د. نجاح إبراهيم - قارورةٌ متأهبة

الكتابُ قارورةٌ فريدة ، وما بداخلها عطرٌ لا ينامُ، ولا يبهتُ مع الأيام، ولا يخفتُ شذاه.
يقدّمُ المعلومة بسلاسةٍ دون عصا، ولا غضب ؛ لا يملُّ منك ولا يختبئ، وغالباً ما يتجذّر فيك شيءٌ منه.
لهذا حظيَ بيومٍ عالمي، يهتمُّ به عشاقُه في مختلفِ أنحاءِ العالمِ وذلك في الثالث والعشرين من نيسان.
لعلَّ الهدف من إقامته هو التشجيع على القراءة، واكتساب المعرفة واقتناء الكتب، وترسيخ مفهوم الملكية الفكرية للمؤلفين ، وإحياء ذكرى الكاتب الذي غرسَ شجرةً فينا و تركَ ظلٍّا وارفا .
والسؤالُ الذي يتبادرُ إلى الذّهن بعد الكمِّ الكبيرِ من الكتب التي أمسكت بها أصابعنا وحملقت فيها أعيننا: ما الذي تبقى من كتاب ما؟ ما الذي ترسخ في عقولنا ونفوسنا؟ أتراها الأفكار، أم الأحداث التي ذُكرت فيه؟ أم بعض تفاصيل كانت تشبهنا فتمسكنا بها؟
لاشكَّ أنَّ الكتاب الذي لم يغادرنا هو الكتاب الجيد الذي انضوى على جودةٍ وأفكارٍ وأسلوبٍ ، ومادةٍ لافتةٍ دغدغت أحاسيسنا وحياتنا وبيئتنا وثقافتنا، وحالتنا النفسية أثناء قراءته، فقطف الدّهشة والانبهار منا ، فتساقط ندى ترسب في دواخلنا.
فظللنا نتذكرُ منه فكرةً وقفت كغزالة رامحة ، أو احساساً ما دون غيره ، أو ربّما خيطاً معرفياً حوته طيات الكتاب.
إنَّ هذا الشعور أو ذاك يؤكدُ أنَّ الكتابَ قد أحرزَ نجاحاً في التأثير فينا، لأنه داعبَ ما في أنفسنا، فيستحق أن نقولَ لقد نجح في مخاطبة لا وعينا والنفاذ إليه. فأية كتابة هي تلك التي ضمّتها دفتا الكتاب فكان لها هذا الشأن من الديمومة؟!
لاريب إنها الكتابة العميقة التي يمتلُكها الكاتب ويمسكُ بزمامِ القدرة على الخلق بأسلوبٍ خاص ومؤثرٍ وفعال لسبر أغوار لاوعيه هو ، ومن ثم تهيئة عناصر هذا اللاوعي لتكون قادرة على التفاعل مع عناصر لاوعي المتلقي كما قال الكاتب الأردني سعود قبيلات في كتابه" بيت قديم متعدد الطوابق"
ثمّة تقنياتٌ أخرى يسلكها الكاتبُ لمخاطبةِ لاوعي المتلقي مثل تقنية الحلم والأسطورة والتقنية المذهلة الاسقاطية التي تؤرثُ صوراً أدبية ومفردات لغوية موحية ومتأهبة لتنشيط عمل العقل الباطني.
والآن: هل يحقُّ لي أن أذكر كتاباً، أو كتابين بالأحرى لم ينطفئا قط من ذاكرتي، مازال عطرهما يتفاوحُ منذ مراهقتي القرائية؟
هل أذكرُ " الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، وتلك العبارة الشامخة : " إنَّ النفسَ الحزينةَ المتألمة تجدُ راحةً بانضمامها إلى نفسٍ أخرى تماثلها بالشعورِ وتشاركُها بالإحساس مثلما يستأنسُ الغريبُ بالغريبِ في أرضٍ بعيدةٍ عن وطنهما.." ورواية دكتور جيفاكو للكاتب الروسي بوريس باسترناك، التي تجمعُ بين الحبِّ والسردِ الجميلِ وفنِّ الطبِّ والعلاقات الاجتماعية، وبين أحداث حربٍ وأوارِ ثورة.
إنها القراءة التي تصنعُ إنساناً كاملاً..
إنها الكتابة التي تصنعُ إنساناً دقيقاً..
إنه الكتابُ ، القارورةُ المتأهبة لتقديمِ العطرِ، الذي يخلقُ منك كما قيل." داهية محنكاً" وشخصاً مغايراً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى