أتذكر أن الوقت كان أواخر الشتاء، ولكن الشمس يومها كانت ساطعة، حين توقفت السيارة الصغيرة البيضاء على شاطئ البحر.
قالت أمي، وهي تطفئ المحرك:
- احذروا أن تبللوا ملابسكم.
اندفعنا باتجاه البحر، نرتجف شوقاً إليه، شريف ورفيق وياسر وأنا، شمّرتُ أطراف البنطلون، وكذلك فعل الآخرون. خلعنا أحذيتنا، وركضنا نحو الماء، ونحن نحجل على الحصى الصغير المتناثر على رمل أبيض.
لسعت برودة الماء باطن قدمي، واخترقتْ جلدي، قشعريرة فرح، فتوغلتُ في الماء، غير آبه بالبلل، والماء ينقّع البنطلون حتى فخذي. فجأة، لطم خدّي نثار ماء.
التفتُّ، كان رفيق يعاود الانحناء ليملأ كفيه من ماء البحر، ولكن قبل أن يعتدل صوّبتُ نحوه رشة بقدمي اليسرى، التي اعتدت أن أركل بها الكرة.
ودون أن ندري، كنا جميعا وسط البحر نتقاذف الماء، حتى سمعتُ صوت أمي يناديني غاضباً. التفتُّ مرغماً، وجدتها تلوّح من بعيد، وهي تسند ظهرها، على باب السيارة .
خرجتُ إلى الشاطئ، ومشيت نحوها متردداً، والماء يقطر من ملابسي، شاعراً بالأسى لانتهاء المتعة سريعاً. لكنها حين اقتربتُ قالت:
- اخلع ملابسك. ضعها هنا على سقف السيارة لتجف.
- ملابسي كلها؟
- كلها. تستطيع أن تسبح إذا شئت. هل الماء بارد؟
- قليلا.
- إذن هيا، وليفعل إخوتك مثلك.
بلمح البصر، كنت قد خلعت ملابسي حتى لم يبقَ سوى القطعة الداخلية الأخيرة، ورجعت طليقاً نحو إخوتي، الذين ما إن رأوني حتى تراكضوا نحو الشاطئ، وهم يتملّصون من ملابسهم شيئاً فشيئاً، وسرعان ما اختفت معالم السيارة تحت الملابس المنشورة عليها.
أحسست بكل ذرة في جسدي تتوتر، وبعضلاتي تتجمد، وأنا أرتمي على الماء. غصت حتى عنقي، ولكن البحر كان دافئاً. ضربت الماء بذراعيّ قليلاً، ثم انقلبت على ظهري، وتركت نفسي مرتخياً، أنظر إلى سماء زرقاء صافية. ثم أغمضت عينيّ، وأنا أحس بجسدي يتهادى على الموج الخفيف، حتى انتابني شعور بأني توغلت مسافةً كبيرةً داخل البحر، عندها فتحت عينيّ فزعاً، وجاهدت لأقف على قدميّ، فإذا بهما تلمسان الأرض، وإذا بي قريب من الشاطئ.
كان رفيق وشريف يرشقان أحدهما الآخر بالماء. أما ياسر، أصغرنا، فقد وقف، بجسده الناحل، ينتفض مرتجفاً على حافة البحر.
أشرت إليه أن يأتي:
- هنا الماء دافئ. تعال، لا تخف.
تطلع إليّ متردداً، فهتفت:
- أمسك يدي.
لكنه تراجع إلى الخلف، ضاماً ذراعيه إلى صدره، وعيناه تعانقان البحر شوقاً.
بعد نحو عشرين سنة، حين رأيته مسجّى على طاولة المشرحة، وقد جيء به من جبهة القتال، وجسده العاري ناحلاً شاحباً، وذراعاه مضمومتين إلى صدره، تذكرت صورته ذلك اليوم، وهو واقف على الشاطئ يرتعش خوفاً ولهفةً. وشعرت بالأسى، لأن الخوف يومها ابتلع رغبته في مجاراتنا. وها نحن لن نذهب إلى البحر معاً بعد الآن. كان وجهه هادئاً، وعيناه مفتوحتان، على بحار وسموات غير مرئية. همست يائساً:
- لماذا لم تنزل إلى البحر؟ كان الماء دافئاً والشمس ساطعةً.
لكنه ظل يتراجع حتى استدار راكضاً. خرجتُ وراءه مهدداً بأن أجرّه الى البحر، فلاذ بأمنا التي كانت تقف إلى جوار السيارة الصغيرة.
حين اقتربنا، فوجئنا بها تمسك بسيجارة، رفعتها حين رأتنا إلى فمها، ونفثت دخانها في وجهينا، وهي ترقب ذهولنا، بعينين باسمتين. كانت المرة الأولى في حياتنا التي نرى فيها أمنا تدخن سيجارةً.
هتف ياسر:
- دعيني أجرّب.
فوضعت السيجارة في فمه، ولكنه حين حاول أن يسحب الدخان اختنق بالسعال. تشجعت واقتربت، وعاجلت إلى امتصاص السيجارة، بعمق، ونفثت الدخان بمهارة، كنت قد أتقنتها في الشوارع الخلفية.
ومع تبدد الدخان، في هواء ذلك اليوم الشتائي، بدأتُ أرى أمي بضوء مختلف، متواطئةً وصديقةً، وفي الوقت نفسه كان يتنامى في داخلي شعور بالقلق، من براعتها في إخفاء هذا الأمر عنّا، حتى أننا لم نعثر، يوماً، على آثار سجائر في بيتنا. ولكنها كانت قادرةً على إخفاء أمور أخرى، توّجتها بقفزها من شباك غرفتها، بعد خمس سنوات، من يوم الشاطيء ذاك، وارتطامها على سلم العمارة الخارجي، بدويٍّ مكتوم، ظل يرن في أذني سنوات طوال بعد ذلك. أذكر تحلّقنا حول جثتها المرمية، بغير عناية على السلم، ونحن نحدق، بذهول اليقظة المفاجئة، من غيبوبة عميقة، نحاول أن نفهم لماذا ترتمي أمنا بلا حراك على سلم العمارة، ووجهها شديد الشحوب غائباً عمّا حوله؟
- حان وقت الرجوع.
قالت أمي، وانهمكت في مساعدة ياسر على ارتداء ملابسه.
برز رأس رفيق من تحت الماء، وقد احمرّ وجهه، وتندت عيناه. نفض شعره المبلل، وأشار إلى بقعة بعيدة على الشاطئ، حين سألته عن شريف، واتجهتُ بنظري إلى حيث كان شريف ينحني على الأرض، يجمع القواقع في كيس ورقي.
- هيا يارفيق حان وقت الرجوع.
غطس مرة أخرى، وانتظرت لحظات قبل أن يرتفع رأسه، وهو يصيح:
- هل رأيت هذه الحركة؟
- هيا أخرج.
- ولكن هل رأيت هذه الحركة؟
- أستطيع البقاء مدة أطول منك تحت الماء.
- تعال ولنر من يستطيع أن يقاوم أكثر!
التفتُّ إلى حيث أمي، ثم ترددت هنيهةً، قبل أن أقفز إلى البحر.
- واحد، اثنان، ثلاثة.
وغطسنا معاً، في وقت واحد. كتمتُ نَفَسي حتى أحسستُ بصدري يكاد ينفجر، فرفعت رأسي، وأنا أشهق، في نفس اللحظة التي ظهر فيها وجه رفيق. نظرنا إلى بعضنا بتحدّ، ثم انفجرنا ضاحكيْن. قلت له “هيا لا تدع أمّنا تنتظر”.
راقبته، وهو يخرج من الماء، يمشي خافض الرأس، كعادته، وكأنه مستغرق في تفكيرعميق. كان رفيق أكثرنا ذكاءً وتفوقاً في المدرسة. ينجح دون أن يبذل جهداً في هذا السبيل. بل كان يقضي أوقاته، يلعب الكرة مع أولاد الجيران، أو يتمدد على سرير أمنا (وكان أشدنا التصاقا بها) يحدق في السقف حالماً.
كان يفعل ذلك حين اقتحمت عليه الغرفة، ثائراً، بعد سنوات. لم تتحرك قسمات وجهه، وهو يستمع إليّ أعنّفه. ولكني حين أطحت بزجاجة الخمر، التي كان يضعها تحت السرير، نهض متثاقلاً محاولا أن يمسك يدي، فلطمته، وهززته من كتفيه، علّه يصحو، لكنه كان غائباً عما حوله.
ظل جالساً، يستمع إليّ خافض الرأس، وأنا أحاول أن أغريه بأن الوقت لم يفت للعودة إلى الدراسة مرةً أخرى. حين انتهيت رفع وجهه، فلمحت دمعتين تجريان على خديه. حدق في وجهي، ملياً، ثم تحامل على قدميه، ومشى مترنحاً، حتى جاوز باب الغرفة، حيث أقف، ثم التفت إليّ، وابتسم كما خيّل إليّ، معتذرا، وغادر البيت.
آخر ما رأيته ظهره المحني، ورأسه المطرق، وكأنه مستغرق في تفكير عميق.
- شريف.. تعال.
اعتدل شريف، حين اقتربت منه، وقال وهو يريني ما بداخل الكيس الورقي:
- أنظر ماذا وجدت، قواقع كبيرة ملونة.
- ماذا ستفعل بكل هذه القواقع؟
غمغم بشيء ما، وسوّى وضع نظارته، وسار معي، وهو ينحني بين حين وآخر، ليلتقط قوقعة هنا وأخرى هناك.
ودون أن أدري، وجدتني أتنقل ببصري، بين الرمل، ومخلفات الشاطئ، لألقط القواقع، وأسقطها في الكيس. وجدت واحدةً مقفلةً. وقفنا نحاول فتحها، فلما استعصت طوحت بها إلى البحر. ثم أخذنا نتبارى، فيمن يرمي الحصى أبعد من الآخر.
كان شريف أقرب إخوتي إلى نفسي، ربما لأنه كان يصغرني بعام واحد فقط. كنا لا نكاد نفترق، وحتى عندما حصل، بعد انتهاء الحرب، على عقد عمل في دولة عربية، ظل يراسلني، عدة سنوات، بانتظام، وفي كل رسالة، يعد بأن هذا هو عامه الأخير في الغربة، وأن عودته صارت وشيكةً. ويمر العام، ويمضي آخر، بل إن رسائله، ظلت تتباعد، حتى انقطعت نهائيا. وبدا كأنه غاب عنّي إلى الأبد.
توقفنا نفحص قوقعة لامعةً، بخطوط صفراء وبنية، حتى سمعنا صوت نفير السيارة يتعالى بالحاح، فحثثنا السير.
أذكر الآن، بوضوح، صوت قرقعة القواقع في الكيس الورقي الذي يطوّحه شريف، وهو يسرع إلى جانبي. لا أدري ماذا فعل شريف بالقواقع بعد ذلك. على الأرجح ركنها في جانب من غرفتنا ونسيها.
لكن صوت قرقعتها يملأ عليّ، الآن، زنزانتي الانفرادية، وأنا منكفئ على وجهي، متورم الجسم، ممتلئا بقروح تنزّ ألماً.
كان صمت الزنزانة يثقل أذني بطنين غريب، بعد ساعات التحقيق الطويلة. ولكن جسدي يضجّ بألم زاعق، في حين لا أستطيع أن أحرك عضلةً واحدةً في جثتي المنكفئة. كنت أود أن انهض وأغادر المكان.. أركض..
- هيا ياشريف، لا تدع أمنا تنتظر.
كانوا قد اقتادوني، عبر ردهة طويلة، معصوب العينين.
وصلنا إلى السيارة، اختطفنا ملابسنا، وارتديناها قطعةً، قطعةً. كانت ما تزال ندية، لكن من يعبأ؟ قفزنا إلى السيارة، ياسر في المقعد الأمامي إلى جانب أمنا.
سمعتُ صرير باب يدفع، ويُطلب مني أن أجلس وأرفع العصابة عن عينيّ. كان الضابط الذي يواجهني يماثلني في السن، ويرتدي ملابس مدنيةً. سألني عن اسمي، وعملي وقدم لي سيجارةً. كانت رقته مثيرةً للريبة.
مرت ربع ساعة تقريباً، وهو يرمي إليّ بأسئلة عامة وشخصية، ثم فجأةً اكتست ملامحه غلظة وجمود، وهو يشدد على كل كلمة من سؤاله المباغت:
- ما صلتك بالجماعة؟
وقبل أن أجيب التفتتْ إلينا أمنا. هل كان وجهها شديد الشحوب، غائباً عمّا حوله؟
نظرت في وجوهنا واحداً واحداً، أولادها الأربعة، وسألتنا:
- ما رأيكم بهذه النزهة؟
تصايحنا “كانت نزهة جميلة. لماذا لا نذهب الى البحر كثيرا؟”.
اعتدلت في جلستها، وأدارت محرك السيارة، وانطلقنا. عبثت أصابع أمي بمؤشر المذياع. توقفت عند موسيقى مألوفة. انساب صوت عبد الحليم حافظ دافئاً “أهواك وأتمنّى لو أنساك”، وصدح صوت أمي “وأنسى روحي ويّاك”.
- الله.. الله.. صوتك جميل يا أمي!
“أهواك..” ارتفعت حناجرنا جميعاً حتى أغرقت صوت المغنّي. أسرعت السيارة باتجاه المدينة، وخمسة أصوات زاعقة، تغني بهمة وحماس، على وقع الموسيقى، وأسمع ياسر، وهو يصرخ، وسط الضجيج المنغم “ما معنى أهواك؟”.
وصوت أمي يرتفع، فيملأ فراغ الزنزانة:
- أحبك.
قالت أمي، وهي تطفئ المحرك:
- احذروا أن تبللوا ملابسكم.
اندفعنا باتجاه البحر، نرتجف شوقاً إليه، شريف ورفيق وياسر وأنا، شمّرتُ أطراف البنطلون، وكذلك فعل الآخرون. خلعنا أحذيتنا، وركضنا نحو الماء، ونحن نحجل على الحصى الصغير المتناثر على رمل أبيض.
لسعت برودة الماء باطن قدمي، واخترقتْ جلدي، قشعريرة فرح، فتوغلتُ في الماء، غير آبه بالبلل، والماء ينقّع البنطلون حتى فخذي. فجأة، لطم خدّي نثار ماء.
التفتُّ، كان رفيق يعاود الانحناء ليملأ كفيه من ماء البحر، ولكن قبل أن يعتدل صوّبتُ نحوه رشة بقدمي اليسرى، التي اعتدت أن أركل بها الكرة.
ودون أن ندري، كنا جميعا وسط البحر نتقاذف الماء، حتى سمعتُ صوت أمي يناديني غاضباً. التفتُّ مرغماً، وجدتها تلوّح من بعيد، وهي تسند ظهرها، على باب السيارة .
خرجتُ إلى الشاطئ، ومشيت نحوها متردداً، والماء يقطر من ملابسي، شاعراً بالأسى لانتهاء المتعة سريعاً. لكنها حين اقتربتُ قالت:
- اخلع ملابسك. ضعها هنا على سقف السيارة لتجف.
- ملابسي كلها؟
- كلها. تستطيع أن تسبح إذا شئت. هل الماء بارد؟
- قليلا.
- إذن هيا، وليفعل إخوتك مثلك.
بلمح البصر، كنت قد خلعت ملابسي حتى لم يبقَ سوى القطعة الداخلية الأخيرة، ورجعت طليقاً نحو إخوتي، الذين ما إن رأوني حتى تراكضوا نحو الشاطئ، وهم يتملّصون من ملابسهم شيئاً فشيئاً، وسرعان ما اختفت معالم السيارة تحت الملابس المنشورة عليها.
أحسست بكل ذرة في جسدي تتوتر، وبعضلاتي تتجمد، وأنا أرتمي على الماء. غصت حتى عنقي، ولكن البحر كان دافئاً. ضربت الماء بذراعيّ قليلاً، ثم انقلبت على ظهري، وتركت نفسي مرتخياً، أنظر إلى سماء زرقاء صافية. ثم أغمضت عينيّ، وأنا أحس بجسدي يتهادى على الموج الخفيف، حتى انتابني شعور بأني توغلت مسافةً كبيرةً داخل البحر، عندها فتحت عينيّ فزعاً، وجاهدت لأقف على قدميّ، فإذا بهما تلمسان الأرض، وإذا بي قريب من الشاطئ.
كان رفيق وشريف يرشقان أحدهما الآخر بالماء. أما ياسر، أصغرنا، فقد وقف، بجسده الناحل، ينتفض مرتجفاً على حافة البحر.
أشرت إليه أن يأتي:
- هنا الماء دافئ. تعال، لا تخف.
تطلع إليّ متردداً، فهتفت:
- أمسك يدي.
لكنه تراجع إلى الخلف، ضاماً ذراعيه إلى صدره، وعيناه تعانقان البحر شوقاً.
بعد نحو عشرين سنة، حين رأيته مسجّى على طاولة المشرحة، وقد جيء به من جبهة القتال، وجسده العاري ناحلاً شاحباً، وذراعاه مضمومتين إلى صدره، تذكرت صورته ذلك اليوم، وهو واقف على الشاطئ يرتعش خوفاً ولهفةً. وشعرت بالأسى، لأن الخوف يومها ابتلع رغبته في مجاراتنا. وها نحن لن نذهب إلى البحر معاً بعد الآن. كان وجهه هادئاً، وعيناه مفتوحتان، على بحار وسموات غير مرئية. همست يائساً:
- لماذا لم تنزل إلى البحر؟ كان الماء دافئاً والشمس ساطعةً.
لكنه ظل يتراجع حتى استدار راكضاً. خرجتُ وراءه مهدداً بأن أجرّه الى البحر، فلاذ بأمنا التي كانت تقف إلى جوار السيارة الصغيرة.
حين اقتربنا، فوجئنا بها تمسك بسيجارة، رفعتها حين رأتنا إلى فمها، ونفثت دخانها في وجهينا، وهي ترقب ذهولنا، بعينين باسمتين. كانت المرة الأولى في حياتنا التي نرى فيها أمنا تدخن سيجارةً.
هتف ياسر:
- دعيني أجرّب.
فوضعت السيجارة في فمه، ولكنه حين حاول أن يسحب الدخان اختنق بالسعال. تشجعت واقتربت، وعاجلت إلى امتصاص السيجارة، بعمق، ونفثت الدخان بمهارة، كنت قد أتقنتها في الشوارع الخلفية.
ومع تبدد الدخان، في هواء ذلك اليوم الشتائي، بدأتُ أرى أمي بضوء مختلف، متواطئةً وصديقةً، وفي الوقت نفسه كان يتنامى في داخلي شعور بالقلق، من براعتها في إخفاء هذا الأمر عنّا، حتى أننا لم نعثر، يوماً، على آثار سجائر في بيتنا. ولكنها كانت قادرةً على إخفاء أمور أخرى، توّجتها بقفزها من شباك غرفتها، بعد خمس سنوات، من يوم الشاطيء ذاك، وارتطامها على سلم العمارة الخارجي، بدويٍّ مكتوم، ظل يرن في أذني سنوات طوال بعد ذلك. أذكر تحلّقنا حول جثتها المرمية، بغير عناية على السلم، ونحن نحدق، بذهول اليقظة المفاجئة، من غيبوبة عميقة، نحاول أن نفهم لماذا ترتمي أمنا بلا حراك على سلم العمارة، ووجهها شديد الشحوب غائباً عمّا حوله؟
- حان وقت الرجوع.
قالت أمي، وانهمكت في مساعدة ياسر على ارتداء ملابسه.
برز رأس رفيق من تحت الماء، وقد احمرّ وجهه، وتندت عيناه. نفض شعره المبلل، وأشار إلى بقعة بعيدة على الشاطئ، حين سألته عن شريف، واتجهتُ بنظري إلى حيث كان شريف ينحني على الأرض، يجمع القواقع في كيس ورقي.
- هيا يارفيق حان وقت الرجوع.
غطس مرة أخرى، وانتظرت لحظات قبل أن يرتفع رأسه، وهو يصيح:
- هل رأيت هذه الحركة؟
- هيا أخرج.
- ولكن هل رأيت هذه الحركة؟
- أستطيع البقاء مدة أطول منك تحت الماء.
- تعال ولنر من يستطيع أن يقاوم أكثر!
التفتُّ إلى حيث أمي، ثم ترددت هنيهةً، قبل أن أقفز إلى البحر.
- واحد، اثنان، ثلاثة.
وغطسنا معاً، في وقت واحد. كتمتُ نَفَسي حتى أحسستُ بصدري يكاد ينفجر، فرفعت رأسي، وأنا أشهق، في نفس اللحظة التي ظهر فيها وجه رفيق. نظرنا إلى بعضنا بتحدّ، ثم انفجرنا ضاحكيْن. قلت له “هيا لا تدع أمّنا تنتظر”.
راقبته، وهو يخرج من الماء، يمشي خافض الرأس، كعادته، وكأنه مستغرق في تفكيرعميق. كان رفيق أكثرنا ذكاءً وتفوقاً في المدرسة. ينجح دون أن يبذل جهداً في هذا السبيل. بل كان يقضي أوقاته، يلعب الكرة مع أولاد الجيران، أو يتمدد على سرير أمنا (وكان أشدنا التصاقا بها) يحدق في السقف حالماً.
كان يفعل ذلك حين اقتحمت عليه الغرفة، ثائراً، بعد سنوات. لم تتحرك قسمات وجهه، وهو يستمع إليّ أعنّفه. ولكني حين أطحت بزجاجة الخمر، التي كان يضعها تحت السرير، نهض متثاقلاً محاولا أن يمسك يدي، فلطمته، وهززته من كتفيه، علّه يصحو، لكنه كان غائباً عما حوله.
ظل جالساً، يستمع إليّ خافض الرأس، وأنا أحاول أن أغريه بأن الوقت لم يفت للعودة إلى الدراسة مرةً أخرى. حين انتهيت رفع وجهه، فلمحت دمعتين تجريان على خديه. حدق في وجهي، ملياً، ثم تحامل على قدميه، ومشى مترنحاً، حتى جاوز باب الغرفة، حيث أقف، ثم التفت إليّ، وابتسم كما خيّل إليّ، معتذرا، وغادر البيت.
آخر ما رأيته ظهره المحني، ورأسه المطرق، وكأنه مستغرق في تفكير عميق.
- شريف.. تعال.
اعتدل شريف، حين اقتربت منه، وقال وهو يريني ما بداخل الكيس الورقي:
- أنظر ماذا وجدت، قواقع كبيرة ملونة.
- ماذا ستفعل بكل هذه القواقع؟
غمغم بشيء ما، وسوّى وضع نظارته، وسار معي، وهو ينحني بين حين وآخر، ليلتقط قوقعة هنا وأخرى هناك.
ودون أن أدري، وجدتني أتنقل ببصري، بين الرمل، ومخلفات الشاطئ، لألقط القواقع، وأسقطها في الكيس. وجدت واحدةً مقفلةً. وقفنا نحاول فتحها، فلما استعصت طوحت بها إلى البحر. ثم أخذنا نتبارى، فيمن يرمي الحصى أبعد من الآخر.
كان شريف أقرب إخوتي إلى نفسي، ربما لأنه كان يصغرني بعام واحد فقط. كنا لا نكاد نفترق، وحتى عندما حصل، بعد انتهاء الحرب، على عقد عمل في دولة عربية، ظل يراسلني، عدة سنوات، بانتظام، وفي كل رسالة، يعد بأن هذا هو عامه الأخير في الغربة، وأن عودته صارت وشيكةً. ويمر العام، ويمضي آخر، بل إن رسائله، ظلت تتباعد، حتى انقطعت نهائيا. وبدا كأنه غاب عنّي إلى الأبد.
توقفنا نفحص قوقعة لامعةً، بخطوط صفراء وبنية، حتى سمعنا صوت نفير السيارة يتعالى بالحاح، فحثثنا السير.
أذكر الآن، بوضوح، صوت قرقعة القواقع في الكيس الورقي الذي يطوّحه شريف، وهو يسرع إلى جانبي. لا أدري ماذا فعل شريف بالقواقع بعد ذلك. على الأرجح ركنها في جانب من غرفتنا ونسيها.
لكن صوت قرقعتها يملأ عليّ، الآن، زنزانتي الانفرادية، وأنا منكفئ على وجهي، متورم الجسم، ممتلئا بقروح تنزّ ألماً.
كان صمت الزنزانة يثقل أذني بطنين غريب، بعد ساعات التحقيق الطويلة. ولكن جسدي يضجّ بألم زاعق، في حين لا أستطيع أن أحرك عضلةً واحدةً في جثتي المنكفئة. كنت أود أن انهض وأغادر المكان.. أركض..
- هيا ياشريف، لا تدع أمنا تنتظر.
كانوا قد اقتادوني، عبر ردهة طويلة، معصوب العينين.
وصلنا إلى السيارة، اختطفنا ملابسنا، وارتديناها قطعةً، قطعةً. كانت ما تزال ندية، لكن من يعبأ؟ قفزنا إلى السيارة، ياسر في المقعد الأمامي إلى جانب أمنا.
سمعتُ صرير باب يدفع، ويُطلب مني أن أجلس وأرفع العصابة عن عينيّ. كان الضابط الذي يواجهني يماثلني في السن، ويرتدي ملابس مدنيةً. سألني عن اسمي، وعملي وقدم لي سيجارةً. كانت رقته مثيرةً للريبة.
مرت ربع ساعة تقريباً، وهو يرمي إليّ بأسئلة عامة وشخصية، ثم فجأةً اكتست ملامحه غلظة وجمود، وهو يشدد على كل كلمة من سؤاله المباغت:
- ما صلتك بالجماعة؟
وقبل أن أجيب التفتتْ إلينا أمنا. هل كان وجهها شديد الشحوب، غائباً عمّا حوله؟
نظرت في وجوهنا واحداً واحداً، أولادها الأربعة، وسألتنا:
- ما رأيكم بهذه النزهة؟
تصايحنا “كانت نزهة جميلة. لماذا لا نذهب الى البحر كثيرا؟”.
اعتدلت في جلستها، وأدارت محرك السيارة، وانطلقنا. عبثت أصابع أمي بمؤشر المذياع. توقفت عند موسيقى مألوفة. انساب صوت عبد الحليم حافظ دافئاً “أهواك وأتمنّى لو أنساك”، وصدح صوت أمي “وأنسى روحي ويّاك”.
- الله.. الله.. صوتك جميل يا أمي!
“أهواك..” ارتفعت حناجرنا جميعاً حتى أغرقت صوت المغنّي. أسرعت السيارة باتجاه المدينة، وخمسة أصوات زاعقة، تغني بهمة وحماس، على وقع الموسيقى، وأسمع ياسر، وهو يصرخ، وسط الضجيج المنغم “ما معنى أهواك؟”.
وصوت أمي يرتفع، فيملأ فراغ الزنزانة:
- أحبك.