عبدالرحيم التدلاوي - قراءة في مجموعة سعيدة لقراري التي ستنشر قريبا و تحمل عنوانا معبرا هو "تاكتيك"

عن العنوان:
تضمن تكرارا لحرفي التاء والكاف وكأنه يلفت انتباهنا إلى وجود تكرار على مستوى العلاقة بين الرجل والمراة بشكل متنوع الأشكال موحد المضمون ولذا ينبغي تكسيره. فضلا عن أن التاكتيك له بعدان سياسي وحربي. والغالب او المنتصر هو من ينجح في استغلاله أحسن استغلال.
قد يكون العنوان قد فرض نفسه على المبدعة فرضا، ورافقتها ظلاله في كل نصوص المجموعة، ولن يمنحنا نحن القراء نفسه وملامحه إلا بعد الإنتهاء من قراءة النصوص جميعها ..فتاكتيك أسلوب يبدأ من التوقعات ، الاحتمالات قد يقوم على المراوغة، التحايل، يحمل بعدي المد والجزر، والأخذ والعطاء، في عوالم يتورط أفرادها في صراعات، تحديات أوخيبات.. وتاكتيك أسلوب يحيلنا أيضا على استراتيجيات قد تلبسنا ونحن نعيش أو نتعايش مع أحاسيس، نضيع فيها أو بها نجدنا؛ نجدنا في الآخر، الذي قد يكون رجلا، امرأة، طفلا، وردة ، وطنا...
**
عن القصة القصيرة جدا والمجموعة:
القصة القصيرة جدا هذا الكائن السحري العجيب الباعث على الدهشة والرعشة والصدمة استطاعت أن تجذب إلى مجرتها وبقوة الكثير من الأقلام والى غاباتها البكر والى بحارها المتقلبة والى أمطارها وشموسها.
تنشغل المجموعة بقضية الانعتاق والتحرر من الأغلال. فهي تنحاز لقيم الإنسانية بمواجهة الظلم والقطيعة بين الإنسان والعالم الذي يحيط به، مستثمرة المفارقة كمقابلة بين الحلم والحقيقة، وبين الخيال والواقع.. لقد اعتمدت العلاقة المتوترة بين الرجل والمرأة لطرح الكثير من تلك القضايا على مشرحة البحث، بغاية تجاوز الاختلالات إلى منابع السواء والاعتدال.
وقد اعتمدت على مداخل، منها، الأحلام والسخرية لتعرية الواقع معتمدة التكثيف والترميز وغيرها من الأساليب
تشعرن المبدعة سردها بأناقة المفردات وشفافية الصور وحساسية التعبير وجمالية التشكيل وهو ما يضفي على النسيج الحكائي عمقا يحول القصص قصائد نثرية محققة التداخل بين الأجناس فالثخوم غير بينة والفواصل ملتبسة.
كما تعتمد على الإيجاز والتركيز الشديدين وغالبا ما تنتهي القصص بضربة سردية تستفز المتلقي وتثير لديه شهوة الفهم لتخرجه من الصدمة.
وقد ارتبط كل ذلك ببلاغة الوضوح وليس الغموض الذي يحول النص عالما معتما ومغلقا مليئا بالألغاز والأحاجي و الكلام العسير والمنفر. ولا يعني هذا أن القاصة تقدم الدلالة في طبق السهولة واليسر فلابد من بذل الجهد لسبر أغوار القصص والقبض على دلالات ممكنة ومحتملة.
تلتقط المبدعة نصوصها من على الأرض، ولا تنتظر أن تأتيها من السماء، فنشم من أعطاف قصصها القصيرة جدا والشامخة دلالة روائح الطين والبحر، ونشم عرق التوتر القائم بين الرجل والمرأة، ونسمع آهات العنف المؤدي إلى الاختناق؛ اختناق المرأة أساسا.
تكتب المبدعة نصوصها السردية بأنفاس الشاعر. فالإضمامة عبارة عن قصص نثرية تعبق بعطر الشعر من خلال مجموعة من التقنيات المشتركة بين الجنسين، من مثل التكثيف، والإيحاء والتركيز والتقتير المعنوي واللغوي، والحذف والإيجاز، وتوظيف الرموز والصور.
قصص ملتبسة تصمت أكثر مما تتكلم، تقول القليل وتترك الكثير طي ذاتها تستدرج القارئ إلى مداراتها والغوص في أعماقها قصد استخراج دررها وما تخبئه من كنوز.إنها كتابة واعية بأهمية صفحة الورقة وما تتضمنه من دلالات البياض، فالسواد يخرجها من حيادها وبرودتها، فتصير عنصرا بانيا ومشيدا للدلالة، ومحققا لجمالية النصوص التي تسعى عبر تشكيلها إلى إمتاع العين أولا.
فللنصوص معمارية خاصة وتشكلا بصريا لافتا تدرك عبرها الدور المهم في بناء المعنى وتشييد الدلالات. فالمبدعة تعي أهمية الشكل الخارجي للقصص.
وهذه بعض النماذج أمثلة ليس إلا:
توتر العلاقة بين الرجل والمرأة واختلالها:
صدع
معا يتعاهدان على السفر.
يصعد القارب. تُباغته الأشرعة
وهي تُجذَب بريح قوية مبعِدَة
إياه عن الشاطئ ..
العهد تكسر على صخور الغياب
والسفر أصبح ذهابا دون إياب ǃ
ونتيجة هذا الاختلال تتولد المرارة التي تشعر بها المرأة؛ وقد وظفت الساردة مجموعة من المفردات المعبرة عن الألم والحسرة من مثل الصخر والقدمين الحافيتين، والحسرة، وتكملها بكلمة من اللغة المحكية التي تستضمر الرضا وقبول الأمر الواقع "لمكتاب".
1) حرث
على أرض صخرية تمشي
حافية القدمين..
بينما يبذر أمامها رجولة
مقدسة..
كانت ..خلفه تجني متحسرة "
صبرا على لْمَكْتاب "
وكثيرا ما تأتي القفلة المدهشة التي تخيب أفق انتظار القارئ وتمنحه تنويرا يدفعه إلى إعادة القراءة لمزيد كشف واكتشاف، كما في النص التالي:
هدف
حمل قوسه والسهام ..
حذرا، انتقى خير زمان، وأنسب
مكان. ببراعة قناص حدق، أطلق
سهما نحو الهدف ..أخرسته المفاجأة
والسهم يعود نحوه، ويزهق صوته.
ولا تنسى انتقاد أنانية الأفراد، وغرورهم الذي ينتهي بالسقوط، ما في قصة: "وصول"
يصعد الدرج بثبات، ينظر إلى الأمام، في منتصف السلم أسر في نفسه:
"بمجرد ما أصل هناك، سأتخلص من أثقالي الزائدة "
حالما، يضع قدما على فراغ، يهوي نحو أسفل الدرج !
ويحضر الرمز والايحاء في قصص كثيرة، منها "عزاء"، فالشكوى من بطش الأيدي يقابلها التجذر المعبر عن المقاومة والاستمرارية:
عزاء
تشتكي للبستاني من بطش أياد تقطفها ..
رَبَّت على بتلاتها الآيلة للذبول، وهمس لها بحنان:
لا تحزني أيتها الجميلة،
جذورك العميقة تحمل ملامحك
تحت الأرض..
أما قصة "سيئ السيرة والسلوك"، فعنوانها يعبر عن محتواها، ووقائع النص تشير وتعضد هذا المنحى:
يتجول في الأسواق، بين
القاصي والداني يحرص على
تلميع سيرته وسلوكه، حوراء تمر بجانبه محتشمة، يغض
بصره، واقعا أسيرا لعطرها،
يغمى على بصيرته..
وإذا كانت القفلة ضربة فنية تخلق الدهشة وتثير استفهام القارئ، فإنها، في بعص القصص، تأتي ممدودة أو مجزأة لتقوية المعنى وتزكية الدلالة كما في نص "واجهة" المختوم بكلمة "مثقوب" الممطوة والممدودة:
واجهة
ألوان فرح زاهية تطل من
الشرفة الجميلة ..
طوق ورد طبيعي يزين مقبض الباب ..
مزهوا بعشه الجديد، يردد:" هذا هو المطلووب.."
فرحا يدس يده بحثا عن المفتاح
وجد جيب سترته ... مثقوووووبا
ولا تستقيم القصيرة من دون المفارقة، فهي إحدى مقومات القص الوجيز وركنه الأساس، وقصة "دعاء" تؤكد ذلك، فلو قمنا بحذف التعارض القائم بين الموقفين لحصلنا على نص باهت وغير مدهش، ولما نمت السخرية وأينعت:
دعاء
متأبطا بَلْغته، يخرج من المسجد ...
بلسان الخشوع يدعو ربه إلى
تيسير ما عسر..
يُصعق و عيناه تلتقي بعيني ابنه
من طليقته ذو العشر سنوات
يبيع أكياسا بلاستيكية ....
وتحضر المفارقة في القصة التالية، تنمو بين النظري والواقعي مساحة فراغ تعبر عن الحرمان. فالمفارقة بين داخل القسم وخارجه تترجم ما بداخل الأستاذة وما تظهره. لقد كانت تقدم درسا نظريا للتلاميد في حين أن الحمامتين كانتا تقدمان فعليا درسا لها. درس يعبر عن حرمانها بفعل غياب الطرف الاخر المكمل.
"درس" يستمعون إليها.. وهي ترفرف بين الصفوف
فراشة،.. تشرح، توضح، يتوقف الصوت في
حلقها و يمتنع عن الخروج .. كانت نظراتها مشدود إلى
حمامتين منهمكتين في بناء
عش خلف زجاج نافذة القسم!
.
كما تعتمد على السخرية لإظهار نفاق الرجل من خلال سلوكه. موظفة الآية القآانية بطريقة مختلفة لتعبر عن اختلال الرجل وعدم صدق سريرته. فهو لم يهدف الى صلاح ولكن رغب في الاستفراد بالأنثى وتصييرها هدفه الخاص به.
وكثيرا ما نجد الخيبة مآل الشخصيات كما في هذا النص:
..صلاحية
تضمد جرحا،
تسمع بائع المتلاشيات يعرض
أسماء أشياء قديمة، ومتهالكة
يرغب في شرائها،
تفكر في إضافة اسمها إلى القائمة..
لقد اقتنعت بان مدة صلاحيتها قد انتهت وصارت من المتلاشيات التي ينبغي التخلص منها بأبخس ثمن.
مجموعة المبدعة سعيدة لكراري جديرة بالاهتمام والمتابعة، وقابلة لأكثر من قراءة، مجموعة وظفت القص الوجيز لقراءة واقع المرأة والرجل معا، بلغة مقطرة وتركيز شديد، مع اقتناص المفارقات شديدة التوهج والسخرية المبطنة.

**

* مجموعة "تاكتيك" في القص الوجيز لسعيدة لقراري. ستنشر قريبا.
* ينبغي الاشارة الى ان مراجع القراءة وهي قليلة جدا نسيت بفعل التقادم. ففقرات قصيرة للغاية دونتها في اوراقي منذ فترة ولم ادون مرجعها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى