علي خليفة - أبعاد الحلم اليوتوبي في مسرح يوسف إدريس

كثير من المفكرين والفلاسفة والمبدعين لم يرق لهم حال الإنسان على الأرض في نشره للحروب والدمار فيها، وكذلك لم يرق لهم ما يتصف به كثير من الناس من خصال سيئة، كالكذب والنفاق والغش والغدر، ولم يكن غريبا لهذا أن يتصوروا مجتمعا فاضلا تختفي منه رذائل الإنسان، وتسود فيه الفضيلة، وهذا هو مجتمع المدينة الفاضلة أو المجتمع اليوتوبي.
وقد أعطانا أفلاطون الفيلسوف الإغريقي ملامح لهذا المجتمع الفاضل في كتابه الجمهورية، وكذلك صور لنا توماس مور مجتمعا فاضلا في كتابه اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة، وكذلك نرى للفيلسوف العربي الفارابي كتابا يرسم فيه صورة للمجتمع الفاضل من وجهة نظره سماه المدينة الفاضلة، وهناك كتب أخرى لمفكرين وفلاسفة عن المدن الفاضلة، وكذلك هناك أعمال أدبية عديدة تم فيها تصوير المدينة الفاضلة من خلال خيال هؤلاء الأدباء.
وسنكتفي في هذا المقال بعرض تصور يوسف إدريس للمدينة الفاضلة أو المجتمع اليوتوبي في مسرحه، وسنرى أن يوسف إدريس قد انشغل بهذا الأمر في ثلاث مسرحيات من مسرحياته؛ مما يدل على نقده الشديد لحياة الناس على الأرض، ورغبته في تغييره سلوكياتهم للأفضل، وتصوره خلال ذلك لمجتمع فاضل يمكن أن يكون نموذجا يحتذيه الناس على الارض، أو يكون ملهما لهم في حياتهم على الأرض.
تصور المجتمع الفاضل عن طريق حلم اليقظة
ولما كان من المستحيل تحقيق المجتمع الفاضل على الأرض بما في كثير من الناس من ميول عدوانية ورغبة في الطمع والاستحواذ على ما لدى الغير فإن تصور المجتمع الفاضل على الأرض يمكن أن يكون من خلال حلم اليقظة، كما نرى هذا في مسرحية جمهورية فرحات، ففي هذه المسرحية نرى الصول فرحات يشكو من كثرة الأشخاص الذين يأتون له في القسم؛ ليقدموا بلاغات ضد غيرهم، وهو يرى أن أكثر هذه البلاغات كيدية، وأنه هو الضحية الحقيقية لها؛ لأنه يضطر لكتابتها، والنظر في أمرها، كما أنه من خلال عمله هذا يكتشف قاع المجتمع، وما في بعض الناس من شرور وميل للجريمة، ويتخيل الصول فرحات في حلم يقظته الذي يحكيه لشخص يقف أمامه في مكتب النوباطجي بالقسم - ويظنه جاء متقدما ببلاغ كغيره ممن يأتون له - هذا الحلم برسم صورة لمجتمع مثالي مخالف لذلك المجتمع المشغول بتوافه الأمور والذي يتطاحن بعض أفراده مع بعضهم لأسباب تافهة، وهذا المجتمع الذي يتخيله يكون فيه كل شخص عاملا بجد في المجتمع، ويلقى في الوقت نفسه تقديرا كبيرا من مجتمعه بتوفير السكن المناسب والترفيه الذي يعيد له نشاطه.
وأغلب الظن أن حلم اليقظة هذا الذي حلمه الصول فرحات كان يحلمه الكاتب يوسف إدريس بعد قيام ثورة يوليو، ولعله دعا من خلال هذا الحلم القائمين على الدولة في ذلك الوقت لتحقيقه.
والحقيقة أننا نرى صورة شبيهة لهذا الحلم في أغنية المسئولية لصلاح جاهين، ولكن للأسف لم يتحقق هذا الحلم بالشكل الذي يجعله واقعا يسعد فيه كل الناس، بل حدثت حوادث منها نكسة ٦٧ حولت ذلك الحلم لكابوس مرعب، وقد تجاوزه المصريون في حرب أكتوبر ٧٣، ولكن ذلك الحلم ما زال مأمولا تحقيقه في مستقبل الأيام بإذن الله.
ثانيا: التطلع لتحقيق الحلم اليوتوبي عن طريق الفنتازيا والخيال العلمي
ونرى يوسف إدريس في مسرحية الجنس الثالث يواصل سعيه لتحقيق الحلم اليوتوبي، وهو هنا يلجأ لتصور تحقيقه إلى الفنتازيا والخيال العلمي، ففي هذه المسرحية يتخيل يوسف إدريس أن تحقيق المجتمع الفاضل يكون بزواج آخر امرأة من سلالة هابيل - رمز الخير والفضيلة - بالدكتور آدم الذي يمثل البشرية في رقيها.
ومن خلال حوادث تجمع بين الفنتازيا والخيال العلمي في هذه المسرحية يتم ذلك اللقاء بينهما، ويكتشف الدكتور آدم في نهاية هذه المسرحية أن مساعدته في معمله العلمي هي نفسها آخر امرأة من سلالة هابيل، فيتمسك بها، ويدرك أنه كان يحبها طوال الوقت دون أن يدري، ويقرر معها الزواج بعد أن ينقذها من الموت؛ لينجبا معا الجنس الثالث الذي يتوقع أن ينشر الفضيلة على الأرض.
وكما قلت ففي هذه المسرحية مواقف كثيرة فيها أجواء الفنتازيا والخيال العلمي، خاصة تلك المواقف التي فيها يذهب الدكتور آدم للمكان الغريب الذي توجد فيه آخر امرأة من سلالة هابيل، فيلتقي هناك بأشجار تتكلم وتشعر كالبشر، وتعشقه شجرة تمرحنة، ولا تستطيع أن تسيطر على مشاعرها فتخالف اللوائح التي في هذا المكان وتختضنه، وتعاقب بعد ذلك على هذا، كما يرى الدكتور آدم في ذلك المكان حيوانا يجمع بين شكل الكلب والخروف، ويتحدث معه، وحين يلتقي الدكتور آدم مع سيدة هذا المكان الغريب -وهي آخر امرأة من سلالة هابيل - يرى أنها شيء غير ملموس، ومع ذلك يشعر أن عواطفه مشدودة إليها، ثم يكتشف مع نهاية هذه المسرحية أن مساعدته في معمله الذي يجري فيه أبحاثا - فيها اكتشافات علمية مفيدة للبشرية - هي نفسها آخر امرأة من سلالة هابيل.
ثالثا: تحقيق الحلم اليوتوبي عن طريق انقسام الذات لشطرين
ولما كان تحقيق الحلم اليوتوبي عن طريق أحلام اليقظة أو الفنتازيا والخيال العلمي مجرد تخيلات فإن يوسف إدريس يرى أنه من الممكن للإنسان أن يعيش هذا الحلم اليوتوبي بانقسام ذاته لشطرين، شطر منها يعيش الحياة بطريقته التي يرتكب فيها أخطاءه ويقوم فيها بعمل نقائصه، وشطر آخر يرفض هذه الأخطاء والنقائص، وينقدها، ويكون صريحا في نقد كل عيب يراه ولا يكون في شطره الأول قادرا على نقده.
ونرى هذا التصور من يوسف إدريس في مسرحية البهلوان، ففي هذه المسرحية نرى حسن المهيلمي رئيس تحرير إحدى الجرائد يكاد يتنفس كذبا ونفاقا كل يوم ليضمن بقاءه على كرسي رئيس التحرير الذي يشغله، ولا يرضى جزء منه عن تصرفاته هذه، فيقرر أن يرضي ذلك الشطر الآخر من نفسه بأن يعمل بهلوانا في مساء كل يوم في السيرك المصري العالمي، وفي هذا السيرك يضع ماسكا على وجهه، ويعبر عن كل الصدق الذي يرغب في قوله، وينتقد شطره الآخر الكاذب والمنافق، وينتقد أيضا أمثاله من المنافقين والكاذبين في المجتمع بأسلوب ساخر، وحقق بهذا حسن المهيلمي اليوتوبيا التي كان يرغب فيها، بإيقاظ ذلك الشطر الآخر من نفسه، وجعله يثور على الشطر الأول منه وعلى كل الأشخاص الذين يشبهونه.
وقد شعر حسن المهيلمي بنوع من التوازن في داخله، ولكنه توازن ناقص، وفيه نوع من التحايل، وهو أشبه بالمخدر الذي يهدئ المرض، ولكنه لا يقضي عليه.
وكما رأينا فقد كان للحلم اليوتوبي أثر واضح في مسرح يوسف إدريس، وإن كان قد جعل تصور تحقيقه عبر وسائل مختلفة، عرضنا لها في هذا المقال.

علي خليفة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى