر في السلسلة الفقرية حول حياته إلى إعاقة في كرسي متحرك، صاحب اليد التي وضعت بصمتها في معمار المدينة لم يدب في روحه الانهزام و يصبح متسولآ عند أبواب الجوامع أو على أرصفة الأسواق ، بعزيمة لا تلين صار بائعآ للكتب القديمة مساهمآ في بناء المعرفة، تعلم مهما هبت رياح المصائب الأليمة هناك متسع للأحلام الجميلة و ان تذكرة الحلم متوفرة لكل الطامحين.

(تمت)
إدريس على بابكر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى