إدريس علي بابكر - أسرار من سجن النساء.. قصة قصيرة

بعد جريمة بشعة تناولتها أجهزة الإعلام في مساحة واسعة كحديث الساعة، ارتكبتها أحلام في أوج غضبها الأعمى، المراهقة تصرخ بمرارة الانتقام في وجه المحقق إنها ليست نادمة أو مذنبة على فعلتها القاسية، تقول لو يرجع بها الوقت إلى الوراء لن تتردد على إتخاذ قرارها مرة أخرى حتى لو فتحت لها كل أبواب الجحيم.
انساقت أحلام إلى سجن النساء بعد ما تعرضت إلى تفتيش دقيق ثم ارتدت ملابس السجن رديئة الصنع و هي كانت تختار أفخم فساتين السهرة للمناسبات، الان تغير الحال زجوا بها خلف القضبان في انتظار مصيرها المحتوم، السجينات داخل السجن دائمآ يستفسرن عن الوافدة الجديدة و نوع حكمها هل هي عقوبة خفيفة أم غليظة!، اول ما دخلت السجن الذي يمتلئ بوجوه و أعمار من الشرائح المجتمعية المختلفة يقضين عقوبتهن، لفتت الأنظار لصغر سنها بقوامها الممشوق وجمالها الباهي، لم تبح بالسلام لكنهن تعاطفن معها ووجدن لها العذر، في البداية كانت تتحاشي إمرأة ليست مثل كل النساء لديها شارب و ذقن خفيف مستطيلة الوجه لا توجد لديها بريق لانوثة هرموناتها الذكورية مرتفعة و صوتها غليظ كالرجال، أحلام حاولت أن تبتعد عنها قدر الإمكان، ولكنها تملك جاذبية سحرية وروح مرحة تطلق القفشات فتنتزع الابتسامة و الضحكات العميقة من شفاه السجينات، فيكسرن دائرة الحزن و الملل، مع مرور الأيام اكتشفت إن المظاهر خداعة الجمال الداخلي عند الحاجة خميسة لا يضاهى، روحها تضئ كالجوهرة وقلبها يفيض ينابيع من الحنان وكلماتها الدافئة تمنحها الأمان، عكس بعض السجينات داخل السجن يملكن جمالآ ظاهريآ و لكن دواخلهن عبارة عن قبور مظلمة بفعل الحقد والحسد، الحاجة خميسة دخلت السجن عن طريق الخطأ لم تكن جريمتها كبيرة لكن قسا عليها جور الايام و ضيق ذات اليد، صارت أقرب الناس إلى قلبها تبوح لها بكل أسرارها تناديها أمي وجدت في حضنها الدافئ ملاذآ امنآ حينما يرهقها التفكير المستمر. في العنبر الحاجة خميسة تمشط لها شعرها المبعثر بحنان أم لبنتها نزلت منها دمعتان، تذكرت إن هذه اللحظات الجميلة لن تدوم طويلاً، اخيرآ انبها الضمير وهي تعض بنان الندم يا ليت لو لم تقتل حبيبها و تركته ليتزوج صديقتها الخائنة، لكن دفعت ثمن تهورها حينما جن جنونها في لحظة حدثت الطامة الكبرى التي لا تغتفر، فغرزت في جوفه خمس طعنات كل طعنة تساوي عاما ضاع من عشقه الكذوب.
كلما تذهب إلى جلسة المحكمة تأتي منهارة ترتمي في حضن أمها لتخفف عليها الآلام، هي أكثر شخصية تقف معها في محنتها معنويآ، أكثر حدث مؤلم و مزعج في هذا العالم إنسانة تكون بقعة ضوء في حياتك المظلمة و يغافلك الوقت بساعة الرحيل، مرير طعم الفراق الحاجة خميسة أكملت عقوبتها و تودعها بالدموع و المشاعر الفياضة، وعدتها بإنها ستناجي الرب في صلواتها لتنجو من حبل المشنقة ولن تنقطع من زيارتها، على حسب وعدها تأتي لزيارتها بصورة رتيبة كل يوم جمعة من كل اسبوع، و لكن بعد مدة انقطعت أخبارها، لم تعرف أحلام مصيرها هل هي على قيد الحياة؟ ام عصفت بها الظروف و تاهت في مجاهيل الشقاء مرة أخرى.
هي على علم باقتراب نهاية حياتها، ولكن غياب الحاجة خميسة ترك عندها حزنآ و فراغآ لا يحتمل، صارت كاليتيمة داخل السجن العتيق، معظم المعارف اللائى حكمن عليهن بالأحكام المتفرقة أطلقوا سراحهن و شددن الرحال.
في يوم من أيام السجن المعتاد يعلو فيه الضجيج و تفوح نكهة الثرثرة دخلت إليهن سيدة في منتصف الخمسين، لم تكن من الطبقة الكادحة لديها صمت قاتل تحدق إلى الجميع بكبرياء و تعالى هيبتها جبارة كاللبوة، اقتربت منها أحلام لعل وعسى تعوضها مكانة الحاجة خميسة، يومآ بعد يوم اكتشفت عندها خصالا لم تكن تتوقعها، الفاظها جارحة لا تعرف الخجل أمام الصغير و الكبير، تتحدث بجرأة مطلقة سيئة السمعة تحب التدخين بلذة مفرطة في الأول يتم تهريب سجائرها في لب السندوتشات، عندها الغاية تبرر الوسيلة و هذا ما فعلتها مع ضعاف النفوس اشترت الذمم داخل السجن و خارجه، إسمها فهيمة متورطة في ترويج الحشيش لها ذكاء حاد تحب تنتصر بالرشوة، تنادي على أحلام بالصغيرة و الجاهلة عندما علمت بفعلتها تقول لها لا تجعلي حبك نيران متوهجة فيوذيك مع من تحب اجعلي حبك مثل الثلج متى ما ذاب من سخونة الموقف لن يضر أحد المغرمين ولا يترك اثرآ لا تأمني الرجال فوعدوهم مثل ظل الضحى، كلما اقترب تنفيذ حكم الإعدام تقول لها شغلي عقلك يمكن أن تمدي في أيامك ريثما يأتي الفرج فالأيام حبلى بالمفاجاءات، السيدة فهيمة اعطتها فكرة ماكرة تفكر فيها طول الليالي، اخيرآ آمنت بها و استغلت جمالها بدهاء و خبث حملت عمدآ داخل السجن و تسترت على الجاني ، إذآ لم يجد القاضي حرجآ لتجميد حكم الإعدام حتى تلد ثم ترضع إلى أن يبلغ الطفل الفطام، تقرير الطبيب الصادم بشأنها زلزل كل ألاركان من أصغر الرتب إلى هرم الإدارة، كيف لفتاة لها عامان تحمل داخل سجن مطوق بالاقفال المحكمة و الحراسة الصارمة لا يدخل عليهن حتى ذكر الذباب، ما لبث إن ماتت القضية في مهدها و اتنست في إدراج الأرشيف، كان الحدث زوبعة في فنجان و الفاعل لم يكن بعيدا من مسرح الحدث.
البقاء على قيد الحياة ليس في يدها مازال أهل القتيل متشددين لعقوبة القصاص، مع أن أيامها ممتلئة بالخوف لحد الغرق لكن لم تنس الإهتمام و الرعاية بالتي داخل أحشائها، الاحساس بالامومة شعور فوق الوصف لا ينشغل بدوافع الأسباب، السيدة فهيمة لم تقصر في حقها هي أكثر الناس سعادة بالحمل بسبب انه من وحي أفكارها، برغم كل ما يقال عنها فهي إنسانة كريمة و لطيفة تدفع بسخاء بلا حدود، أشهر معدودات أنجبت أحلام طفلها داخل السجن وجدت الإهتمام و الرعاية من السجينات بصورة مدهشة تتقبل منهن الهدايا و التبرعات، صرخات و بكاء الطفل (الله جابو) كما سمته السيدة فهيمة تمنح فضاء السجن رونقآ خاصآ، وجد من الدلال و الحب من كل الأمهات و العانسات ينتقل من حضن لحضن حتى أحياناً ينسى ملامحه أمه، لا يملك وجه شبه لها لكن السجينات يداعبن بعضهن أنه صورة طبق الأصل لأحد حراس السجن، شب (الله جابو) يمرح من هنا و هناك حتى حان موعد فطامه بأمر المحكمة فازدات الشفقة عليه.
آخر جلسة للنطق بالحكم النهائي ليسدل الستار على قضية طال زمانها، أحلام تودع رفيقاتها بالبكاء والدموع وقبلات حزينة تطبع على خدود (الله جابو) يأملن ببركته تنقذ أمه من حبل المشنقة، عند خروجها من السجن إلى المحكمة لم يمنع ارتداء الميري أحد الحراس بالحزن عليها فضحته مشاعره الإنسانية رقرقت عيناه بالدموع.
وسط إجراءات أمنية مشددة بحضور لفيف من الإعلاميين وذوي الجانية والمجني عليه ضاقت بهم جنبات القاعة ضرب القاضي العجوز مطرقته محكمة معلنآ عن بدء الجلسة، محامي أحلام لبس ثوبا شاعريا فضفاضا يدغدغ في تأثير المشاعر الإنسانية بينما محامي القتيل ينغمس في روح القانون بمهنية عالية طالبآ العدالة بحذافيرها، وقفت أحلام مكسورة الجناح أمام المحكمة و القاضي يخير أولياء الدم بين الدية او القصاص، المرحوم والديه رحلا من الحياة في زمن متقارب فالكلمة العليا للأخ الوحيد العاطل من العمل وقف عابسآ مشدودآ، صمت برهة شارد الذهن الجميع في ترقب و انتظار لقراره، فاجاهم عندما اختار الدية بإصرار بلا تراجع، تعالت الصرخات والعويل وبعض الإغماءات بين الجانبين ورفعت الجلسة.
بعد ما تمت عقوبتها الأدبية أحلام طليقة السراح لكنها كتبت لحياتها تاريخا لا يغتفر، ظلت وحيدة وعواطفها مسجونآ في الخلايا لا يوجد رجل يغامر ويطرق باب عشق لأنثي قاتلة.
( تمت)

إدريس على بابكر.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى