كاظم حسوني - مأساة حرب

في حقبة حروب الطاغية التي اكتوينا في اتونها ،، كان الانقطاع لفترات طويلة عن الكتاب امرا طبيعيا وسط اهوال الحروب والنكبات ، لكن الحرمان من القراءة اشبه بالحرمان من الحب ظل هاجساً لا يفارقني ، وكمن يتحرق لأي طعام من الجوع ، كنت اضطر للتحايل على وضعي واحاول دائماً سرقة الوقت للأنفراد بنفسي لمطالعة الكتب التي لا تخلو منها حقيبتي . وكنت بسببها موضع تندر ودهشة وغضب الجنود حتى ظن بعضهم بأنني مخبول ، او مصاب بلوثة في عقلي لانني كنت انقل حقيبة كتبي على ظهري برضا وحماسة في ترحالي وتنقلي دائما ، ففي المسيرات الحاشدة للجيش المنكسر الذي خاض مرغما حربا مدمرة في الكويت عام ١٩٩١ انتهت بالهزيمة قبل ان تبدا ! تلك المسيرات التي قطعنا فيها مئات الكيلومترات مشيا على الاقدام لعدة ايام طويلة قاسية من الكويت الى بغداد وكنا حصادا سهلا للطائرات الأمريكية ، كانت اقدامنا قد تقرحت من السير المتواصل ، صرنا ندفع خطواتنا بمشقة بالغة بعد ان خارت قوانا عقب قطع المسافات الشاسعة ، اجتزنا خلالها عدة مدن ومحافظات ثائرة ، ونحن نجر اجسادنا منهكين ضائعين مخذولين وجياعا ، بتنا كالاشباح من فرط التعب والارهاق والمخاطر باسمال معفرة بالاوساخ والاوحال والمطر ، ندفع انفسنا الخاوية بصعوبة كيما نواصل المسير ، اضطررنا للتخلص من كل مايثقلنا كالقماصل والاحذية وبعض الملابس للتخفف ، حتى بات بعضنا انصاف عراة ، حفاة رغم البرد،، لكنني بالرغم من عظم الماساة وفداحتها ، وماكان يحيطني من مخاطر وما كنت اصادفه من تهديدات و من جثث متناثرة في الطرقات ، لم اتخل عن حقيبتي المليئة بالكتب ! رميت حذائي ، واكثر ملابسي، ولم ارم حقيبتي ، وكنت اتلقى طيلة ايام المسير صرخات غضب وكلمات استهجان وتهديدات وسخرية من رفاقي الجنود على رعونتي وجنوني ، لانني اتحمل ثقلها بطرا ولانها اي حقيبة الكتب كادت تودي بحياتي بل شكلت خطرا على اصحابي ، لانها كانت تلفت انظار قطاعي الطرق واللصوص وهم يهرعون الى خطفها مني ، شاهرين اسلحتهم بوجهي حين يرمون محتوياتها على الارض ، ويقلبون الصفحات بعجالة بحثا عن المال ، كانوا يشتمونني عند عدم عثورهم على بغيتهم ، ، والحق انها اي حقيبتي قصمت ظهري وقطعت انفاسي وانهكت قواي ، حتى بات الوصول الى منزلي حلما بعيدا ، بعيدا جدا ، الا ان المعجزة قد حدثت ودخلت منزلي مترنحا بعد نهاية رحلة اسطورية عجيبة ، كانت هيئتي قد اثارت فزع اهلي واشفاقهم ، حين وصلت حافيا وشبه عار الى امي المنتظرة واخوتي ، اذ بدوت امامهم كالشحاذ بما تبقى من اسمالي الممزقة المليئة بالعفن والاوساخ ، اسحب انفاسي بمشقة لجسامة ماحل بي ، وزاد استنكارهم وعدم تصديقهم حملي هذه الحقيبة الرثة الثقيلة بالكتب مشياً على الاقدام من الكويت الى بغداد . .


كاظم حسوني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى