محمد فيض خالد - يوم الزينة.. قصة قصيرة

في بَواكيرِ شبابي ، كُنت انتظر مَقدِم الرّبيع ، انتظار القروي السّاذج ، اختلِف إلى الحقولِ ؛ خِلسة اترقّبُ الأُفق الممدّد فوقَ بساطها المموّج ، بخضرتهِ السُّندسية المخضلّة ، وكأنّني ارقب ميلاد الحياة ، تنتابني هزّة اندفع ساعتئذٍ اطالِعُ في اجلالٍ الفضاء الوليد ، حين تَشعّ فيهِ بوادر السّكينة مُنشرحة ، لا تدركني لحظتها ملالة أو سأم ، اتسمّع تضاحك أشجار الجميز والنّبق في خمائلها ، صافية النّبرات يسري فيها المرح البرئ ، بعد إذ غاصَ فيها ماء الحياة ، تبادلني التِّرحاب في موسمِ ميلادها من كُلِّ عام.
اجوسُ خلالَ ملأٍ تحفُّ بهِ المُتع والهناءات ، عنوان بهجة ونبع مسّرة ، لا تستطيب الحياة ، ولا يستسيغ العيش دونها ، هكذا حتى تُلمّلم الشّمس ذوائبها من الأجواءِ.
أحيانا تسكب الحقولُ في مسامعي قصائد الحُبّ الخالص ، يختلج صدري بعاطفةٍ ثائرة ، تراودني فاغمض عينيّ مُرغما ؛ لاحتضن الفراغ المُعطّر بشذى تيجان البرسيم البيض ، المُتناثر سِحرا حلالا ، يُؤثر النّفس ، ويستعبدَ الوجدان ، ارشِف من شفتيهِ رحيقَ هواها العذري ، حينها يطمئن فؤادي ، وتستقرّ كوامن روحي ، فاهتف في تَبتّلٍ وخشوع ، في محرابِ الحُسن الرّباني : تباركَ ربي أحسن الخَالقين ، وعلى بُعدٍ ، تِحلِقُ عوائل اليّمام بأغاريدها الشّجية، تحطّ مشعشعة فوق عيدانِ السيسبان ، تُردّد في مسامعِ الوجود نغمها الرّقراق ، يسيلُ طَروبا ، تنبّهت فيهِ عواطف جديدة لأيامٍ مُقبلة ترتدي معها الطبيعة الرؤوم ، رداء الفرح والبهجة ، وفِي فتورٍ تتمايل شجيرات التوت باسقة في تخايلٍ ، تُناغي دفعات الهواء البليل ، مُستسلمة تُداعبها يد القدرة ، فعمّا قريب ستسيل أفرعها بثمراتٍ حُمرٍ وبيض ، تنضح عسلا جنيّا ، لذة للآكلين ، في فجرِ أيام الرّبيع كُلّ شيء يدعوك للنشّوةِ ، حينَ ينفلت نسيم الصّباح يحتضن وجه الحقول ، يبثّ في مسامعها أسرار الهوى ، ينشر في جو السّماء الفاتر أريج المحبة والوئام.
في هاتهِ الأثناء ، يبلغ شباب قريتنا أوج قوتهم ، وعنفوان فتوتهم ، فها هي سنابل القمح الشُّهب ترتعش مُتناوحة فوقَ عِيدانها المُجهدة ، تتهيأ لأن تحتضنها ألسنة المناجل ، وتضمّها يد الفلاحون ، لتُقام الأعراس ، ويجتمع شمل القلوب التي
تواعدت _عاما كاملا_ اللُّقيا على بساطِ العفّة والفضيلة.
ومع هذا وذاك ، تُؤمِّن روائح طلع النّخيل الفوّاح على أفعالِ الرّبيع وسحره ، مع انبلاجِ الصَّباح اُبعثُ من جديدٍ ، اُسابِق في اهتياجٍ أسراب الفراش زاهية ألوانها ، اتربّص بطلائعِ " أبو الدَّقيق " تحثني أن آخذ نصيبا من السعادةِ ، في عُرسِ الطبيعة الحافل ، وحتى يقضي الرّبيع أيامه ، تظلّ المتعة شاخصة في القرية ، لتكون لما يعقبها آية ، ولمن يخلفها سلوى .


محمد فيض خالد / مصر


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى