سفيان صلاح هلال - مراجعات البطل العاشق في رواية جميلة الجميلات للكاتب إسحاق بندري

يرى علماء نظريات التواصل أن السرد من تطورات الخطاب الإنساني المعبرة، وأنه نتاج عملية إدراك منظمة للوعي؛ ربما يفسر لنا هذا ميل الكثيرين في هذه الحقبة لاستعمال السرد في إنتاج أجناس أدبية شتى، فبرغم أن السرد هو أحد طرق التعبير النثرية، لكنه شاع في الشعر، وزاد استخدامه مع انتشار قصيدة النثر. لكنه يظل مرتبطا بالأنواع الروائية والقصصية، وقسمه علماء الأدب إلى أساليب كثيرة.
يجمع عمل "جميلة الجميلات"والصادرة عن دار "الراية" 2020 بين أسلوبين من أساليب السرد أو بدقة هما الأكثر طغيانا في العمل وهما: السرد الشخصي، حيث يحكي البطل "أمجد أرمانيوس" عن سيرة العائلة من وجهة نظر شخصية يعللها بمجريات حياة الأفراد سواء كانوا من داخل العائلة مثل حياة عمه "مكرم" وزوجته "كاميليا" وسيرة جده وجدته وبعض أفراد العائلة، أو حياة وافدين على العائلة مثل "أولجا" الباحثة و"ندى" المتدربة عند عمه.
كما يستخدم الكاتب أسلوب سرد اليومي من خلال المذكرات الشخصية. حدث هذا في استراجعه وتوقفه أمام مذكرات "كاميليا" بعد موتها، والصور المتوارثة للعائلة.
بطريقة غير مباشرة يقسم الروائي العمل إلى ما قبل ثورة يوليو وما بعدها من خلال عرض ذكرياته ومذكرات أسرته المرتبطة بمدينة "أسيوط" إحدى أكبر مدن الصعيد وأكثرها تفاعلا مع الحياة ... يكاد يرسم الكاتب خرائط للمدينة بوصف شوارعها واتجاهاتها وتقاطعاتها وذكر أسمائها، كما يكاد يصور طبيعتها وتكوينها المعماري وأنسابه الفنية بالكلمات.
تبدو فكرة الانحياز لما قبل ثورة يوليو واضحة في بداية العمل حيث يصور الجد بأناقته في الملبس، "يرتدي البدلة الكاملة صيفا وشتاء"، ويقتني الكتب المترجمة، وينفتح على الفنون الحديثة؛ حتى أنه يبدأ يومه بالاستماع إلى الموسيقى، كما أن اختيار مهنة القانوني لجده والتعليق عليها بقوله "حيث كان للقانون ورجاله مكانتهم في الحياة العامة" لا تخلو من تلميح لواقع معاش مضاد ... كما ينحاز الكاتب للعمارة القديمة التي يصفها بأنها ثروة حضارية تم إهدارها لصالح غابات الأسمنت. ويقدم لنا مدينته (أسيوط القديمة) بالصعيد مناظرة للإسكندرية، حيث تجتمع فيها جاليات كل الأعراق مما منحها ثراء علميا وحضاريا حتى في التصوير وخياطة الملابس بواسطة محترفين أجانب اختلطوا بحضارة مصر وأستولدوا فنا متجانسا رائعا؛ حتى أن جدته توصيه بالحفاظ على ألبوم صورهم التي التقطها لهم يوناني محترف. بينما تتحول "أسيوط" الجديدة بعد يوليو من مدينة "كوسموبوليتية" تتعايش فيها كل أعراق الإنسانية إلى مدينة طائفية بامتياز، يخشى فيها المحاضر من ذكر أسطورة في درس، حتى لو كانت الأسطورة مؤثرة على مجريات الفن والعلم والإبداع، فالمتشددون لا يعنيهم كل ذلك، ولكن يعنيهم أن بالأسطورة ألهة متعددة وأبناء آلهة وأنصاف آلهة، وهذا ما لا يتفق مع معتقداتهم! كما يصرح في إسقاط عابر أن حصوله كمسيحي على وظيفة معيد بالنسبة له حالة نادرة في هذه الأيام. كما أن رسمه لشخصيات الجدة والجد وشخصية كاميليا الملائكية وهي شخصيات قديمة مقابل رسمه لشخصيات "ندى" وأخو كاميليا وهي شخصيات معاصرة، يرصد تحولات الشخصية الأسيوطية والتي تحولت من "كاميليا" الأنيقة في كل شيء، الصابرة على زوجها العقيم، المقدرة لضعفه أمام أهله كل هذا لأنها تحبه ... إلى ندي التي لم تعبأ بحب البطل لها؛ لأنها رأت ابن عمه المقاول الغني أولى باهتمامها من هذا العاشق الذي حدد دخله بعمله الوظيفي.
لكن البطل سرعان ما يراجع أفكاره الكلية هذه. حين تجيء الباحثة "أولجا" ذات العين الحيادية في التقاط الصور التاريخية وتشريحها، وتهدي إليهم عروسة "ماتريوشكا" وهي عبارة عن دمية تتضمن داخلها عدة دمى أخرى بأحجام متناقصة، بحيث أن الأكبر تحوي الأصغر منها وهكذا... وقد فهمها القاص أنها رمز لتعدد الرؤى داخل الشيء الواحد؛ مما جعله يعود لقراءة مذكرات "كاميليا" التي أعطتها له قبل وفاتها؛ ليكتشف أن هذه الملاكة كانت تعيش في آتون مشتعل من نقد لزوجها وعائلة أرمانيوس كلهم، فتراهم ناسا شكلانيين ضعفاء. وأنها لولا الحب ما صبرت على شخصية زوجها "مكرم" والذي يقترب شكله الاجتماعي من حد الكمال الإنساني لكنه في حقيقته تراه شخصية ضعيفة وفارغة.. وربما كانت فكرة العقم التي ألحقها الكاتب بصفاته رمزية بحتة، تعبر عن عدم القدرة على العطاء والاستمرار، مهما كانت ذات شكلية محترمة ومرموقة. كما التفت أن مصر أوسع من المدن الكبرى والطبقات الأرستوقراطية، فهي أيضا كانت بلاد الحفاة المعدمين في القرى والعزب والنجوع، أولئك الذين همشتهم الاستعمارات؛ وكان لا بد من ثورة تحدث نقلة وتغير الشكل العام.
اعتمد السارد على التشويق والمفاجآت فلم يظهر لنا حدة زوجة عمه والتي رسمها من قبل كملاكة وسر عمه العقيم إلا عند انتهاء دورهيما في العمل كما رسمهما. كما أنه فاجأنا بالإفصاح عن شخصية "أولجا" الباحثة في نهاية دورها أيضا؛ ليكشف لنا اكتشافه أنها يهودية. ورغم المناقشات التي دارت بينهما حتى بعد الاكتشاف في إطار عملي وإنساني، ورغم المشهد الذي عبرت فيه الجدة عن حبها ل"أولجا" لأنها لم تعرف دينهابعد، وعاملتها من منطلق إنساني مجرد، فإن أمجد لا يستطيع أن يكمل قصة الحب هذه. ورغم شرح الأخرى عن الفرق بين الصهيونية واليهودية، ورغم إظهارها سطحية انتمائها لعالم المتدينين ككل، وإشارتها إلى متطلبات العالم الجديد إنسانيا وعلميا وعمليا؛ فأمجد أرمانيوس الأسيوطي المسيحي المصري يرفض هذه العلاقة ويستشفي منها. في إشارة رمزية لموقف الكاتب المتعاطف إنسانيا والرافض عمليا للاختلاط مع اليهود.
استخدم الكاتب الموسيقى والشعر والغناء كخلفيات معبرة في مسيرة العمل، مما يدل على عمق الشخصية المصرية الحسي والوجداني في أفراحها بالحب وآلامها تجاه التجارب المفارقة.
بوجه عام استطاع الكاتب أن يجعل العمل معبرا عن أفكاره.. لكن العمل كان يمكن أن يكون أعمق مما ظهر عليه بكثير. فالكاتب في الحقيقة قدم لنا نصا مغلقا؛ فخرج النص كعمل روائي ناقص.
لا يعقل أبدا أن مدينة كأسيوط ليس فيها تعاملات بين المسلمين وباقي الجنسيات، ولا يعقل ألا تكون هناك علاقات مع مسيحيين مصريين ومسلمين مصريين يسكونون في مدينة واحدة وصفها الكاتب أنها مدينة "كوسموبوليتية"! فالكاتب يدير العمل في مجتمع مسيحي يتعامل مع جنسيات مختلفة ولم يعرض لنا تعاملا واحدا مع المجتمع المسلم إلا من خلال نقد طلبة الجماعات في تلقي الأساطير، كما أن في جولاته مع الباحثة اليهودية بين الشوارع والعمارات التاريخية لم يذكر لنا مظاهر العمارة الإسلامية الغنية بها أسيوط ولم يذكر ملمحا إسلاميا واحدا للمدينة التي بها جامعة الأزهر التاريخية ومعهد الملك فؤاد والجمعية الشرعية ومسجد جلال الدين السيوطي وعمارات الأوقاف خاصة أن هذه المعالم تقع في طرقات الشوارع التي ذكرها بأسمائها وهو يسير فيها! فهل سيطرة الإحساس بالتهميش جعله يهمش الآخر في عمله؟ كما أن الكاتب دخل بأفكاره المسبقة عن مظلومية المسيحيين كأقلية؛ مما جعله يرى أنه محظوظ كونه تم اختياره معيدا رغم مسيحيته! وهذا بعيد تماما عن الواقع فقد درس لنا في أسيوط نفسها _أواخر الثمنينات وبداية التسعينات_ دكاترة ومعيدون مسيحيون، والمجتمع الجامعي في مصر لم يخلُ أبدا من أساتذة مسيحيين. ألم يكن الدكاترة: لويس عوض، وغالي شكري، وألفريد فرج أساتذة ونجوم العالم الثقافي في مجتمع ما بعد الثورة؟ بل أذكر أن رئيسيّ قسميّ اللغة الإنجليزية والجغرافيا في جامعة المنيا كانا مسيحيين فضلا عن كبار أساتذة القانون والطب وغيرهم!
... في الحقيقة أن العمل ورغم حلاوة السرد وتعبيره عن أفكار الكاتب الشخصية بجلاء لكنه حرم نفسه من الاستفادة الفنية من تحريك شخصيات درامية غنية بالمشاعر مثل: شخصية "كاميليا"، وشخصية "مكرم"، وشخصية "أولجا" وغيرهم.... هذه الشخصيات التي قدمها الكاتب كما يقدم الإعلامي تقارير جاهزة عن عمل تسجيلي للوصول لغايته الإعلامية، ولم يتركها تسير بنفسها وتتفاعل وتنمو داخل العمل؛ مما جعل العمل يبدو "فترينة" عرض للرؤيا الكلية للكاتب وبدت الشخصيات مثل شماعات يعلق عليها مبررات فكره!
في نهاية هذا العمل، أسأل بجد: في الزحام الكتابي الملح على المتلقي، هل نحتاج إلى وقفة لإعادة تعريف الأجناس؟ وهل هناك فرق مثلا بين الرواية وبين استخدام السرد الروائي لتوصيل فكرة ما؟ أم أن وصول الفكرة وحدها يكفينا لصناعة جنس أدبي؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى