محمود عرفات - الخســوف.. قصة قصيرة

أنظر من الشرفة. النهار يعطيني ظهره ويمضي. أعمدة الإنارة تصحو. والمصابيح تضيء فتلقي على جدران المنازل ظلالا مراوغة. النوافذ المغلقة تخفي حكايات. أنتظر أن تصحو أمى من النوم لأحكي لها.
كيف أبدأ؟ هل أحدثها عن حسين المُحمَّدي.. زميلي الذى يكبرني بعشر سنين.. ستسمعني بهدوء.. ثم تتسع عيناها دهشة من عصف المفاجأة.. يلسعني صوتها وهو ينتقل من حال الغضب إلى مقام الدهشة.. فتسألني عن الذى مازلتُ زوجةً له. يتلبسني الغيظ فأكرر ما قلته.. هو طبيب شهير.. على عيني وعلى رأسي.. لكننا مختلفان.. هو لا يريدني.. وأنا لا أحتمله. تهمس فى تسليم: نصيب ومكتوب. فيملؤني الحزن وأتذكر صفوت.. أخي التوأم الذى أحفظه فى قلبى وأستحضر صورته كلما اشتقت إليه أو ساءني موقف.. فأصنع بدموعي عجينة حزن.. أمضغها.. فتنشب فى رأسي مجادلات لا نهاية لها.. تضعني على حافة الجنون.
أحلم بصفوت كثيرًا.. يطالعني بوجهه الحزين ونظرته اللائمة.. لا ينطق بكلمة.. ولا ينتظر حتى أعتذر له.. يختفي كأنه يتولّى عني فأصحو باكية. لا أحكي لأمي.. أحافظ على قمقمه مغلقًا.. حتى لا تنطلق سحابة سيرته بصخب رعد هادر والتماعات برق فى سماء مظلمة.. لا تلبث حتى تسَّاقط دموعًا حارة. أفتقده منذ رحل.. أستعيد اللحظة كأنها حدثت بالأمس... فى مساء شتوي بحثت عنه فلم أجده فى حجرته ولا بجوار أمه.. وجدته جالسًا فى هذه الشرفة يغطي وجهه بيديه وجسده يهتز. شعر بي فحاول أن يتمالك نفسه، لكنه انفجر باكيًا. اقتربت منه مبهوتة.. وضعت يدي على كتفه وسألته:
- مالك يا نور عيني؟
بعد لحظة صمت ثقيلة قال دون أن يرفع وجهه:
-أنت أقرب الناس لي.. أختي وتوأمي وصديقتي.. لن أتزوج إلا ممن أحبها.
قلت له وأنا أحيطه بذراعي فى حنو:
- خلاص يا نور عيني.. نخطبها لك.
أخيرًا رفع وجهه، ونظر لى بعينين خجليين مبللتين بالدموع، وقال بعد تردد:
- لن توافقي عليها.
قلت بسرعة:
- ولمَ يا حبيبي.. ما المانع؟
مسح عينه بطرف سبابته فلمحت فى وجهه حيرة وعدم تصديق. هززت رأسى لأستحثه على الكلام. بعد لحظة صمت تحدث.. فى البداية لم أستوعب ما قاله.. صرخت فيه:
- ماذا تقول يا صفوت؟
أعاد ما قاله ببطء فبدأت أفهم. سقطت الكلمات على رأسي كمطرقة حديدية ساخنة. أدركتُ المصيبة التى يسوقنا إليها والفضيحة التى ستلحق بنا.. فانتفضت صارخة فى ذهول:
- فاطمة! لاأااااه.. مستحيل.
حاولت السيطرة على غضبي فلم أقدر. جذبته من يده وأخذته إلى غرفته حتى لا تنتبه أمي.. واصلت تأنيبه:
- لن أسمح لك يا صفوت.. سأحارب هذا الزواج حتى الموت.
لم أهتم بشحوب وجهه ولمعة الدموع فى عينيه الضارعتين. جلس على طرف سريره يسمعني فى امتثال وذهول. تركته وجسدي ينتفض.. كأن الدم فى عروقى يسري فى اتجاهات متعاكسة. لم أستطع أن أجهز له طعام العشاء. قضيت معظم الليل أتقلب على مسامير الخوف والغيظ. وتركت دموعي تسيل علها تزيل الغضب الفائر فى صدري. تجنبت الحديث مع أمي حتى لاتقرأ فى وجهي ما حدث. أدرت المشكلة على كل وجه فلم أجد لها حلا. لكن صفوت حلها بعد أيام عندما تأخر فى نومه. حاولتُ إيقاظه فلم يستجب. جارتنا أسرعت على صراخي. وقع بصرها عليه فصرخَت فى يقين. لم أُصدِّق إلا عندما قال الطبيب: ارسلوا أحدًا لاستلام التصريح.
رأيت أمى تذوي ودموعها تسيل. أخذ صفوت معه المشاعر الحلوة ومضى، فاستوطن الألم بيتنا وصار كل شئ بعده بلا طعم.
زواجي تم بسرعة وبغير تدبر. لم تدم حياتي معه سوى شهور قليلة تكشفت فيها سوءاته الخافية. عانيت من بخله وفظاظته. أشكر الرب أننى لم أنجب من رجل يأباه جسدي. بعد عامين أعادني فى صمت. فوجئت أمي فشهقت فى حزن. واجهتُ نظرتها اللائمة بنظرة تحدٍ. بكت وهى تحدث نفسها: تصورت شكاياتك منه دلع بنات.
فى عامَي الندامة لم ينطق بكلمة واحدة تشى بالمحبة أو الشوق واللهفة. فى ساعات الحب كان يلاطفني بشتائم بذيئة تقصيني خارج اللحظة لأصبح لوحا من خشب.. فلا يتوقف ولايهتم. يعاملنى ككلبة عليها تنفيذ تعليمات صاحبها بدون مناقشة، وانتظار ما يجود به من فتات الطعام، والابتهاج بما ينتقيه من شتائم الملاطفة، والامتنان لضرباته التى يختلط فيها جد العقاب المؤلم بهذر الاستخفاف. لم أشعر فى اقترابه مني ببحَّة الرغبة فى صوتي، ودبيب الأنوثة فى صدري، والرعشة فى ظهري، وخدر الاستسلام يسري فى أردافي. فى البداية كان الخوف يكبلني، وفى النهاية كاد التقزز أن يقتلني. كنت أتسمع أحاديث صديقاتى عن لحظات الحب مبدية عدم الاهتمام. يهززن رؤوسهن ويقلن: دعوها فهى بنت مؤدبة.. يهملنني.. ويهمسن بتفاصيل مذهلة لم تخطر على بالي.. ولا أدري عنها شيئًا.
آه يا توأمي البعيد.. لم أقص على أحد ما أقوله لك الآن.. ستظن أمي أنى جننت. هل أنا مجنونة لأنى أحب؟ شيء ما كان يتسلل إلى روحي ببطء وإصرار. الكلمات القليلة التى تبادلناها امتدت بيننا كرباط حريري متين. نظراته المرتبكة الحنون أصابتني بدوار لذيذ لايمكن وصفه. أحسستُ كأن مسارات الدم فى شراييني انضبطت، وروحي تنسرب من قمقم خانق إلى فضاء بلا حدود. بدأت أنتبه إلى تحولات جسدي كأن خراط البنات يزورني لأول مرة. عرفت أخيرًا البلل الذى يصيب الأنثى فيدفعها إلى الذوب والبوح والمنح. لن أخجل منك يا نور عيني وأنت على هذا البعد. سأعترفُ لك كما اعترفتَ لى.. لكني أرجوك أن تكون كريمًا معي.. لاتعاملنى بالغلظة التى عاملتُك بها.. ولا تقل مثلما قلتُ لك. أنت الآن تحلِّقُ طليقًا فوق هامات الكون. أوقن أنك تدرك.. بينما لا نستطيع فك رموز شفرتك.. اسمعني يا صفوت وائتني بالبشارة.
لا أعرف كيف كانت البداية. شيء ما جذبني إليه فى قسوة. التقت نظراتنا فسرت الصاعقة فى بدني. غاب عني فأظلمت الدنيا. قالوا إنه مريض فهربت الدماء من جسدي. بعد تعافيه أتى تحيطه هالة من ضياء فأحسست بقلبي يزقزق فى صدري وجسدي يتوتر. رأيت سحابات متداخلة تعبر سماء وجهه الحزين.. احترتُ فى تفسيرها. عندما تيقنتُ سرى الخدر فى جسدي، واستسلمت لطوفان الدموع العذبة وعذاب الانتظار ومتعة ترقب الحصول.
أعرف أنه لن يكون من نصيبي. أشفق عليه من الحيرة التى أقرؤها فى بحيرة عينيه. تمتد بيننا شلالات بالغة الارتفاع سحيقة الغور. أمي تراني ساهمةً أذوي فتنصحني أن أواظب على قُدَّاس الأحد. هل أحلها كما فعلتَ أنت؟ تمنعني إرادتي ويحبسني إيماني، وقطرات من أمل أبلل بها ريقي عندما أراه.
فى ليلة عيد القيامة حلمت بكما معًا. رأيت أنى أسير معه فى بحيرة من ضوء وأيدينا متشابكة. كنتَ تنتظرنا فاتحًا ذراعيك مرحبًا وعلى وجهك ابتسامة حانية وحزينة.. تبتعد كلما أسرعنا نحوك. صحوتُ أعاني من صداع شديد. تذكرت أنني لن أذهب إلى العمل. كرهت العطلات التى تبعدني عنه. قضيت يوم العيد ساهمة. أمي تظن أنى مشتاقة لزوجي.. تحلم أن أعود إليه. فى صباح شم النسيم جلست معها فى الشرفة نراقب الأطفال يتقافزون نحو الحدائق. أبصرت فى وجهها الأسف وخيبة الأمل. تتمنى حفيداً يملأ حياتها ويعوضها عنك. لافائدة.. هل يمكن أن ألحق بك؟ ألا توجد طريقة لأبدأ حياة جديدة؟ أشعر بالموت كلما صحوت من نومي.. ويصطخب صدري بأنفاس الحياة عندما أراه.
أحكى لك الآن دون خجل.. أراه قادمًا فتتسع حدقة عيني.. لاأرمش لأحتسي ملامحه.. وأتحسس صوته.. أُلقى بنفسى في دائرة جذبه لتحتويني موجاته الحانية الموجعة.. وأشحن طاقتي لأتجاوز لحظات الخسوف. يسرى دبيب خافت كالكهرباء فى ظهري فأرتعد قليلاً ثم أسكن.. ويتسلل خدر لذيذ فى أوصالي. أفرح بسريري.. أرقد على ظهري وأغمض عيني.. يأتي من النافذة كطائرٍ ملائكى معطرٍ وشفيف.. يهبط فوقي فيداهمني دوار.. تغيم عيناى وتبللني قطرات من ندى الشوق والترقب.. أشعر بدبيب واهن ينقر فخذيّ.. أغمض عيني ليأخذني فى حضنه.. يقترب مني فأصعد إليه ليضمني.. أتشمم عبيره فأتبدد.. يستولي على مرافئي ويقتحم قلعتي فأستسلم لإيقاعه القوي الحاني.. حتى تأخذني الرعشة.
آه يا نصفي الضائع.. لم أكتمل إلا به.. يهل علىَّ فتعتدل الصور أمام عيني.. نتبادل الشوق والوجد وترانيم المحبة دون أن ننطق بكلمة.. فتتفتح زهوري.. ويتضوع الجو بعطرها الغامض. يتركني مرغمة فأدخل شرنقتي. أراه فأخرج إلى دفئه. هل تغفر لى يا نور عيني أنى وقفتُ فى وجهك وسددتُ عليك كل الطرق؟ هل يعاقبني الله فيحرمني من تذوق ماء البئر العذبة التى حرمتك الشرب منها؟
أرى حلمًا يتكرر كل ليلة.. أقف على حافة بركان ثائر.. أنظر إلى الحمم تصَّاعد من جوفه.. أشعر بحرارة اللهب تلفحني.. أبصر غابة النار المشتعلة أمامي وسواد الهوة العميقة تحتي.. أرتعد فأنظر خلفي لأرى حريقا آخرَ قادمًا من بعيد.


محمود عرفات
13 سبتمبر 2009.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى