جوهر فتّاحي - أخطاء فوكوياما.. والتاريخ الجديد..

السؤال الذي لا يقدر على الإجابة عنه أحد حاليّا هو: هل نحن في فترة من التّاريخ ما زال فيها لقوانين التّاريخ السّابقة معنى، أم أنّنا بلغنا نقطة اللاّعودة، وبدأت فعلا مرحلة جديدة تقطع تماما مع الماضي، وتسقط فيها القوانين السّابقة، لتبدأ قوانين جديدة، لم نألفها، ولا نعرفها، وعلينا إكتشافها؟

وبعبارة أسهل، هل التّاريخ ما زال مفيدا؟

فوكوياما، عندما كتب كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير، كان يعتقد، بظهور ما كان لوقت قصير يعرف بالعولمة، أنّ التاريخ قد إنتهى، بمعنى أنّ العالم قد دخل مرحلة سكون أخير وبلغ منتهاه، وأنّ حركة التّاريخ قد توقّفت، وأنّ الصّراعات التي تصنع التّاريخ قد اِنتهت، وأنّ ذات القوانين التّي وصلنا إليها ستَثْبت وتبقى حتّى نهاية الإنسان.

ثمّ عاد فوكوياما عن رأيه، وأقرّ بخطئه.

في الرّياضيات، هنالك نقطة مخادعة جدّا تسمّى نقطة اِنقلاب (point d'inflexion)، وهي تشبه إلى حدّ كبير النقطة القصوى ولكنّها ليست كذلك بتاتا لا من حيث الخصائص ولا من حيث الإستتباعات. في هذه النقطة، ملاحظة التغيّرات (la dérivée) فقط لا يفيد في شيء لمعرفة النقطة المقبلة، ولكن كيف "يتغيّر التغيّر" هو المهم (la dérivée de la dérivée). وبعد هذه النقطة تختلف الأمور تماما، ويصبح ما مضى من العاملة (la fonction) لا ينفع بتاتا للتنبؤ بحركتها في المستقبل. وهذا أمر صعب جدّا في دراسة التّاريخ.

ويبدو أنّ فوكوياما قد سقط هنا بالتّحديد، فالتبس عليه الأمر، ووقع في خلط بين نقطة الانقلاب، حيث يبدأ تاريخ جديد مختلف تماما عن سابقه، والنقطة القصوى حيث يبلغ التاريخ أقصاه.

تقول الملاحظات الحاليّة بوضوح إنّ الإنسان في المستقبل القريب لن يشبه الإنسان اليوم، وإنّ الإقتصاد لن يشبه الإقتصاد، وإنّ التكنولوجيا لن تشبه التكنولوجيا، وإنّ القيم لن تشبه القيم، وحتّى الأمراض لن تشبه الأمراض. فالثورات العلميّة، والمعرفيّة، والتكنولوجيّة المذهلة، وبالتالي الإقتصاديّة الكبرى تلوح في الأفق، وظهور قوّة عظمى جبّارة أخرى على الأقل على مسرح السّياسة أصبح أمرا واقعا، والتغيّرات المناخيّة الكبيرة صارت مشاهدة بالعين المجرّدة، زد على ذلك الإنفجارات الديموغرافيّة الواسعة في بلدان عديدة، وتغيّر التركيبات السكّانيّة في دول عظمى وما يتبعه من اِنتقال للسّلطة من فئة تقليديّة معروفة إلى فئة غير تقليديّة بالمرّة وأوليغارشيّة جديدة تماما.

وبإختصار، فإنّ القادم لن يشبه الماضي في شيئ. وعليه فإن التّاريخ لن يشبه التّاريخ، فنفقد حينئذ كلّ قدرتنا على التنبّؤ. فالتنبؤ يقتضي وجود شيء ذي قيمة نمسك به ونتوكّأ عليه، وفي التاريخ ليس أمامنا سوى الماضي، والماضي يفقد قيمته من يوم لآخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى