محمود عرفات - إصبع ضائعة

بعد نصف ساعة.. فتحوا الباب ورأيتهم ينقلونها إلى غرفتها. فتحتْ عينيها في وهن.. فقلت وأنا أمسح جبينها برفق: حمدًا لله على سلامتك. ردت بهمهمة خافتة لم أتبينها. انصرف العمال بالتروللي وتركوا الممرضة التي أحكمت الغطاء عليها. لاحظت أنها وضعت لفافة صغيرة بالقرب من قدميها فظننت أنها عبوة دواء أو حقنة سيحل موعدها بعد قليل. سألتها: كيف الحال؟ فقالت الجملة الشهيرة: والله.. المدام زى الفل. تمتمتُ شاكرًا.. ونسيت اللفافة.
غفوتُ قليلًا على السرير المجاور لها.. ثم انتبهتُ على صراخها. انتفضت وخرجتُ أستدعي الممرضة. جاءت بعد قليل بخطوات بطيئة. قلت في نفسى: السرعة ليست مطلوبة.. الإتقان هو المطلوب. أعطتها حقنة. نظرت نحوى وقالت: حقنة مُسكِّنة.. هذا وقتها. قبل المغرب بقليل حضر الجراح وداعبها مطمئنا ثم طلب منها أن تأكل ما يروق لها.. وأكد بوضوح: لا توجد ممنوعات. استبشرَت خيرًا فساعدتُها لتنهض ببطء وتركن ظهرها إلى شباك السرير. داعبتها: ما رأيك.. نأكل فسيخ ورنجة.. أو جمبري؟ أشارت وهى تبتسم في وهن وقالت: بلاش هزار.. هات لي فرخة مشوية. هتفت: من عيني. وهاتفت ابني أن يأتي مسرعًا بالغداء.
جاء.. واطمأن على أمه.. وتناولنا الغداء. حاولت إضفاء البهجة على القعدة ببعض القفشات. بعد أن شربنا شايًا مضبوطًا تذكرتُ اللفافة التي تركتْها الممرضة عند قدمي زوجتي. اعتراني قلق مبهم.. فاحتلتُ حتى جلست بالقرب من اللفافة. مددت يدي وأخفيتها في قبضتي وغادرت الغرفة. في الممر الطويل المعتم الذى يضم غرف المرضى فتحت يدي.. ففوجئت أن بداخلها إصبع القدم المبتورة. أصابني فزع مفاجيء. اندفعت إلى الممرضة فلم أجدها.. لعلها تقدم خدمة لمريض آخر. حادثت نفسي مهدئًا: ماذا جرى لك يا رجل.. ما ذنبها؟ لعلها تعليمات الجراح.. أو.. تذكرت مشاهد ما زالت ساخنة في رأسي. عاينتُ في الحرب مناظر أبشع من رؤية إصبع مبتورة.. جثث الشهداء مغسولة بالدم.. الجراح عميقة.. والأطراف متناثرة.. والرؤوس منفصلة عن أجسادها.. والصراخ مطارق تدق الرؤوس وتدمي القلوب وتدمع العيون.. والكل ذاهل.
أفاقني قدوم الممرضة.. انتابتها الدهشة إذ رأتني متوترًا. مددت يدي وسألتها بغلظة: ما هذه؟ اتسعت عيناها بنظرة لائمة: إصبع المدام.. هل ألقيها في النفايات؟ السؤال انقضَّ على رأسي كدش بارد.. فارتعدت ولم أنطق. لا نستطيع أن نتخلص من أي جزء من جسد الإنسان إلا بالدفن.. توجه إلى مقابركم وادفن الإصبع. الجملة الأخيرة نطقتها بصرامة آمرة أربكتني.. ثم أعطتني ظهرها ومضت. رجعت إلى الغرفة مشوشًا لا أعرف كيف أتصرف. قررت أن أمنح نفسي وقتًا مناسبًا للتفكير.
أنا غريب عن هذه المدينة التى قضيت فيها أربعين عامًا. وليس لي فيها مدفن لأن مدافن الأسرة فى قريتي البعيدة قرب شاطىء البحر. لا أعرف أحدًا يمكن أن يقدم لي هذه الخدمة. هل أجد من يقبل فتح مقبرة لدفن إصبعًا مبتورة؟ ماذا أفعل يا إلهي؟ زوجتي لاحظتْ أني شارد.. فسألتني: مالك؟ قلت: أفكر في رواية الإصبع السادسة لخيري الذهبي. فقالت في أسى: هل كتب عن الإصبع السادسة أم عن الأصابع الأربع؟ قلت: لا فرق. ولذت بالصمت. استلقى ولدي على السرير المجاور وراح فى النوم. قلت: ماذا تريدين للعشاء. قالت: زبادي. فخرجت.
أسير في شوارع المدينة التي أراها ضيقة وتكاد تلفظني خارجها.. والإصبع المبتورة في جيبي.. أواصل حيرتي.. أين أدفن الإصبع؟ لو ظلت معي حتى الصباح لتعفنت. أدرت في رأسي أسماء معارفي وأصدقائي في هذه المدينة التى تآلفت معها.. فلم أجد أحدًا يمكن أن يحل المشكلة. المدينة التى لا يمكنني الدفن فيها لن تكون مدينتي. أدركت أن تآلفي معها حدث بطول العشرة.. فكرهتها.. بما يساوي حجم التآلف الذى ضمَّني بها. لا أستطيع التصرف في هذه الإصبع. فكرت أن أدفنها تحت أية شجرة في الشارع الرئيسي. اخترت شجرة كبيرة واقتربت منها.. انتبهت أنها تجاور البنك.. دهمني إحساس بالخطر. خفت أن يراني الحارس الليلي.. فيظن أننى أنوي شرًا فيلقي القبض عليّ.. وقد يطلق الرصاص.. ما هذه الليلة السوداء؟ تجاوزت البنك واقتربت من قسم الشرطة.. تركته وظهر لي مكتب البريد فظننته يُخرج لي لسانه.. أسرعت فإذا وكالة بيع الفاكهة والخضر بالجملة.. خفت من المعلمين وما قد ينالني من سخريتهم وتقريعهم. سرت حتى هدَّني التعب. لم أجرؤ على العودة للمستشفى دون إتمام المهمة. عضضت شفتي وأنا أسترجع كلمات الممرضة عن تكريم جسد الإنسان بالدفن. انحرفت يمينًا فظهرت أنوار المدينة منعكسة على صفحة النهر الهادئة. اقتربت من الشاطيء.. ونظرت إلى المارة والمتسكعين على الكورنيش. استندتُ على الحاجز الحديدى.. وسرحت في الماء القليل الساكن.. هذا النهر يمنحنا الحياة، ونهينه كل يوم.. تذكرت أزمة النهر وحيرتي مع الإصبع التي تثقلني. ظننت أني أسمع أنينها. وضعت يدي في جيبى وأمسكت بالإصبع المكفنة بالشاش الأبيض. نظرت إلى الماء الضحل.. وبقع الضوء المتناثرة على السطح الساكن. سمعت بقايا أصوات طيور المساء.. فأفلتت مني آهة.. ظننت أنها قد تريحني من هم أثقل روحي. كبرت الآهة واستطالت واجتذبت حروفًا تقاربت وتآلفت فتحولت إلى سؤال: هل النهر ملاذنا دائمًا؟
محمود عرفات




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى