لا أحد يجلس في المقعد الأخير ومع ذلك يستطيع شم رائحة إبطيّ سائق الحافلة إلا في ظهر صيف بغدادي، حين يلتهب الهواء وتغلي الأدمغة، ويقول الجالس في المقعد المجاور: إنها جهنم. يسيل إسفلت الشوارع فيمخره الأولاد بأصابعهم على شكل كرات بحجم بيضة العصفور، يلوكونها كأنها علوك مجانية بعد أن يبصقوا أول الأمر ثلاث مرات كي يخلصوها من طعم إطارات السيارات ودخان عوادمها وعطن بول الكلاب السائبة. ثم يبتعدون في السراب الذي يحيط بكل كائن هنا على مسافة ثلاثين متراً، ويتحولون إلى أشباح ملونة كضربات فرشاة رسام يظن بأن كل ترهاته حداثة أو ما بعدها. بعد ذلك يغيب الأولاد في الأزقة أو بين المربعات الخشبية لعربات بائعي الحمص والشوندر في ساحة وقوف الحافلات التي تخلو جميعها من مكيفات الهواء لأن الحكومة تشترط على الشركات المصدرة أن تخلع المكيفات كي لا يعتاد الشعب على الترف ونحن في حرب.
وحدها هنا أشجار اليوكالبتوس خضراء مثل رايات قبور الصالحين، ودرجات الحرارة لا تربو على الـ 49 في المذياع أبداً، وما ذلك إلا بسبب فقرة منسية من دستور الملكية منذ أيام الإنكليز تلك التي تمنح للناس حرية التوقف عن الحركة إذا ما وصل المحرار إلى 50 فيما محرار غرفة نومي، الذي جلبته من سوق الأحد في مدريد أيام سفرة طلابية، لم ينزل زئبقه في آب عن الـ67 درجة، فقال الأصدقاء بأنه عاطل، ألا تسمع المذياع؟. فضلت تصديقهم واكتفينا باعتباره مجرد ذكرى نعلقها على الجدار، حيث مصارع الثيران على يمين الزئبق وراقصة الفلامنكو البدينة تنفض ثوبها على يساره.
دماغي يغلي في آخر مقاعد الحافلة وكل ما أتمناه الآن هو أن أصل إلى دائرة الجنسية قبل أن يخرج الموظف الذي وعدني بالأمس، بعد أن راجعته على مدى شهر كامل، أن ينهي معاملتي لاستخراج هوية بدل الضائعة. ثم أقفل صوب غرفتي وألقي بنفسي على سريري دون نظرة إلى محراري الإسباني، بعد أن أقف عشر دقائق صمت بملابسي تحت دش الحمّام. يؤلمني جوف رأسي كلما اهتزت الحافلة فوق حفر الإسفلت التي خلفتها أصابع الأولاد، فأمسكه بين كفيّ كي لا يهتز زيت دماغي في الجمجمة. وأحاول التفكير بشيء غير حلم الوصول الذي يؤخره هذا الزحام، فأعاود البحث عن خيط حكائي أربط به صور قصة أنوي كتابتها منذ عام بعنوان (شفرات). استعيد ما حضَّرته لها ابتداءً بذكراي الأولى عن أول شفرة حلاقة عرفتها. فحين كنا صبية نسبح على شاطئ النهر ولا ندري كيف كانت تمر ظهيرات آب، ننسى الشمس والوقت وصفعات المعلمين بالتزحلق على منزلق طيني ناعم نعده بمؤخراتنا وزخات الماء على الجرف ليكون شبيهاً بزلاقات مدينة الألعاب. كنا نصعد إلى أعلى الجرف ونجلس على طرف المنزلق الأعلى فننزلق على طينه حتى يقذفنا في النهر ونضحك.. نضحك كل صيف، كل آب، كل يوم إلى أن تخاصم جميل مع جمال فألغم منزلقنا خفية بنصف شفرة حلاقة، غرسها في الطين، لا تظهر منها إلا الحافة وقال: لأثبت لكم بأنني قد تصالحت مع جمال أعطيه هذا اليوم دوري الأول في التزحلق.
صفقنا لهما ضاحكين، لكن جمال قد صرخ بعد أن انزلق إلى الماء مصبوغا بالدم حيث شاهدناه يخرج من الشاطئ ناظراً إلى قفاه فرأينا معه الجرح الممتد رفيعاً من كعب قدمه اليسرى صاعدا مع طول ساقه حتى آخر مؤخرته. وكنت ألعب مع بنات الجيران صغيراً حين رأيت سعاد تقنع أختها سعدية كي تقص لها شعر جبهتها مستقيماً كصور الممثلات، فوافقت سعدية بعد أن طردت من رأسها فكرة احتمال غضب أمها، وغابت سعاد لتعود بمسطرة الدرس ومشط وشفرة حلاقة، مشطت شعر جبهة سعدية على وجهها ثم وضعت المسطرة في منتصف الجبهة وخطت بالشفرة ضاغطة فصرخت سعدية ورأينا الخط الأحمر الرفيع قبل أن تغطيه بكفيها وتركض باكية نحو الأم في الطبخ.
نظرت إلى طفلة بين ذراعيّ أمها الجالسة في مقاعد الحافلة الأولى، كانت تحدق بدهشة إلى رجل أسود يجلس في المنتصف. دماغي يغلي في آخر مقاعد الحافلة فكيف أجمع صوري في قصة أريد كتابتها منذ عام بعنوان (شفرات)؟. كتلك التي روتها زوجة عمي عن ثاني أيام عرسها، حيث امتد إليهما، في منتصف الليل، إصبعاً من نافذة عند رأس السرير. كانت غرفة العرس مضاءة بشمعة في الزاوية وهما لا ينامان بسهولة بفعل رائحة البخور الهندية واكتشافات أحدهما للذة ملمس جسد الآخر. توقفا عن اللمس وراحا يراقبان الإصبع المتلصص وهو يحاول إزاحة ستارة النافذة فانسحبت كف عمي عن نهديها وامتدت إلى درج السرير لتلتقط شفرة حلاقة. وبحركة خاطفة قبض بالكف الأخرى على الإصبع بقوة ثم حزه بالشفرة وقال: لكي نعرف غداً من هو.
أتمنى أن ألحق بالموظف الذي راجعته على مدى شهر وهو يردد كل يوم غداً ستنتهي معاملتك وتأخذ هويتك، ولكن تنقصك ورقة. وتنقصني الحبكة منذ عام كي أجمع كل الصور التي أذكرها عن شفرات الحلاقة في قصة واحدة. بما في ذلك ذكرى الأشقياء الذين رأيتهم في (حي الفضل) يستخرجون من تحت ألسنتهم ومن بين الشفاه السفلى والأسنان أنصاف شفرات حلاقة، يجرحون بعضهم البعض بعد أن تخاصموا على لعبة الدومينو. وأن أجد فيها مكاناً لعبارة أمي:" سأسكت مثل بلاّع الموس" التي تكررها كلما منعها أبي من قول رأيها حول زواج البنات. مازالت الطفلة تحدق بالرجل الأسود، وقال الجالس إلى جواري في آخر الحافلة وهو يمسح العرق المتصبب على وجهه بكميه: إنها جهنم.. جهنم الحمراء. فأجبته: نعم، إنها جهنم حقيقية. ثم أكملت في سري: والحرب كانت كذلك. لأنني مازلت أشاغل نفسي، عن ظهيرة بغداد التي تُغلي دماغي، بالبحث عن خيط حكائي يربط كل ذكرياتي عن شفرات الحلاقة في قصة واحدة أفكر بكتابتها منذ عام، بما في ذلك ذكرياتي عنها أيام الحرب، كالتي رأيت فيها هشام الراعي يقطع الذكر الأحمر لأحد كلاب الراعي الآخر. ولم أكن وحدي من شهد ذلك وإنما كل الجنود الذين كانوا معي في طاقم الدبابة على الخطوط الخلفية من الجبهة، وما كان أحد منا ليتوقع أن هشام سيفعل شيئا كهذا لأننا نعرفه جيداً، وديعاً بسيطاً يقترب بأغنامه مساء كل يوم كي ترعى في عشب سفح التل الذي خبأنا في أعلاه الدبابة باستثناء مدفعها بعد أن لطخناها بالطين كي لا تراها الطائرات المغيرة. كان هشام يمضي معنا ساعات طويلة يحتسي الشاي ويملأ لنا سطلاً بالحليب من أغنامه ويحدثنا عن عشقه لابنة خاله وعن أعراس قريته التي نراها من هذا التل صغيرة لكننا حين ننظر إليها عبر منظار الدبابة نرى فيها كل شيء بوضوح؛ النوافذ والتنانير ومرابط الحمير وحتى الدجاج الباحث عن الدود وبقايا حبوب الشعير تحت قوائمها. نتمكن من الرؤية في الظلمة أيضاً عبر المنظار الليلي للدبابة، فنعرف بأعراس قريته التي يفصلها لنا في اليوم التالي حيث عرّست الكلاب أثناء حديثه ذات مساء. اجتمعت كلابه وكلاب راع آخر يقضي وقته عند جنود الدبابة الأخرى، على التل القريب، كانت جميعها تتشمم مؤخرة كلبته وتتنابح فيما بينها، كل يحاول امتطائها إلى أن فاز بها الأسود أقوى كلاب الراعي الآخر. فهب هشام من جلسته وراح ينحدر على السفح راكضاً صوب الكلاب، ضرب الأسود بالعصا، وركله بأقدامه حتى تمكن من إنزاله عن ظهر كلبته لكنه بقي مشدوداً بها عبر المؤخرة يمتد عضوه الأحمر من بين قائمتيه الخلفيتين إلى فتحة الكلبة وكل منهما ينظر باتجاه معاكس ويعوي تحت ضربات هشام التي لم تفلح بفكهما عن بعضهما البعض. فمن طبيعة الكلبة أن تقبض بقوة على عضو ذكرها في لحظات الحب كما أكد لنا هشام ذلك فيما بعد حين صعد إلينا وهو يحمل العضو الأحمر للكلب الأسود دامياً، مازال يلبط، في قبضته وفي أصابع يده الأخرى شفرة حلاقة.
الصورة الأخرى من أيام الحرب حين تقدمنا إلى الخطوط الأمامية للجبهة بعد هجوم غطى الأرض بالجثث التي انتفخت حتى فتقت بذلاتها العسكرية، وعند الفجر قبل مجيء الضابط للتفتيش بحث داود عن مكان مناسب يركن فيه مرآته التي ما هي إلا كسرة على شكل مثلث من حطام مرآة أكبر. وضعها على درع الدبابة وبجانبها صحن الماء وقطعة الصابون لكنه لم يشعر بالراحة في أن يحلق ذقنه واقفاً، أراد الجلوس. دار في المكان مرتين يحمل أدوات حلاقته بيديه وعلى كتفه منشفته المتسخة، لم يجد مكاناً مناسبا لجلوسه ولجلوس مرآته المثلثة كما يريد، فاتجه إلى جثة قريبة، أزاح لحية الميت، فتح فكه ثم ثبت طرف مرآته بين الأسنان وجلس على صدر الجثة واضعاً صحن الماء وقطعة الصابون أمامه وموزعاً ساقيه على الجانبين.
كرر الجالس إلى جواري: إنها جهنم حمراء. فيما انفلتت الطفلة من بين ذراعي والدتها الجالسة في أول الحافلة من حيث تأتي رائحة إبطيّ السائق، جاءت ماشية باتجاهنا وهي بارتفاع الكراسي حاملة بين يديها برتقالة، فقلت لنفسي: لماذا لا أتخلى عن فكرة كتابة قصة بعنوان (شفرات) وأكتب أخرى بعنوان (برتقالات) إنه عنوان جميل، كلمة جميلة، رحت أرددها باستمتاع: برتقالات، برتقالات، فيما دنت الطفلة من الرجل الأسود وراحت تلمس ذراعه وتنظر إلى كفها، تمسح وجهه وتنظر إلى كفها هل اصطبغت؟. ثم قالت له وسط صمت الجميع: عمو.. لماذا لا تأكل لبناً؟ فضحكنا بما فينا الرجل الأسود والبدين جواري والسائق، فيما نادت الأم طفلتها: تعالي لقد وصلنا. فنزلنا واتجهت أنا إلى دائرة الجنسية في أطراف المدينة، صعدت إلى الطابق الخامس لأن المصعد كان معطلا ووصلت إلى الموظف أتصبب عرقاً وألهث، أعطيته الورقة التي قال أنها ناقصة في الأمس، راجع ملف أوراق معاملتي ثم قال: مازالت تنقصك ورقة أخرى. فقلت له غاضباً: يا أخي.. لماذا لم تقل لي منذ البداية ما هي كل الأوراق المطلوبة بدل أن تبهدلني طوال هذه الأيام؟. فنهض من وراء مكتبه بهدوء، عدل من وضع نظاراته وقال لي: تعال. ثم قادني إلى النافذة وأضاف: أترى هذا؟. فنظرت وقلت: ما هذا؟ إنها مقبرة! إنهم أموات!. فقال: كل هؤلاء لم ينهوا معاملاتهم.. ماتوا ولم يكملوا أوراقهم الناقصة.. فلماذا أنت منزعج يا أخي؟.