سفيان صلاح هلال - حين نداوي الواقع بالخيال في "عمرة الدار" للدكتورة هويدا صالح

قراءة:
تأتي أهمية هذه الرواية من كونها من الروايات القليلة التي رصدت حال أسرة في وسط الصعيد في فترة زمنية سابقة لثورة الحداثة والتكنولوجيا وطفرة الاتصالات، حيث ما يهم الناس العيش في ستر، والموت في رضا، ورغم أننا نرى أنفسنا في ظل المدنية أحسن حظًا، لكن ما رصدته الكاتبة في هذا العمل يجعلك تحن لتلك الأيام بسيطة التكلفة قليلة الطلبات عظيمة الشفافية.
لم أقتنع أبدًا أن "بيدرو بارامو" للكاتب "خوان رولفو" هي الرواية التي بشرت بالواقعية السحرية، فالمراجع لقصص تاريخنا الروحي، وتاريخنا الحكائي سيجد أن هنا في بلادنا أصل الواقعية السحرية، وإن تغلفت بغلاف روحي فرضته طبيعة الشرق. إن فلسفة الحياة هنا هي الانتصار للإنسان في قصص تدعو للإيمان بالحق؛ حتى لو أدى هذا لانقلاب طبيعة البحر أو طبيعة النار، أو ترويض رجل بقصص خارقة مثلما يحدث في ألف ليلة وليلة، كلها أنواع من واقعية سحرية تبدو حتمية التواجد في الحياة الإنسانية لدعم الإنسان في أزماته بعدما استعاضت عن قسوة الواقع بليونة الخيال. والكاتبة "هويدا صالح" في روايتها "عمرة الدار" أدركت أن الحياة البسيطة البعيدة عن رفاهيات المدنية ومستحدثاتها، يحتاج الإنسان فيها إلى كم كبير من الخيال ربما يكون مساويًا أو يزيد عن حاجاته التي تسد فجوات الواقع المعاش، وربما لهذا جاء التضفير بين الحكي عن الواقع البحت والواقع الحلم المشتهى في كثير من مقطوعات عملها. تقول الكاتبة "ولما وصل عمر لحكيه أن الإمام كان لشدة قربه من طه النبي، كانت تُطوَى له المسافة بينه وبين القبر الشريف، حتى أنه كان يضع يده على مقصورته وهو في مصر، انتشى المشتاقون إلى حضرة المولى عز وجل وعلا صوت الشيخ: اللهم صلِّ على الحبيب"، ثم طلب من القارئ أن يزيده من هذه النفحات الروحانية ...
إن الاشتياق يدل على الحرمان لعدم القدرة، فالمسافة بين محبي النبي في صعيد مصر الفقير وبين قبر حبيبهم في المدينة المنورة بأرض الحجاز تحتاج الكثير؛ لهذا كان توحدهم الوجداني مع الشيخ الذي تُطوَى له الأرض أملًا بديلًا لقدراتهم المحدودة والمعوقة لتحقيق حلمهم.
والخيال الساحر لا يقف عند الخوارق، بل نجد "النضر" الذي لا تملأ زوجته عينه يبحث عن الأنوثة، أو إشباع الرجولة في التعرف على الكثيرات من الساقطات، وحتى بعد توبته وسفره إلى جوارأل بيت النبي لم تفارقه الرغبة في الحب بعد الحب؛ فيتزوج من ابنة شيخه التي من سن أبنائه، و يكاد يميل لأرملة صاحبه وكأنه يداوي جموحًا لديه لا يحده حد بالبحث في مخيلته عن مصادر الإشباع.
يبدو المجتمع الذي تدور فيه أحداث الرواية مجتمعًا بدائيًّا لا يكاد يذكر فيه دور للعلم إلا في أحلام بنت صغيرة ، حين تهددها عمتها بأنها ستكبر وسيحْجِبونها في البيت، ترد عليها مخبرة "أنها ستذهب إلى المدرسة التي في المركز، وسوف تتعلم"، كما أن "القريصة" كما رسمت شخصيتها الكاتبة هي مريضة بحالة نفسية تصل بها لدرجة الصرع، لكن طوال الرواية يتم تفسير حالتها بأنها لبس من الجن يثير الضحك، ولم يفكر أحد على الإطلاق في الذهاب لاستشارة طبيب في حالة ظاهرة المرض. بل لم نجد ذِكرًا للطب المنهجي أو البحث العلمي في العمل إلا حين اشتد كرب زبيدة عند الولادة، طلبت القابلة أن يذهبوا بها للمستشفى، فقد استنفذت حيلها. مع ملاحظة أن هذا الحدث كان في العاصمة وليس في البلد الأصلي الذي كتبت عنه الرواية. لكن رغم كل ذلك، فلهذا الكيان قيَمه الأخلاقية الراسخة وأصالته. فالعمة الجميلة "فاطمة" حين يموت زوجها وهي لم تزل شابة ، ترفض كل من يتقدم للزواج منها، بل تقص شعرها وتربط عليه غطاءً أسود رمزًا للحزن، وتحترف التجارة على قدر حالها لتربي أبناءها. وحين يميل زوج "فايزة" التي تربت في بيت أبيه عمها الشيخ "صالح"، لا ترضى له الهوان، وتخطب له من أحبها، وتتركه لمن أحب لا تنازعه فيها، وتبدو كخادمة تقضي له ولزوجته حاجتيهما، رغم غيرتها الشديدة، لكنها تصبر، وحين تموت من تزوجها زوجها عليها وتترك لها بنتين، تربيهما كأم لهما، بل يحن صدرها ويسقيهما رضاعة، وحين ترى زوجها يستحي أن يدخل حجرتها بعدما أذاقها الفراق والتلذذ بالعيش مع أخرى، نجدها هي التي تسحبه لحجرتها وتقول له "إن لبدنك عليك حقًا". إن الأصالة تظهر حتى في الحب ، ابن عم الشيخ صالح كان يحب التي تزوجها الشيخ فلما سبقه إليها؛ ظل كل عمره بلا زواج. إن أي قارئٍ يمكنه بيسر رصد الكثير من القيم الأصيلة من أشكال التكافل وتربية الأيتام وصلة الأرحام في الرواية، وكل هذا يحدث بيسر وبساطة ودون مَنٍّ أو أذى، حتى المناوشات التي تحدث بين صباح والقريصة رغم سخونتها لا تتعدى كونها آثار عابرة لمشاعر نسوية كالغيرة.
في الحقيقة أن الرواية من روايات المكان، توهمك الكاتبة أنها ترصد الواقع، لكنها ضفرت الواقع مع مخيلة الأحياء في تلك الحقبة، وهذه المخيلة هي التي أضفت على الواقع سحره، فالأبطال الذين يكفيهم من الحياة وجودهم فيها في رباط اجتماعي، يعمل رجالهم في الحقول فينتجون حاجتهم من الزرع، وتنتج النساء في البيوت مكملات الغذاء من إنتاج حيواني أو تصنيع نباتي، هم أيضا بشر، والبشر لهم من غرائزهم ما يحتاج لإشباعها أو ترويضها، وفي زمن ندرت فيه الماديات التي تسد الفجوات، كان التعويض هو التخيل، ولكن التخيل اتخذ اتجاهًا روحيًّا جعل الحياة أكثر شفافية للكثيرين؛ فنجد انقباض قلب "النضر" وهو يطوف بالكعبة لحظة موت حبيبته "زبيدة" في القاهرة. إن هذا الانقباض كأنه كان البديل عن الهاتف الجوال في زمن خَلَا منه، كما أن للرؤى والأحلام دور كبير في التنبؤ بالمستقبل، وكأن هذه الشفافية كانت بديلًا عن التنبؤات العلمية المعاصرة. كما أن الناس في زمن الرواية ومكانها ربما لا يملكون من العلم ما يفسر لهم أمراضًا نفسية تحدث لهم نتيجة الصدمات، لكنهم استطاعوا أن يربطوا هذا بما سمعوه عن عالم الجن والروح، وراحوا يداونه بطرق مناسبة لما تنتجه مخيلاتهم. إن رواية "عمرة الدار" رواية ترصد قدرة الإنسان العظيمة على التكيف وترويض الظروف إنها باختصار رواية سحر الواقع الإنساني مهما كان .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى