مجدي جعفر - مسرواية : (زمن نجوى وهدان)(2)

[ 2 ]

" فى الوقت الذى تعلن فيه الساعة المعلقة على الحائط عن الخامسة مساء بدقات رتيبة ومنتظمة ، تُسمع دقات ناعمة على الباب . كأنها نغمات ، يهرول الناقد إلى مكتبه ، ويجلس على كرسيه ، ويفر فى أوراق أمامه "

ينادى بصوت مرتفع :

= تفضل بالدخول.

" يندفع الباب بحذر ورفق ، ومن انفراجة صغيرة بالباب ، يتسلل عطر أنثوى يملأ الغرفة ، وساق بيضاء ملفوفة ، لا شوائب فيها ولا زغب "

" الناقد مادا عنقه ، ومبحلقا بعينيه ، وموسعاً طاقتي أنفه ، ومهدلا شدقيه .. "

" فرحة هى بآثار فتنتها عليه ، وتفرج ثغرها المكتنز عن ابتسامة حلوة ، وبنظرة سريعة ، كالومضة ، تشع سحرا .. "

ـ م .. س .. ا .. ء .. الخير

" ومقتربة من مكتبه ، واقفة قبالته تماما ً، باسطة يدها البضة .. وبنعومة .. "

ـ حضرتك الأستاذ الدكتور ..

" ناهضا ، ولم تزل يدها الرقيقة الناعمة فى يده .."

= نعم .. نعم .. تفضلى .

" فى المسافة الصغيرة الفاصلة بين مكتب الأستاذ والكرسى المجاور لمكتبه ، تقف ، فاردة جسمها على قدر ما تستطيع ، عيناها فى عينيه ، وقائلة برقة :

ـ سمعت عن احتضانك الحنون للأدباء .. و..

" لم يفرط فى يدها ، فلم تزل يمناه تحتضن يُمناها ، وعيناه تسبحان فى فضاء صدرها الرحيب "

= حضرتك أكيد " مدام نجوى "

" ساحبة عينيها من عينيه " :

ـ نعم .. نعم

" وساحبة أيضاً يدها بخفة ورقة ، وجالسة على المقعد الذى على يمينه "

هو :

= ماذا تشربين ؟

هى " بالفرنسية " :

ـ مرسى

هو :

= هذه أول مرة تزورينني فيها ، لابد أن تأخذى واجب الضيافة .

" وناهضاً" :

= اسمحي لى أن أصنع لكى مشروباً بنفسي .

هى :

ـ أن يصنع لى ناقد كبير مثلك مشروبا بنفسه ، فهذا كثير عليّ .

" منحنيا أمامها بحركة تمثيلية " :

هو :

= أديبة موهوبة مثلك ، تستحق أن ينحنى أمامها كل النقاد !

هى " خجلة و فرحة " :

ـ أنا لا أصدق أنني أديبة و ..

هو " مقاطعاُ " :

= بل أنتِ موهوبة ، موهوبة ، وموهبتك فى القص ليس لها مثيل فى بنات ونساء العرب من المحيط إلى الخليج!

هى :

ـ أنا لا أكاد أصدق .

هو " مشيرا بيده إلى العقد الذى تطوق به جيدها " :

= هذا العقد ..

" ثم يمد يده ليفر حباته " :

= من الأقدر على معرفة قيمته ؟!

" ثم مجيبا على نفسه " :

= بالتأكيد " الجواهرجى "

" تاركا حبات العقد ، لتمس أصابعه صدرها مسا خفيفاُ ، فينهض واقفاً ، ناظراُ من الشباك ،ومعطياً ظهره لها لثوان ، ثم ملتفتا لها بسرعة ..قبل أن تزول أثار مس أصابعه لصدرها "

= أنا الجواهرجى !!

= جبت مصر من أقصاها إلى أقصاها، من أسوان إلى الإسكندرية ، ومن مرسى مطروح إلى بورسعيد و دمياط ، أعرف عزب مصر كلها ، وكفورها ، وقراها ، ونجوعها ، وأزقتها ، وجبتها كلها بحثا عن " الألماظ " والجواهر ، عن المواهب المدفونة فى ثرى أرضنا الطيب ، والآن ، وبعد رحلة بحث زادت عن الثلاثين عاماُ

" مبتسماُ " :

= لا يغرنك شكلى ، فأنا فى منتصف العقد السادس..

هى " مصطنعة الذهول " :

ـ لا يبدو عليك ، فمن يراك ، يظنك على الأكثر فى منتصف العقد الثالث .

" ثم ضاحكة وفاردة يدها لتقبض على أحد أركان الترابيزة " :

ـ وهاأنذا يا سيدي أمسك الخشب !

هو " مصطنعا الجدية ":

= أنت رقيقة ومجاملة ، العمر ينسرب ، ولا ندرى ، وها أنت تهلين .. !

هى" مبتسمة " :

ـ عفواُ .. خدعتك عيناك ، فالمسافة الزمنية بيننا ليست شاهقة .

هو " مقتربا منها ":

= أتمنى ألا تكون بيننا مسافات !

هى " فى نفسها " :

ـ من أول جلسة تريد أن تلغي المسافات ..

وكأنه أدرك ما يجول برأسها

هو :

= الناقد ، والفنان المبدع ، يجب أن تتلاشى المسافة بينهما .

هى :

ـ زدنى وضوحاُ

هو :

= أقصد أن ينكشف المبدع للناقد .

هى " فى نفسها " :

ـ تتلاشى المسافة بيننا ، ثم أنكشف أو أتعرى ، لك أو أمامك ، لا فرق ! ..إنه الثمن ! أقرأه فى عينيك الواسعتين ، النهمتين ، وفى نبرات صوتك ، إنه ثمن الوصول !!

لم أستبعد هذا الاحتمال ، ولكنى أرجأته ، وجعلته أخر الاحتمالات .

ثم لماذا تعزف على هذا الوتر من البداية أيها الناقد الكبير ؟

.. أعرف أن جواز مرور أى كاتبة يكون من خلالك ، أو بمعنى أكثر وضوحاُ أو صراحة أو وقاحة ، من خلال فراشك ! .. بالتأكيد تلك الستارة السميكة تفصل المكتب عن غرفة أخرى للنوم !

هو :

= لماذا أنت ساهمة ؟

هى :

ـ كنت أفكر .

هو :

= فيم تفكرين ؟

هى :

ـ فى الثمن !

هو " مرتبكاُ " :

= أن .. أن .. أنت ..

" ثم مستدركا بسعادة " :

= أنت أذكى من قابلت .

هى :

ـ بل قل أكثر واقعية من كل من التقيت بهن .

هو :

= أدركت من قراءتي لبعض نصوصك أنك ..

هى " مقاطعة ":

ـ رغم أنني لم أكتب سطراُ ، أو حتى كلمة تشير من قريب أو بعيد إلى ...، إن كل من قرأ لى أدهشه أن ما أكتبه ...

هو " ضاحكاُ وهازئاُ :"

= ومن الذى قرأ لكِ ، رئيس نادى أدب مدينتك المجهولة ، وهو غالبا مدرس على المعاش ، وعلى الأكثر مدرس لغة عربية وتربية إسلامية لا يعرف فى الأدب أو حتى فى الدين أكثر مما تتضمنه مناهج وزارة التربية والتعليم .

" ومصطنعا الجدية " :

= المسكوت عنه فى قصصك يا سيدتى ، لا يفقهه إلا أولو النهى .

هى :

ـ وما هو المسكوت عنه فى قصصى ؟

هو :

= أنت ..

هى :

ـ أنا !

هو :

= نعم

هى :

ـ كيف ؟

هو :

= لم أرك فى قصصك ؟

هى " وكأنها تخاطب نفسها " :

ـ ولن ترانى .

هو " ضاحكاُ " :

= ولكننى أراك ، فهاتان عيناك السوداوان الجميلتان ، وهاتان شفتاك القرمزيتان الدقيقتان ، وخداك المتوردان ، وجبتهك العريضة بلون الفضة ، وأنفك العربى ، الشامخ

هى " ساهمة " :

ـ فيما مضى – من ربع قرن أو يزيد ، كانت عيناى عمشاوتان ، وخداى صدئين ، وشفتاى زرقاوين .. و.. " تغمض عينها "

هو " ناقرا بيده على المكتب " :

= أراك تسرحين ، وتشردين كثيرا .

هى " باسمة " :

ـ كلى آذان مصغية .

هو " ضاحكا " :

= ما أجمل أذنيك !

هى " ضاحكة " :

ـ كم واحدة دخلت هنا،وجلست على هذا الكرسى ، وسمعت هذا الكلام الجميل ؟

هو :

= ليس بينهن من فى جمالك !

هى :

ـ جمالى فقط .

هو :

= وموهبتك.

هى " جادة " :

ـ هل أنا فعلا ، أملك الجمال والموهبة ؟

هو :

= بالتأكيد . أنا عينى لا تخطئ الجمال ، وحدسى لا يخطئ الموهبة .

هى :

ـ ماذا لو أضفنا إلى نعمتى الجمال والموهبة نعمة المال ؟

هو " مصطنعا الدهشة " :

= المال !

هى :

ـ نعم .

هو " مبتعدا عنها بعينيه وممثلا الشرود " :

= الجمال " وكأنه يخاطب نفسه " ، والموهبة ، والمال ، لا .. لا ، " ثم مستديرا لها بعينيه ومصطنعا الجدية "

ـ لنكن صرحاء ، توفر المال ، والجمال ، والموهبة ، فى شخص واحد يكاد يكون معدوماُ ، بل مستحيلاً ، من خلال .. ملاحظاتى ، ومشاهداتى ، ومتابعاتى ، وقراءاتى ، وتجوالى ، وخبراتى التى تراكمت عبر سنين طوال ، أجزم باستحالة تجمع هذه النعم الثلاث فى شخص واحد . ولكن أنا لا أستطيع أن أكذب عينى ، فها أنت أمامى ، وعينى لا تخطئ الجمال ، وحدسى لا يخطئ الموهبة ، أنا أستطيع أن أشم الموهبة على بُعد أميال ، شممت موهبتك قبل عطرك ، وموهبتك أنفذ ، ملأت خياشيمى ، وتسللت إلى قلبى وعقلى قبل أن يتسلل عطرك إلى أنفى ، قبضت عليها من السطور الأولى ، ثم تأتى لتضيفى عطية ثالثة من عطاء الرب لك وهى المال .. هذا كثير !

" ضاربا كفا بكف .. ومستدركا " :

= أستغفر الله العظيم ، فليس هناك كثير على الله ، ولكن أصحاب المواهب وخاصة الأدبية ، لا يأتيهم المال إلا متأخرا ، وفى بلدنا هذا وزمننا هذا قد لا يأتيهم أبدا

" ناظرا إليها " :

= هل أتاك المال عن ميراث مثلاُ ؟

هى " متنهدة " :

ـ لم أولد وفى فمى ملعقة من ذهب .

" ومسحت بإبهامها جبتها وقالت " :

ـ هكذا أتانى المال !

" اعتدلت في جلستها .. وأضافت " :

ـ أنا أعرف أن أصحاب المواهب ينشغلون بمواهبهم عن جمع المال ، وإن كنت لا أنكر أن جمع المال يحتاج إلى موهوبين أيضا ، وقد أكرمنى الله بأن قيض لى زوجا يملك موهبة جمع المال ! .. وبعد أن آل المال لى وحدى ، ولم يكن لى ابنا أو ابنة يرثانى ، فكرت فى وقف جزء منه لأصحاب المواهب الأدبية الذين يعانون ، هؤلاء الذين يوازنون مثلا بين شراء أرغفة من الخبز وبين شراء كتاب ، هؤلاء الذين يقتطعون من أقواتهم وأقوات أولادهم وأطفالهم لينشروا إبداعاتهم ، كم من مرة – قرأت فى الصحف مناشدات لوزير الثقافة ولرئيس الوزراء ولأصحاب القلوب الرحيمة بالتدخل ، لعلاج الشاعر الفلانى ، أو الأديب العلانى ، لأنه للأسف لا يملك ثمن العلاج ولا حتى ثمن القوت ! .. كم يؤلمنى أن يصبح علاج الأديب استجداء .

" مخرجا علبة سجائره الأجنبية ، وقبل أن يفتحها ، مدت يدها ، ناولها سيجارة ، وأشعلها لها بقداحته الذهبية ، وأشعل هو الأخر سيجارته ، أخذت نفسا عميقا ، ونفثته ببطء واستطردت :

ـ ها أنذا يا سيدي أملك المال ؟

هو :

= والموهبة والجمال .

هى " ضاحكة " :

ـ أشك

هو :

= ألا تشعرين بالجوع ؟!

هى :

ـ بل أشعر به يقرص أحشائى .

هو " مديرا قرص التليفون "

هى :

ـ ماذا تفعل ؟

هو :

= أطلب العشاء من المطعم .

هى :

ـ بل أنا أدعوك للعشاء . فى مطعم أحبه ، وأحيانا أحضر إلى القاهرة خصيصا لأتناول وجباتى المفضلة فيه والتى يحسن طهاته طهيها وإعدادها .

هو " ضاحكا " :

= ولكنك " ضيفتى "

هى :

ـ كلنا ضيوف على القاهرة

هو " مبتسما " :

= نعم .. وأنا لست قاهريا !

هى " ضاحكة " :

ـ وأنا أيضا

هو :

= بصرة إذن .

.....

يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى