سفيان صلاح هلال - مطاردة الخرافة في "سكلانس" للشاعر أشرف أبو جليل.. قراءة نقدية .

ربما استعاض المحدثون بالدراما التليفزيونية، والأفلام التسجيلية عن المسرح الوثائقي، مسرح الحقائق" أو "مسرح الدوكيودراما" . ولكن يظل المسرح هو الأقدر على أن يدخل المساحات التي تمنع الدخول إليها الرقابة. ولا أقصد بالرقابة هنا رقابة المصنفات التي تديرها الدول فقط لتوجيه الإبداع لما لا يتعارض مع سياساتها وتوجهاتها. لكن هناك الكثير من أنواع الرقابة يمارس على الفكر من جهات عديدة منها بعض المؤسسات القادرة على توجيه الجماهير.ومنها المجتمع نفسه الذي يكافح في معظم الأحوال لترسيخ ثوابته بمناهضة أي فكر يمكن أن يعيد منافشتها وتطويرها.. بل أحيانا يقلب الحقائق المناهضة أشكالا متوائمة معه ليقضي على قوة كل مخالف له؛ مثلما حدث مع المنصوري الاشتراكي الذي استطاع أن يغير فكر المجتمع عمليا باشتراكيته؛ فتم تحويله بعد موته وليا متدينا له كرامات، وصار المناهض للأسطورة هو نفسه أسطورة جديدة تعضد عالم الأساطير.
من هنا يأتي دور هذا النوع من المسرح في إعادة الطرح بأوراق دامغة كالبراهين العلمية؛ لإظهارالحقائق ووضع الأمور في نصابها.
المسرح الوثائقي قديم، ويذهب البعض -ومنهم "البروفيسور" التيلو فافورينى" أستاذ علوم المسرح فى جامعة بيتسبرج - إلى أن أول مسرحية وثائقية فى التاريخ للكاتب المسرحى اليونانى "إيسخيلوس" و ذلك من خلال درامته الشهيرة "الفرس" عام (472 ق.م) والتى أعتمدت على توثيق الحروب الفارسية اليونانية.
والمسرح الوثائقي له تأثير ما على مسرح شكسبير. واستغله التنويريون الاشتراكيون حديثا في مناقشة قضايا كثيرة؛ وله دوره عند الثوريين الفرنسيين والألمان؛ "إرفين بيسكاتور" و "بيتر فايس" و "برتولد بريخت" وغيرهم فى الدراما الثورية ذات الطابع السياسى،
حتى أن الكونجرس الأمريكى أعرب عن قلقه تجاه مايقدمه "بيسكاتور"
ومن منطلق المسرح الوثائقي، مسرح الحقائق" أو "مسرح الدوكيودراما"
يدخل بنا الشاعر أشرف أبو جليل في إصداره المسرحي "سكلانس" الصادر عن دارالإسلام 2021
إلى عالم ثلاثة من أعلام الرغبة في التغيير في الوطن العربي المعاصر؛ ليعيد حلقة الصراع التي خاضوها في الواقع على خشبة المسرح. سكلانس كلمة عامية تعني خليط. وربما أراد الكاتب أن يقدم لنا خليطا من قضايا متعددة التوجهات لمنافشتها: فقضية الدكتور "حامد أبو زيد" قضية ذات طابع فكري فلسفي، وقضية "إبراهيم المنصوري" ذات طابع سياسي أيدلوجي، بينما قضية دكتور "فرج فودة" ذات طابع يتبع المنهج العلمي الخالص. في التفكير وكل أصحاب هذه القضايا كانوا في مواجه الفكر السلفي بأنواعه أيضا، بتخليطه بين الحق والخرافة للانتصار لنفسه.
يتناول الإصدار لحظات الذروة في حياة الأبطال. ومن الغريب أن اثنين منهما انتهت قصتاهما نهاية مأساوية وهما الدكتور نصر؛ حيث حكم بالتفريق بينه وبين زوجته لصالح التيارات اليمينية المتطرفة، والدكتور فرج الذي قتل على يد من لم يقرأوا له جملة واحدة كما وثقت اعترافتهم، لكنهم كانوا أتباعا أوفياء لرموزهم! بينما انتهت قصة المنصوري إلى نهاية كاريكاتيرية بقلب حقيقته الاشتراكية لحقيقة دينية وربما كانت النهايات ملائمة لما يريد التيار المناهض تماما؛ فهو في حالتين كان يواجه فكرا نظريا وكان ليس أمامه غير التخلص منه بمرجعية دينية يعتنق العامة أفكارها. أما المنصوري فقد طبق فكره عمليا بتوزيع الأرض على القلاحين ومشاركتهم إنتاجها؛ فكان من الصعب الضحك على العامة الذين لمسوا بأنفسهم نتاج تفكيره؛ مما أدي إلى استئناس كفاحه وتدويره لصالح فكرهم من خلال رؤية المؤلف.
كان الخطاب في الأعمال مباشرا كما يتناسب مع هذا النوع من المسرح، والذي يهدف أساسا لطرح القضايا طرحا يؤدي وظائف فكرية وسياسية واجتماعية. ففي قضية الدكتور نصر أبو زيد ركز العمل على نقاط الخلاف وخلفياتها ونتائجها مباشرة.
حيث يمهد الكاتب بمشهد يبشر فيه الشيخ شاهين وأحد أتباعه كل منهما الآخر بالجنة وعبور الصراط من منظور رؤيا رآها كل منهما للآخر في خطاب يحتمل الصدق والكذب، يدور في عوالم شخصية. أما لدكتور نصر يواجه الدكتور عبدالصبور مباشرة، ولا يقبل يده كالآخرين، ويكشفه أمام نفسه حين يفرق بين الدين والاقتصاد، فهو يرى الدين دين أخلاقي بينما الاقتصاد علم ودراسة أسواق، ولكن الآخر يناهضه لمصالح شخصية، يدرجها الكاتب بالوثائق عن عمله كمستشار في إحدى الشركات التي وظفت الدين مستغلة المشايخ لجذب الجماهير، وكانت نهايتها خراب بيوت الناس، كما أظهر مشهد السيدة التي دعت على الدكتور في وجهه من جراء فتاويه التي أودت بها للإفلاس. في الحقيقة ربما يجمع هذا المشهد بين التوثيق في نقطة إظهاروظيفة الشيخ لدى شركة الريان، وبين المبالغة في إظهار النتيجة من خلال خيال الكاتب بمشهد السيدة لكن هذا من طبيعة هذا النوع من المسرح حيث يبالغ في تشكيل الظاهرة لإلقاء أكبر قدر من الإضاءة عليها. يستمر الصراع بعد ذلك متخذا شكل الصراع الديني من ناحية البعض، والفكر من ناحية البعض. لكن الكاتب يظهر بالحقائق والوثائق أن الصراع كان فيه قدر كبير من صراع المصالح والرؤى الشخصية من الجهة المناهضة للفكر الحر. مثال حين يقع زلزال وتنهار بعض المباني :"يتكلمون في أن الزلزال اختبار لإيماننا بالله أو أنه غضب من ربنا علينا، أونه قضاء وقدر , وبالتالى لا ينظرون الغش في المباني، حتى أنه لم يحاسب مهندس واحد في منزل سقط" إن استخدام المفارقة في الخطاب في مثل هذه الأحوال يكون كاشفا ويمثل لحظة التنوير للمتلقي. ولا يتوانى الكاتب في استخدام كل مايساعده من وسائل مسرحية لتوضيخ قضيته فهو يستخدم أشعار الشاعر ماجد يوسف التي واكبت الأحداث، ويستخدم كل ما قيل على ألسنة الأبطال في الصحف ووسائل الإعلام وساحات المحاكم. بل يتعرض لرأي الأساتذة مثلما تعرض لرأي الدكتور مكي عن دكتور ابو زيد: "والباحث يفرق بين الدين والفكر الديني فالدين ثابت، أما الفكر الديني فهو مختلف من إنسان لإنسان ومن عصر لعصر، وعندما ننقد الفكر الديني عند أحد المفكرين فإننا لا ننتقد الدين، بل ننتقد اجتهادات ذلك المفكر" فالكاتب لا يسعى في مثل هذه الأعمال إلى التخييل بقدر ما يسعى لإرثاء الحقائق وتشغيل العقل.
يركز الكاتب على تخاذل السياسة أحيانا وضعفها في اتخاذ قرارات مباشرة رغم علمها بالحقائق. في قضية حامد أبو زيد كانت الجامعة تعرف أنه مفكر ومن حقه التفكير والترقية، لكنها خشيت مظاهرات وانقلاب المؤسسات الدينية التي لها قدرة عظيمة على خطاب الجماهير؛ فتحول الموضوع كله لموضوع يدار سياسيا؛ فمثلا ساوموا الدكتور في أزمته مع شاهين على تأجيل الترقية. ومثل هذا حدث مع "طاهر" فقد أرسلوا إليه الأستاذ "مأمون" ليساومه على سحب استقالته المسببة..لكن النتيجة أن من يصاحب قضية مؤمنا بها لا يقبل إلا أن يدفع الثمن تقبل الأبطال نهاياتهم الدرامية؟ لكن هل أصابهم هذا الوجع وحدهم؟ يعرض الكاتب حقيقة أخرى وهي أن كل من شارك في استخدام سلاح التكفير ضدهم دارت عليه الأيام ليحاكم بنفس الطريقة التي حاكم بها الأبطال؛ حوكم دكتور عبد الصبور على كتابه "أبونا آدم" وحوكم الدكتور"مصطفى محمود" على كتابه الشفاعة وحوكم فهمي هويدي على رأيه في نوع من الأحاديث. وكأن الكاتب يأخذ بعقولنا إلى نتيجةوهي: كلنا نفكر وهذه طبيعة العقل البشري..لكن منا من يفكر بحرية لصالح الحياة.ومن فيها. ومن يفكر بطريقة وظيفية يراعي بها مصالح فئوية أو سياسية أو غير هذا. وعلينا أن نختار قي صف من نكون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى