محمود عبد الستار عطية - سبق اصرار

ثلاثةُ أيامٍ حتى هذا الصباح، وأنا أشعرُ بسيْرِ نملةٍ أو أكثر على جسدي الضخم، ليس لأنه ضخمٌ سيسمَحُ الوضعُ بعقْدِ مقارناتٍ تفيد بفرضيةِ عدمِ شعوري بحجمٍ كحجمِ النملة، بل لأن النملةَ هي التي اضطرتني لفعْلِ ما سأقُصُّه لاحقاً.
استقرتْ هذه الليلةَ في داخلِ صيوانِ أُذُني، وشعرتُ أثناءَ نومي بوخزٍ خفيف سرعانَ ما زادَ للحدِّ الذي أيقَظني مِن نومي لأترنَّحَ كمَنْ يقاوِمُ قدرةً خفيةً، وهو ما تَطوَّرَ لأنِ ارتطمتْ رأسي بحافةِ السرير، لأتعرَّضَ لفتحٍ في الرأسِ استلزَمَ أربعَ غُرَزْ طبيةٍ ولأقضي في المستشفى المركزي محدود الأطباء الليلَ حتى الصباح في حالةٍ من الصُّدَاعِ وفورانِ الدم، ومحاولةِ تجفيفِ أُذُني مِن كمية الماء التي استخدمتُها لقتْلِ النملةِ التي تسبَّبتْ في هذا الألم وهذه الأزمَة.
ما المختلِف الذي جذَبَ تلك النملةَ إلى صيوانِ أُذُني فعمقها؟ ليس لديَّ تفسيرٌ سِوَى رغبتِها في إيذائي كإيذائِها لأي بَني آدم، بمهاراتِها في الهدْمِ طويلِ الأمدِ للبيوتِ العامرة .. ذهبتُ إلى عملي وطلبتُ خطابًا لإجازةٍ مَرَضية تَبِعَها انتظارٌ ليس له داعٍ في رُكن التأمين الصحي بالمستشفى، كَشفَ الطبيبُ المُختَصِّ الذي لم يمنحني سِوَى يومِ الغدِ لكونِ الأمرِ ـ مِن وجهةِ نظرِه – بسيطا، وكَتَب لي في ورقةٍ خارجية وصْفًا لسُّمِّ نملٍ لحلِّ مشكلتي !
اليومَ تجددتْ أحزاني على رحيلِ أُمِّي، وعلى عدمِ قدرتي على اختيارِ زوجةِ المستقبِل .. النملُ هجَمَ بعدَ قتلي لفئران اخترقتْ أسوارَ واحتياطاتِ شَقَّتي، أَظنُّ أنَّ الكائناتِ الأكثرَ شفافيةً ووضوحاً تخاطرني ببلوغي منتهاي. خمسةٌ وأربعونَ عامًا مِن التهريج منقطِعِ النظير، قرأتُ عشرين فاتحةً بواقعِ اثنتيْنِ كلَّ عام يتخللها عشرُ خطوباتٍ وتلبيسُ شَبْكة تنتهي بعبارة:
(مفيش نصيب)
الفئران .. والآنَ النملُّ سيأكُلُني؛ سيتوغلُ في كل خلايا جسدي، هُم كائناتٌ منظَّمة، مساراتُهم محدَّدة، وتتابُعَاتُهم واعية، والنملةُ التي كانت ستُفقِدُني السَّمْعَ في أُذُني اليُسرَى مِن فصيلٍ استطلاعي، بالقَطعِ مَن شاهَدَها غارقةً مِن باقي فصيلِها أَخبَرَ الجموعَ كنملةِ سُليْمَان، أنا لا أملِكُ هيْمَنةَ سُليْمانَ علي المخلوقاتِ، أنا مخلوقٌ مثل النملةِ تماماً، بَيْدَ أنَّ عقلي قدْ يُتيحُ لي إمكاناتٍ تُمَكِّنُني مِن السيطرةِ على ذواتِهم اللعينة!
أمامي الأربعةُ والعشرونَ ساعةً القادمة مِن الإجازةِ المَرَضية السَّخِيّةِ التي مَنَحني إيَّاهَا ذلك السخيفُ طبيبُ التأمينِ المُستهِين بحياتي، والذي يُسهِم بدورٍ في التمهيدِ لافتراسي .. سأُنهِي كلَّ شيءٍ حَتْمًا .. لن أنتظِرَ نِظامَهم كي يأكُلَني كدبّورٍ أو كفَراشةٍ ميتة .. تلك الكائناتُ صديقةُ النظامِ تُحِبُّ السُّكَّرَ، والسُّكَّرُ في المَطبخ، أنا في المَطبخِ الآن، الصُّدَاعُ شديدٌ .. سأصنَعُ فِنجانَ قهوةٍ سادة .. الماءُ يغلي .. حضَّرتُ البُنَّ والسُّكََرَ .. دفعتُ بأوَّلِ كميةِ ماءٍ مَغليّ في مواجهةِ ثُقبِ الشُّبَّاكِ الذي يتسرسَبُ منه النملُ بانتظام .. جمَعتُ كلَّ العُلَبِ والسدايب الخشبية العريضة لأصنعَ منها مَجرىً يتوسَّطُه خَطٌّ مِن السُّكَّرِ لاجتذابهم، ينتهي إلى طبقٍ مَعدني في حوضِ المَطبخِ مملوءٍ بماءِ النار المُرَكَّز .. أنا أَعلمُ أنَّ العراقيلَ والحواجزَ التي وزَّعتُهَا علي مسافاتِ المَجرَى لإرهاقِهِم مُلَغَّمَةٌ بالذنْبِ وليستْ مِن قبيل دفْعِ الضرر فحسب، بالرغمِ مِنها تحركتْ مجموعةٌ استطلاعيةٌ مِن النمل، واستمرَّتْ داخلَ المَجرى حتى وصلتْ إلى المُنتَهَى، تَقَدَّمَ رَائِدُهم وتَقدَّمَ حتى سَقطَ في قلْبِ الإناءِ المُنتهي، وقَفَ الاستطلاعيونَ فوْقَ ظهورِ بعضهِم ليكونوا عمودا في مواجهتي، بالطَّبْعِ لم أفهمْ إنْ كان ذلك رسالةً أَم استعراضا لشيء ..! وهل لي أَم لجموعِهم المعتدية؟ لكنَّ العجيبَ أنْ تَدَفَّقَتْ أعدادٌ غَطَّتْ خَطَّ السُّكَّرِ المُفترَض استهلاكُه أو حتى محاولة نقلِه .. لكِن يبقَى أنَّ الأمورَ تسيرُ كمَا خَططتُ لها
(بَدَؤوا الخَطْوَ في مَجراي، وسَيَلْقونَ مَشقةً وتعبا كبيريْنِ أثناءَ رحلتِهم، ثم سيموتونَ في اللحظةِ التي حدَّدتُها بالضبط)
حالةٌ مِن الثباتِ للحظاتِ الراهنة، وشعورٌ بحركةِ عددٍ مِن النملِ على جسدي، ثم دَعمٌ بخط مساري مِن النملِ يتَّصِلُ بقدمي، فانتِشَارٌ في المُحيطِ الذي أَقِفُ فيه .. قفزتُ لمُحيطٍ آخَر، لكِنّه التتبعُ والتعمد .. أقسمتُ لهم بأنَّ اليومَ هو الفيصل .. النملُ اعتلى شَعري .. النملُ حوْلَ الجُرح .. النملُ في الجُرح !
آاااااااااااااااااااااااااااه
تَجردتُ مِن ثيابي؛ أَنفضُهَا فيصعَدُ النملُ على ذراعي .. لن أسمحَ لذلك الكائنِ اللعينِ بالنفاذِ إلى عقلي، لكِن ما المانعُ أن أستحيلَ نملةً أُخرِّب العامرَ بدعوى الحفاظِ علي البقاءِ ومراعاةِ النظام؟ لا .. لا أنا مستهدَفٌ الآنَ، كيف يُمكِنُني أنْ أُقنِعَهم برغبتي أو حتى بتوصيلِها للأفاضلِ الاستطلاعيين..؟ أوووه لا مَفَر.. أَدهسُ البعضَ، فالبعضُ يَعتلي قدَمي فَسَاقِي، ونَملُ المَجرى يأكلُ السُّكَّرَ ويَنقلُه .. ارتطمتْ غُرَزُ رأسي بحافةِ الخزانةِ المعلَّقةِ بالمَطبخ، والدَّمُ مَر على جَفني ورأَتْهُ عَيني .. وأُغْشِيَ عليّ ..!
..........................................
(قصة حائزة على جائزة المجلس الأعلى للثقافة المصري/بتانة ديسمبر ٢٠١٥)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى