حوار د. عبدالواحد العلمي مع الأديبة القاصة الأستاذة عائشة العلوي لمراني بجريدة الشمال الغراء .

الحوار :
متلازمة القراءة والكتابة

ممتنة لهيئة التحرير في جريدة "الشمال" دعوتها الكريمة لاستضافة شخصي المتواضع على هذه الصفحة التي توالى على التألق عليها نخبة من المبدعين والمثقفين وأخص بالشكر الجزيل الأستاذ الصديق عبد الواحد العلمي.
أعرف أنني لا أقف في مصاف الكتاب والكاتبات الذين واللواتي نشروا ونشرن دواوين، وروايات وكتبا في الفكر والنقد. غير أنني أقف بالقرب منهم أقرأ بشغف منذ آمن والدي رحمه الله بقولة طه حسين "التعليم مثل الماء والهواء" ولعل أبي أضاف والقراءة ثالثتهما، فنقل إلي وإخوتي هذا الشغف، ولم يكن يعود من عمله كل يوم إلا ويمناه تحمل ما تيسر من فواكه الموسم، وبيسراه جرائد ذات خطوط تحريرية مختلفة بل متعارضة في بعض الأحيان، خاصة ونحن في نهاية فترة الاستعمار وتهل علينا بشائر الاستقلال، كان يدرك أننا لن نتغلب على العدو إلا إذا عرفناه، فتعلم اللغة الفرنسية إلى جانب دراسته العربية في القرويين وقد حالت ظروفه الأسرية بعد وفاة أبيه دون إكماله الدراسة. فكانت الصحف الناطقة بلغة الاستعمار والناطقة باسم الحركة الوطنية نتداولها قراءة ونقاشا، معززة بنشرات إذاعة لندن وصوت العرب من القاهرة.
سارت المدرسة الوطنية التي أسسها متطوعون على درب ترسيخ فكرة الوطن والوطنية كنوع من المقاومة فكانت الدروس ذات أبعاد سياسية، قد تفوق إدراكنا كأطفال، غير أنها كانت تهيئنا من حيث ندري ولا ندري لنكون ما نحن عليه الآن، وما كنا عليه خلال الدراسة الجامعية.
كانت القراءة طقسا يوميا لا تحتاج لطقوس خارج عوالمها، أذكر في المرحلة الابتدائية أن المدرسة خصصت حصة أسبوعية للقراءة، وبينما كنا نقرأ قصص كامل كيلاني، وضع مدرسنا " السي عباس" ـ السلام له والسلام عليه ـ بين أيدينا في القسم الرابع أو ما أصبح يسمى بالمتوسط الأول، كتاب "الأيام" لطه حسين، اختار منه نصوصا اعتقد أنها أقرب إلى مداركنا، فقرأناها بوجدان أطفال يتعاطفون مع طفل فقد البصر، واتسعت بصيرته لتستوعب العالم في شساعته، في قسم الشهادة الابتدائية هل علينا نجيب محفوظ بروايتيه التاريخيتين (رادوبيس، وأرض طيبة) ودعنا جرجي زيدان، وقرأنا سردا تاريخا بأسلوب مختلف وخيال أرحب، وأقبلت علينا كوكبة أخرى من الكتاب، يوسف السباعي، إحسان عبد القدوس، يحيى حقي، ويوسف إدريس وغيرهم ... امتدت القراءة إلى عالم السينما فكثير من الروايات حولها مخرجون إلى أفلام ، فكان الفيلم قراءة أخرى ومتعة مختلفة.
لم يصل كل التلميذات والتلاميذ رفاق تلك المرحلة إلى نهاية المرحلة الثانوية، فقد تعددت محطات النزول، وكان الأمر أقرب إلى الانتقاء الطبيعي للمجتمع فغالبية الأسر التي لها حظ من العلم أو الانخراط سياسيا في قضايا الوطن اختارت التعليم وشجعت أبناءها على الاستمرارفيه، ولأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو خضوعا لإغراءات الوظيفة التي لم تكن تتطلب تعليما متقدما، تقلص عددنا، وأذكر أن عدد الناجحين والناجحات في امتحانات البكالوريا لوائحهم التي تنشر في الصحافة الوطنية لم تتعدى بضع مئات.
الحديث عن القراءة ذو شجون وقد اتسعت دائرتها لتتجاوز مصر إلى لبنان وسوريا وفلسطين والعراق، وأبعد من ذلك إلى الأدب الروسي، ورحلت إلى شمال المتوسط لتشمل كتاب الرواية فلوبير، بلزاك، زولا، وفيكتور هيجو وغيرهم ... بل أخدتنا الرحلة عبر المحيط فشغفنا بكتابات همنجواي، وفي سنة البكالوريا نقلنا الدرس الفلسفي ابتداء من محاورات أفلاطون مرورا بكل الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ إلى مجالس وجودية سارتر وكامو. كما أن كتابات عبد المجيد بنجلون، وعبد الكريم غلاب وادريس الشرايبي اقتحمت دائرة القراءة ووصلتنا بسرديات أقرب إلى السيرة التاريخية عن الفرد والمجتمع والوطن. وكان الشعر واسطة عقد القراءة، واحة ظليلة تعزف فيها الكلمات موسيقى الروح فتحلق بنا لنستوطن السحاب، نزار قباني جعل الرومانسية حقا مشروعا، السياب جسد آلامنا ونكأ الجراح، مع المجاطي كنا ضمن سربة الفروسية بنادقها ترمي بدخان...، مع مجموعة مجلة شعر وطئنا أرض الحداثة، تتلى عينا صحفها فنتأمل ونمعن في التأويل.
كنت محظوظة بالإقامة في حي الأحباس الميكرو مدينة في وسط الدار البيضاء والتي خطط لها من طرف عاشق للحضارة الأندلسية، لتكون زمنا للوصل بالأندلس، فكانت وما زالت متحفا ترتفع فيه مئذنتان وتؤثثه مرافق لكل الخدمات ما عدا سوق الخضر واللحوم، الذي يقع على مقربة منها في حي البلدية، وتنتشر في جنبات الحي الحدائق والمدارس، أما المكتبات فتمتد على ضفتي المحج الملكي، أقدمها دار الكتاب وبعدها دار السلمي، دار الثقافة، ويتوسطها المركز الثقافي العربي...
أتهيب أكثر وأنا أتحدث عن الكتابة فعالمها تحيط به أسوار وتغلق دونه أبواب ولا تفتح إلا لمن يعرف كلمات السر، قد تكون القراءة هاديتنا إلى مسالكها ودروبها بل متاهاتها، غير أن كل ذلك لا يكفي أذكر هنا قول أبي تمام لمن جاء يسأله: كيف أكون شاعرا، فطلب منه أن يحفظ آلاف الأبيات، وعندما قام بحفظها قال له عليك أن تنسى ما حفظت. فهل ننسى كل ما قرأنا من نثر، وما حفظنا من قرآن وزجل وشعر، واستعارات ومجازات وتوريات، فصيح اللغة وعاميتها، عندما نراود الكتابة عن نفسها، هل نستطيع هز جذع النخلة فتساقط علينا الكلمات شهية، أم تتمنع شوارد لا يطالها القلم.
متى بدأت الكتابة؟ ممتلئة بكل ما قرأت بحكايات ألف ليلة وملحمة سيف بن ذي يزن في نسختيهما الصفراء الحائل لونها ، بحكايات جدتي القادمة من مدينة فاس تنوء بحمل تاريخ ثمانية قرون في الأندلس وما تلاها في عاصمة الأدارسة. بحكايات خالتي القادمة من مدينة الصويرة/ موكَادور، مدينة ذات تاريخ مغرق في القدم موغل في حضارات حوض الأبيض المتوسط، أم بما حطه السيل من الشرق والغرب.
أذكر أن أول كتاباتي مثل كل التلاميذ والتلميذات كانت في مادة الإنشاء أو ما أصبح يعرف بالتعبير، على اختلاف في مدلولي الكلمتين، كنت أكتب الإنشاء بسلاسة فأحظى بتقييم جيد من أساتذتي في كل مراحل التعليم، في مرحلة الإعدادي ومثل الكثيرين والكثيرات من زملاء الدراسة كانت لي مذكرة أبوح لأوراقها بأحلامي وأحزاني وهواجسي، وأحاول أن أصوغ ذلك شعرا أحيانا أو في شكل قصة صغيرة، ولا أقول قصيرة لأنني أحاور فيها ذاتي التي لم تتجاوز الطفولة.
متى أصبح البوح مباحا؟ أذكر أنني كتبت نصا لم أعد أذكر موضوعه ولا في أي شكل صغته أرسلته إلى الإذاعة الوطنية، حيث كان للإعلامي الكبير إدريس العلام برنامج يستقبل إبداع الناشئة غير أن النص لم يدرج في البرنامج. فعاتبت نفسي على تسرعي وعدت إلى بوحي غير المباح وإلى مذكرتي السرية.
كان أول عهدي بالنشر عندما نشرت لي جريدة العلم على صفحة أصوات قصة قصيرة بعنوان" حافظوا على نظافة مدينتكم". وكانت مهنة التعليم في سبعينات القرن الماضي امتحانا يوميا للمدرسين والمدرسات أمام تلاميذ نما وعيهم الثقافي والسياسي وشغفهم بالقراءة، فهل نقول إنه مثل زمن لن يتكرر.
زاد شغفي بالقراءة وتعمق عندما التحقت بشعبة الأدب الحديث مسلك الدراسات المعمقة حيث كانت الرواية المحور، مع الأستاذين الجليلن أحمد اليبوري ومحمد برادة، تغيرت شروط القراءة وآليات معالجتها تنظيرا وتطبيقا، اكتشفت أبعادا أخرى للعلائق، ومستويات متعددة للخطاب والأصوات، بنية النص رؤيته للعالم، فتغيرت رؤيتي لما يحيطني، وأذكر أنني اتخذت نتيجة لهذه الدراسات قرارات حاسمة في حياتي الشخصية كنت أتردد في اتخاذها.
في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي نشرت مقالات، قصصا قصيرة، ونصوصا شعرية في جريدة الصحيفة الأسبوعية، وجريدة الأحداث المغربية.
وظلت الكتابة غواية توقعني في إغرائها، سهل علي الحاسوب رقنها والاحتفاظ بها في ذاكرته قبل أن تتيح لنا الرقمية النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أذكر أنني كدت أنشر رواية في بداية هذا القرن وبعد إجازتها في لجنة القراءة تراجعت عن النشر فالقراءة المستمرة لإبداع الكبار مثل حنا مينه وعبد الرحمن منيف، شكري، زفزاف، بوزفور، محمد برادة .. جعلتني أتريث ولا أنوي.
تخلل هذا المسار نشاطي الجمعوي بعد انضمامي لاتحاد العمل النسائي الذي تعرفت على رائداته من خلال جريدة 8 مارس، والنضال الذي خاضته الجمعية وما زالت من أجل تحسين وضعية المرأة، والترافع من أجل سن القوانين التي تحميها، وتمنحها الحقوق الإنسانية المشروعة، وتحقق لها المساواة. كان اللقاء بالنساء ضحايا العنف والناجيات من جحيمه زاوية أخرى لقراءة المجتمع، والكشف عن المسكوت عنه في العلائق الاجتماعية، والقهر في شتى تجلياته.
المحطة الآنية والممتدة منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن تتمثل في اللقاء بمؤسسة الربوة للثقافة والفكر، في البداية كنت مدعوة من طرف الصديقة الغالية خديجة شاكر لحضور حلقات صالونها الأدبي، وما لبثت أن وجدت في المؤسسة وصالونها مأوى الروح والفكر والجسد، فاندمجت في قراءة الروايات التي زكتها مؤسسات وطنية وعربية لنيل الجوائز، بالإضافة إلى الإبداع النسائي والدراسات الفكرية ذات الطابع السوسيوثقافي المغربية والعالمية.
الإبداعات الرواية الحديثة ترفع سقف الإبداع عاليا، وقد تكون عاملا آخر للتراجع عن النشر غير أنني قررت أن أخوض التجربة، فلي رواية قيد الطبع وأخرى قيد الكتابة، ولي مشاركة في كتاب الربوة الأول،الذي صدر قبل أربع سنوات، وقراءات أخرى أنتظر أن تصدر في سلسلة" أوراق الربوة" .
لقيت قراءاتي في صالون الربوة، وتدويناتي استحسانا لدى رابطة كاتبات المغرب فضمتني مشكورة لمجلس حكيماتها.
المرأة عموما قلما تنظم وقتا للقراءة، فاليومي يستغرق جهدها، وكلما استطعت سبيلا أقرأ، قد يكون الليل فاتحة وقت للقراءة بالنسبة لي، ويطول سهدي مرددة مع الخيام فما أطال النوم عمرا، ومع المتنبي الكتاب خير جليس وخير أنيس.

أجدد الشكر ودمتم سالمين.



1621186385840.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى