عبدالامير المجر - عباءة بلاسخارت.. قصة قصيرة

أوووه .. وكيف معكم يا اولاد .. الم تنتهوا بعد من العباءة ...؟
قالت السيدة العجوز وهي تعنف احفادها الذين ما أن يجتمعون في الدار يوم الاحد، الاّ وكانت العباءة محور متعهم ومزاحهم .. ترتديها مارغريت وتلف بها جسدها وسط ضحكات ابناء عمها واصدقائها ممن يحضرون من أجل التمتع بلبس العباءة والتقاط الصور بها .. يسرع جورج لينزعها منها كي يلبسها حبيبته ماري وسط ضجة من الضحك والإحتجاج والنزاع على إرتدائها، فتصل اصوات الضجيج الى الجدة التي تجلس في الشرفة، تستحم بشمس الضحى وتتجول بين وقت وآخر بين المطبخ، حيث يعد الغداء وبين الاولاد المنهمكين بالعباءة التي ورثوها عن صديقة جدتهم التي حافظت عليها وعدتها من أعز من ما تركته صديقتها لها..
مازالت تتذكر ذلك اليوم الشتوي من العام 2060 الذي تساقط فيه الثلج بكثافة على المدينة وكانت جينين قد بلغت السابعة والثمانين وشعرت بأن ايامها أخذت تتساقط كأوراق الخريف في ليل عاصف .. لقد هدّت قواها السنين بعد ان تركت خلفها مشاوير كثيرة توزعت اكثر من ميدان في العالم، نائبة برلمانية ووزيرة للدفاع في بلدها وممثلة للأمم المتحدة في العراق، ومهمات أخرى في اكثر من بلد اسيوي وافريقي، ممثلة عن الأمم المتحدة مرة وعن الإتحاد الاوربي مرة اخرى، وإحيانا كانت تمثل بلدها هولندا بشكل غير رسمي لتحل مشاكل عالقة تعجز الدوائر الدبلوماسية عن حلها، فتكلّف بها وتذهب بصفتها الشخصية، لاسيما في الشرق، حيث الحضور المعنوي للأشخاص له وقع كبير عند الساسة هناك، فتعود منتصرة وقد حققت لبلدها شيئا تنتظره الدولة او الناس .. كانت عيناها الصفراوان ذابلتين وقد غطتهما التجاعيد تقريبا، وصوتها بات واهنا، وهي تحدّث العائلة والأصدقاء المجتمعين حولها، بأمور كثيرة تخص الميراث وأشياء أخرى تخصها، كان همها ينصب على إرثها الإرشيفي الخاص، وقد كلفت الابن الاكبر للعائلة بان يجعله في متناول الناس في المتحف الصغير الذي تكفل ببنائه احد أغنياء العاصمة امستردام، ليخلد ذكرى سيدة خدمت الشعب الهولندي ورفعت اسم بلادها في اكثر من محفل دولي .. ثم التفتت الى صديقتها ساره ، وقالت؛ أما العباءة فهي لك، احتفظي بها للذكرى، ولابأس من ان ترسليها للمتحف يوما واحدا في الإسبوع ليطلع عليها الناس، توضع بالقرب من صوري وأنا أرتديها في العراق، لاسيما حين قابلت المرجع الاعلى في النجف واثناء المؤتمرات الصحفية التي اعقبت لقاءاتي به.. يوم واحد وتعيديها، لأني لا أريدها تبقى حبيسة المتحف، ثم مدت يدها ووضعتها على العباءة التي كانت قربها مغلّفة في علبة معدنية مذهبة، واعطتها صديقتها التي ضمتها الى صدرها وقد خنقتها العبرة، لأنها تدرك كم تحب جينين تلك العباءة التي لم تجعل أحدا يقترب منها، فمنذ أن عادت من بغداد وهي في غرفتها وقد خصصت لها مكانا في دولاب ملابسها، وإحيانا ترتديها وتدور وحدها في غرفتها، تلف جسدها الصغير بها، وتقف أمام المرآة التي تعرض أمامها صورا عديدة تعيدها عقودا الى الوراء .. صور استقرت في الذاكرة على الرغم من آلاف الصور الاخرى التي اتت بعدها في رحلة حياتها وعملها السياسي والدبلوماسي .. وها هي صورة اليوم الأول لوصولها العراق ولحظات إستقبالها كممثلة للأمم المتحدة في البلد الذي كان غارقا في ازماته بعد احتلاله من قبل اميركا في العام 2003 .. قال لها أحد العاملين في المكتب الاممي وهو يبتسم، لابد من العباءة، ثم مد يده الى الحقيبة التي معه وأخرجها، وأردف؛ لا تهتمي انها مناسبة تماما لك، قسنا طولك في الكومبيوتر وكل شيء على ما يرام! .. ضحكت جينين وتناولت العباءة ثم ارتدتها على الفور .. لفّي جانبيها العلويين بكفيك واجعليهما اسفل الفكين .. نعم، هكذا .. قال لها، وضحكا .. وكان هذا قبل يوم من أول مقابلة لها للسيد السيستاني في النجف حيث يقيم المرجع الاسلامي الشيعي الاعلى ..
حين خرجت من اللقاء، كانت ترتدي العباءة وهي تسير في الزقاق الضيق، حيث يقع مقر المرجع، ويفضي الى منصة وضعت عند مدخله، قرب الشارع، وعليها عشرات لاقطات الصوت لمختلف الفضائيات.. كان ظهورها للمرة الاولى بهذا الشكل، وبعد اللقاء انتشرت الصورة في مختلف وسائل الاعلام العراقية والعالمية، فكانت مناسبة للطرفاء العراقيين ممن استغلوا تلك الصورة وعالجوها فنيا لتصاحب اغنية عراقية مشهورة .. يم العباية .. حلوة عباتج ...! لكن تكرار ظهورها بالعباءة جعلها تبدو أمرا عاديا، وصارت صورتها المسبقة في اذهان الناس، تسبق ظهورها في الاعلام، فاختفت الدهشة، لكن أحدا لايدري ان كانت هي نفسها قد غادرت دهشتها بصورتها وهي تلتف بالعباءة النسائية العراقية ام لا .. ابتسامتها التي توسع من وجهها الدائري الاشقر، ومسحة الخجل على وجهها، تحيل اغلب العراقيين الى بنت المحلة الشعبية البغدادية التي تخرج من بيت اهلها الى السوق مساء، فتلقى عبارات الغزل من الشباب وإحيانا إطراء الصديقات على عباءتها او ملابسها او عطرها .. احيانا تسأل نفسها عن هذا الخجل الذي رافقها منذ الصغر، وتتذكر ضحى ذلك اليوم الذي كانت فيه صحبة امها في حديقة عامة عند ضواحي امستردام التي كانوا في سفرة اليها، اخذتها امها للنزهة مع بعض صغار العائلة وصبيانها.. مرح الصغار يملأ قلب الام بهجة وجينين بدت مسرورة كثيرا .. في مكان من الحديقة لاحظت الأم ان امرأة بملابس غريبة بعض الشيء ظلت تلاحق جينين بنظراتها وبشكل مثير للانتباه من دون الصغار الآخرين، لم تكن الأم تعرف تلك المرأة التي تقدمت اليهم وهي مازالت تثبت نظرها بوجه جينين، ثم قالت لأمها؛ أهي ابنتك؟! .. ردت الام بعفوية؛ نعم، ثم نظرت للمرأة التي لم تعرف الأم انها غجرية، لها قدرة على كشف الطالع. كانت قد أتت مع فرقة غنائية غجرية من اسبانيا الى هولندا، وخرجت عند الاستراحة الى الحديقة للتمتع بالشمس وجمال المكان.. اقتربت الغجرية اكثر من جينين، وقالت وهي توجه الكلام لأمها؛ ان شأنا كبيرا ينتظر هذه الصغيرة، سيملأ اسمها العالم وستكون من المشاهير، لكنها ستبتعد كثيرا عن بلدها وبيتها، قد تعاني وتتعرض لبعض الخوف، الاّ انها ستعود اخيرا وتعيش بسعادة بعد أن تترك وراءها الكثير من الحكايات والقصص التي ستنشغل بها الناس طويلا ... شكرا للطفك ! ردت الأم بلا مبالاة على الغجرية التي اعادت بهدوء يد الأم التي امتدت اليها بقطعة نقود وغادرت وهي تتلفت بين لحظة واخرى نحو جينين الصغيرة المشغولة عن كل ما قالته الغجرية لأمها، باللهو بين دفئي العائلة وشمس الضحى ..
ضمت الصديقة هدية صديقتها في مكان خاص في غرفتها، وظلت تحرص على تعطيرها بالعطر الذي كانت تضعه جينين على العباءة، وايضا كانت تذهب اسبوعيا قبل بدء الدوام، ومعها العباءة لتعرض يوم الثلاثاء من كل اسبوع الى جوار صورها في المتحف، وتعود في نهاية الدوام لإستردادها، وهكذا .. لكن يوم الاحد حيث العطلة التي يجتمع فيها اولاد اولادها وبناتها، يكون يوما للصخب بعد ان يرغمون جدتهم على اخراج العباءة والتقاط الصور بها.
حين عادت جينين من النجف الى بغداد عصرا، وبعد أن ارتدت العباءة للمرة الأولى، شعرت بالتعب، لاسيما إنها كانت مشدودة الاعصاب بعض الشيء، فذهبت الى غرفتها فورا لتنام، وحين غفت وجدت نفسها اشبه بطائر كبير يسبح في الفضاء، وراحت تحلق بين الغمام الأبيض بعباءتها التي كانت بيضاء ايضا وواسعة كثيرا، فكانت بمثابة جناحين عملاقين يحملانها للأعالي، حلقت طويلا وشعرت بعذوبة غير متناهية تغذيها غفوتها العميقة بعد التعب فامتزجت بعذوبة الحلم الذي اخذها الى مدينة هيرلن، مسقط راسها في محافظة لومبرك، وراحت تتلمس بعينيها اماكن عديدة سكنت أعماق قلبها ثم اتجهت الى امستردام، المدينة التي انطلق منها تألقها ونجاحها، حيث الاصدقاء والأحبة الذين آزروها في رحلة حياتها وعملها، وهاهي تحلق فوقها، مرت على مدارسها التي تنقلت بينها قبل التخرج الاخير، وراحت تنادي على الناس الذين أخذوا يلوحون لها وهم في الشوارع والحدائق والبيوت، كانوا يرونها تطير فوقهم كالحمامة العملاقة، أو هكذا تشعر، حتى هبطت في الحديقة، المكان الذي التقت فيه عائلتها بالغجرية، أيام طفولتها، حيث حدثتها امها عنها وعن نبوءتها بعد أن كبرت.. أخذت تتجول في الحديقة بين الاشجار التي غلفها الصمت، إذ لا احد هناك، وفجأة تراءى لها ظل إمراة، كانت تجلس في الطرف القصي من الحديقة، صامتة كما لو إنها تتأمل الفراغ .. عصرت جينين ذاكرة الطفلة لتستعيد بعضا من صورة تلك المرأة وشيئا فشيئا إهتدت الى إنها الغجرية التي تنبأت لها بان تكون ذات شأن يوما ما، انها في الحديقة ذاتها، اتجهت نحوها بخطوات متثاقلة، واقتربت منها، كانت المرأة متلفعة بثوب ملوّن فضفاض، تعصب راسها بشال بني ترصعه ورود خضر غامقة، جعلته ينسرح على كتفها، اقتربت منها جينين اكثر، وشعور الطفلة يستحوذ عليها في تلك اللحظة، وقفت قبالتها وابتسامتها الخجولة تغلف وجهها، ثم حيّتها، لكن الغجرية لم ترد التحية، كررت التحية فالتفتت اليها الغجرية، وقالت؛ كنت انتظرك لماذا تأخرت! .. تلعثمت جينين ولم تجد جوابا، لكن الغجرية قالت لها؛ كانت المسافة طويلة من بغداد الى هنا وترهق طائر صغير وجميل مثلك! ثم مدت يدها الى العباءة، الجناحين، وراحت تتلمسها، بعدها تنهدت وأطلقت زفرة عالية وقالت؛ ستتعبين ايتها الصغيرة، لأنك دخلت ملعبا واسعا، لاعبوه غير منسجمين واهواؤهم شتى..! ارتبكت جينين وقالت؛ انا ...! ردت عليها الغجرية بحدة؛ كما قلت لك .. انك دخلت ملعبا صعبا لا أعرف متى تخرجين منه ..ثم وضعت عيناها بعيني جينين وقالت؛ لكنك ستعودين وفي يدك كأسا من ذهب واكياسا من الحلوى! فرحت جينين وهمت أن تقبل الغجرية، لكنها اختفت فراحت تنادي عليها، ولم يجبها سوى الصدى الذي يقرع بأذنيها.. اخذت تتقلب في فراشها في بغداد وهاتفها قربها يدق، مدت يدها اليه، بعد ان صحت من حلم عذب ومربك في آن، ربما هناك شيء مهم، حدثت نفسها، لكن الصوت عاجلها من الهاتف.. انه موعد العشاء، وعرفت انها كانت قد نامت مبكرا اليوم.
في الثلث الاخير من القرن الحادي والعشرين، تغير كل شيء في الدنيا، لكن ذكريات الاهل تبقى الشيء المحبب لنفوس الابناء والاحفاد، ولعل من بين اهم ما تركته جينين لأسرة بلاسخارت واصدقائها هو تلك العباءة، المقترنة بأفلام تظهرها فيها وهي تمارس نشاطا مميزا في طبيعته وشكله في العراق، والاحفاد الذين يفخرون بصديقة جداتهم، لديهم ما يدلل على هذا الفخر، العباءة التي يتسابق الأصدقاء لمشاهدتها وتتوق الفتيات الى لبسها، الأمر الذي يجعل من أيام الأحاد اشبه بمهرجان للإحتفاء بهذه العباءة، يفرح الأم ويشعرها بالفخر بصديقتها التي تركت هذا الارث الجميل وخصتها به من دون صديقاتها الاخريات، لمعرفتها بمدى حرص سارة واحترامها للمقتنيات ذات القيمة المعنوية، وقد ظلت العباءة من اثمن ما تمتلكه جينين، او هذا ما كانت تقوله لصديقاتها باستمرار، لذا اختارت سارة لتأتمنها عليها، وكثيرا ما تبقى في المتحف نهار اليوم حتى نهاية الدوام، لتطمئن على سلامة العباءة وتعيدها معها وقد رشتها بعطر صديقتها القديم الذي كانت تعطرها به وتعطر به نفسها ايضا.
في أحد الأيام، دخل المتحف شاب وشابة، الشاب ببشرة قريبة من الحنطية والشابة شقراء، قدما نفسيهما للسيدة سارة صديقة السيدة جينين بلاسخارت، او هكذا عرّفهما بها احد المسؤولين في المتحف، حين تقدما منها.. الشاب من اصول عراقية، هاجر والده الى هولندا قبل عقود وحازوا الجنسية الهولندية، لكنهم ظلوا متعلقين بجذرهم العراقي، وهذا ما قاله الشاب للسيدة سارة التي رحبت به وبزوجته الهولندية، ثم اردف يقول؛ ان اصل عائلتنا من النجف، وقد حدثني والدي كثيرا، نقلا عن جدي الذي كان يسكن قريبا من ذلك الحي الذي تظهر فيه السيدة جينين بلاسخارت، حيث يقيم المرجع الشيعي الاعلى، ثم طلب من السيدة سارة ان تسمح لزوجته الهولندية بارتداء العباءة لدقيقة لتلتقط فيها صورة .. لم يحدث هذا مع احد آخر، اذ لم تسمح السيدة سارة بذلك خشية ان تتلف العباءة، لكنها شعرت بالارتياح للشابين وطلبت من احد المسؤولين ان يخرج العباءة المعلقة في مكان قريب من شاشة تعرض بإستمرار نشاطات السيدة جينين بلاسخارت في العراق، وتبدو في اغلبها مرتدية العباءة تقابل المرجع الاعلى او تعقد مؤتمرا صحفيا في النجف .. اخرج المسؤول العباءة بعناية فيما كانت السيدة سارة تراقب باهتمام، فالتقطتها الشابة الهولندية، وزوجها يراقب ايضا، وسعادة غامرة تطفح على وجهه، ثم ارتدتها بشيء من الارتباك، لكنها اتقنت الارتداء وسط فضول الزوار ممن تجمعوا لرؤية الشابة الهولندية بالعباءة العراقية، عباءة بلاسخارت نفسها، ثم ساد صمت مدهش تسيّد المكان، فبدت الشابة تشبه جينين بلاسخارت تماما، فيما كان زوجها عراقي الاصل يرافقها، وكما لو ان سحرا مسّ المكان كله فأحاله الى شيء آخر، راحت معالم المتحف تتغير بشكل غريب وتستحيل الى زقاق نجفي قديم، الزقاق الذي كانت تسير فيه السيدة جينين بلاسخارت نفسه وهي تتقدم نحو المنصة عند مدخله .. الشابة تسير وسط ذهول الجميع، حتى اعتلت المنصة ذاتها، بعباءتها العراقية وسط تزاحم الفضائيات التي راحت تنقل الحدث الى العالم نقلا مباشرا، لأن رؤية جديدة قدمتها السيدة جينين بلاسخارت لحل مشاكل العراق وقدمتها للمرجع الاعلى الذي بارك المقترح ووعد بدعمه!
ملاحظة: الاشخاص والاحداث افتراضية وفي ازمنة افتراضية، لكن خلفية الحدث واقعية بالتاكيد.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى