محمود عرفات - مكوجي رِجْل.. قصة قصيرة

يجلس على دكة خشبية بثلاثة أرجل. يلقط النفس بصعوبة. يفكر في شربة من جهاز الاستنشاق لتفك كربه. ينظر إلى المكواة الرابضة على الطاولة الأرضية بحسرة. يراها كوحش خرافي يصعب ترويضه.. وهو الذى كان يلوي عنقها تحت قدمه.. فتتحرك بليونة على قطع الجلابيب الكبيرة فتفردها وتبسطها. يضغط خيوط القِطَان المشغولة بكف فنان على الطوق والكُمَّيْن والذيل فيسترد لمعته. يدير المكواة بقدمه.. يمرح على الطاولة الواطئة كراقص ماهر. يستقبل الزبائن فيجلسون على الطوار يطلبون الشيشة والشاي من النصبة المجاورة. يسحبون أنفاس الشيشة بالتذاذ ويعابثونه ويتبادلون النكات الملفوفة ويضحكون. يرجوهم أن يخففوا من نكاتهم الحراقة ليتمكن من إتمام شغله. يزيد العيار فيتوقف عن العمل من شدة الضحك. يصالحونه بكوب شاى وشيشة. يقول لهم: حرام عليكم يا عُمَد. ثم يعود إلى عمله.
تناقص الزبائن فأدرك أن المهنة تنقرض.. هم أيضا يعرفون ويتمسكون به. يجلس بجوار صانع الشاي بعد أن ينتهي من عمله. يحدثه عن المكواة الكهربا التي تنافسه بسهولة استخدامها.. على طاولات مزودة بكابلات وخراطيم ورشاشات مياة لتنجز بأقل مجهود. يطلب منه القهوجي أن يهجر مكواة الرجل.. فيضرب كفا على كف ويقول إن قوته في قدميه. لا يتصور أن يمسك مكواة صغيرة بكفه ويكوي بها الجلابيب الكبيرة. يعترف أنه فكر في التغيير.. لكنه لا يملك نقودًا لشراء طاولة مجهزة. يستدرك ويهز رأسه رافضًا الفكرة من أساسها. بعد خمسين سنة لا يمكن أن يصلب طوله ليكوي بيده.. فقد اعتاد جسمه الانحناء ممسكًا بالذراع الطويلة للمكواة.. كما أنه ألف وشيش وابور الجاز ورائحته.. فيتذكر أمه يرحمها الله.. خاصة في ليالي الأعياد التى تجهز فيها نصبة الطبيخ بعد صلاة العشاء.. ليكون الطعام جاهزًا بعد صلاة العيد. تدمع عيناه إذ يتذكر أمه.. ووالده الذى ضربه لأنه تجرأ على ركوب المكواة قبل أن يتقن فنونها. ينظر بحسرة إلى (الفودرة الدمور) المبطنة باللباد.. ويتأمل بيت النار.. والتلبيسة الخشبية التي يضع عليها قدمه لتحميها من اللسع.. والكمرة الحديد التى يضع عليها المكواة لتنظيفها من الهباب قبل استخدامها.
يظن أن انحناءه الدائم على المكواة والطاولة هو ما أصابه بالفتق؟ يأسف على الأشهر التي قضاها في المستشفى والبيت دون عمل. لولا أولاد الحلال الذين ساندوه لمات جوعًا. نفض يده من ابنه الذى لاف على بنت اسكندرانية فاستولت عليه.. ويلتمس العذر لابنته التي تزوجها فقيرٌ يعمل باليومية.. فلا ينتظر منها عونًا. يتصدع قلبه إذ يلاحظ دموع عجزها حين تزوره. تستطيع أحيانا أن تدبر له أكلة سمك أو قطعة فراخ مسلوقة. يقضي يومه في المحل على حافة السوق. لا يذهب إلى البيت إلا لينام وحيدًا مهمومًا تأكله الهواجس. يخاف أن يموت ولا يشعر به أحد. يقول لابنته: لا تسهي عني فأموت وحيدًا. امرأته ماتت كمدًا.. بعد أن ظلت لسنواتٍ طويلة تعايره بفقره وقلة حيلته.. وتحلم بتحسن الأحوال. هي التي ساق طوب الأرض عليها لتوافق على زواجه منها.. فى شبابه كانت أحواله معقولة.. كان طول بعرض.. مفتونًا بقوته.. وهي تمصمص شفتيها وتقول: طلع نزل.. مكوجي رِجل. ألحت عليه أن يغير مهنته.. لكنه أبى: مهنتي أبًا عن جد. لما تأكد أبي من أنني أستطيع.. سمح لي أن أحمل المكواة من بيت النار للطاولة وأسرح بها على الجلاليب.. فطرتُ من الفرح.. وكأني أخذت شهادة العالمية.
الجلابيب لا يلبسها سوى العمد.. فهي أغلى من البدل التى يرتديها الأساتذة والأفندية. وهي مخصصة للأعياد والأفراح والمآتم. يحضرها للمحل سائقو العمد وخدمهم فيحدد لهم وقت الحضور لاستلامها بعد الكي. إذا كان العمدة متعجلًا ألح الرسولفي الانتظار حتى ينتهي الكواء خوفًا من بطش سيده. الوجهاء والأعيان يشتركون مع العمد في لبس الجلابيب والخواتم الثمينة واقتناء الخيول. يتدفقون من القرى إلى البندر فيمرون على المحل للتحية وانتظار قضاء مصالحهم. خفتت سطوة العمد بعد ثورة اثنين وخمسين فتناقص ترزية الجلابيب العربي.. كما تناقص مكوجية الرِّجل الذين يحسنون التعامل معها. لم يبق غيره في مكوة الرجل.. وحسن فرغلي في تفصيل الجلاليب وتركيب القطان.
مد يده وسحب جهاز الاستنشاق.. ووضع فيه الكبسولة. وثبت القناع على أنفه وأخذ عدة أنفاس متتابعة جعلته يشعر بالراحة. تذكر هجمة رجال الضرائب التي كادت تقضي عليه. ربطوا عليه ضريبة كأنه صاحب مصنع أو جزار. ولولا رجل طيب أرسله الله إليه لكان شأن آخر. مر الطيب عليه فشكا له الخطاب الذي وصله من الضرائب.. فانتفض وأخذه من يده وذهب به إلى مأمور ضرائب ابن حلال وشرحا له الحال وأخذاه من يده ليعاين المحل. لم يتمكن المأمور من عمل أي شيء في الضريبة التي فات وقت الاعتراض عليها. لكنه سعى ليسوي ملفه فلا يدفع شيئا في السنوات التالية. أخذه الرجل ودار به في دهاليز المأمورية حتى ضبط الملف.. وفي النهاية صارحه أن المبلغ المربوط على محله يجب سداده فوقع مغشيا عليه. أفاق الرجل فوجد الموظفين ملتفين حوله يواسونه في مصيبته بتقديم الماء ومصمصة الشِّفاهَ. لكن الله ساق له من يحل المشكلة. واحد من كبار الممولين كان ينهي لقاءه مع الموظف المختص فشاهد الموقف. فاجأته نوبة كرم وشجعه الزحام أن يشيل هم المكوجي ويسدد دينه للمصلحة.
رأى الرجل ابنته قادمة وهى تداري فمها بطرحة. تعجب لأنها لا تأتي للمحل إلا في الشديد القوي. ترددت أنفاسه الضعيفة في وهن. همست: مسا الخير. رد في وجل: مساء الخير يا بنتي.. خير؟ تلفتت في توتر هامسة: سمعت طراطيش كلام إن صاحب البيت يسعى لهدمه. انتفض في مكانه صارخا: أي بيت؟ نظرت إلى أعلى وصنعت دائرة بيدها إشارة للمكان. نظر إلى سقف المحل وجدرانه في دهشة وعدم تصديق.. تشجعت ابنته فأكملت: ناس شافوه في الإدارة الهندسية يتكلم في الموضوع.. وسمعوه صدفة. لم تدرك الابنة تفاصيل ما حدث. كل ما تذكره أن أباها انكفأ على وجهه.. فأسرع الجيران إلى إفاقته وتهدئته.. بينماهي تصرخ صرخات مكتومة.. وتمسح دموعها.. وتلمح بطرف عينها الباكية صاحب البيت يأتي من أول الشارع بصحبة مقاول الهدد.

محمود عرفات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى