أحمد دهقان - أنا قاتل ولَدكُم

تحية لك سيد رضا جبار زاده، اتمنى أن تكون على أحسن حال، أنا فرامرز بنكدار، لا أعرف إذا ما كنت تذكر هذا الاسم أم لا، أما أنا فأعرفك ورأيتك عن قرب، معرفتي بك تعود إلى مراسم عزاء كنت قد شاركت بها وكنت أنت تقف هناك وحول عنقك شال أسود تستقبل المعزيين، قرأت اسمك على تلك النعوة.
‎وصلت إلى المقبرة قبلك في مراسم الأربعين، كنت أعرف جيداً مكان قبر محسن، لأنني ذهبت عدة مرات منذ بداية إجازتي لأزور محسن مدربي ورفيق سلاحي، كانت الغصة أكبر مني، كادت تخنقني، كنت مجبراً على أن أبقي فمي مفتوحاً لأتمكن من التقاط أنفاسي، أغلب الناس كانت تظن إنني مجنون أو من ضحايا الهجوم الكيماوي الأخير، ولاسيما أن دموعي كانت تنهمر دون توقف. ربما تفكر الآن ان هذه الرسالة لا تعنيك أو ربما أصبت بالحيرة، لكنك ستدرك قصدي عندما تكمل بقية الحكاية.
‎في ذلك اليوم انتظرت طويلاً قدومك مع موكب المعزين مضى الوقت ببطء في مقبرة الشهداء، لابد أنك تذكر جيداً ذلك اليوم. ترجلت من سيارة بيكان كرزية اللون وشالك الاسود لازال ملتفاً حول عنقك، وقف الرجال في صفين من حولك وشرعوا بمراسم العزاء ومن الخلف كانت النسوة يندبن الفقيد فيما يتقدم الموكب نحو قبر محسن. كنت أقف تحت شجرة أكاسيا قرب الشارع العام، لا أعرف لما شعرت بالجبن ولم اتمكن من التقدم نحو الأمام. لقد كنت مذنباً لا اقدر على مواجهتكم حتى لو لم تكونوا على معرفة بيّ، كنت خجلاً من نظراتكم، لم أكن أعرف ماذا ستفعلوا لو علمّتم إني قاتل ولَدَكُم. نعم أنا قاتل محسن وليس جنود العدو.
‎أرجوك الآن أن تكمل رسالتي حتى النهاية ثم قرر ما تشاء.
‎في نهاية ذلك اليوم استجمعت نفسي وتقدمت نحو جموع المعزين، لم يكن الأمر بهذه السهولة حاولت أن اختبئ بين أمواج السواد. صحيح أنكم لم تعلموا حينها بوجودي أو اسمي ولكن الخوف كان يعتريني من كل الجهات، وعذاب الضمير لم يتوقف حتى لحظة واحدة عن تأنيبي، شيءٌ ما في داخلي كان يرغب برؤيتك أنت وأمّ محسن، كنت تمسح دموعك بطرف شالك الأسود وأمّه.. نعم أمّ محسن صديقي ورفيقي في السلاح ومدربي، كانت مرتمية على قبره غارقة في الصراخ تلّعن قاتل ابنها.
‎لو كنت مكاني وقتلتَ أحدهم، وأهل المقتول لعنوا قاتله أمامّك، ماذا كنت لتفعل؟ قتلته مجبراً لم يكن لدي خيار آخر، بالطبع قتلته عمداً لكنيّ كنت مجبراً على قتله، سأوضح لك الأمر.
‎منذ تلك اللحظة قررت ان اعترف بطريقة ما بما حدث، ولا سيما عندما القى صديق ولدكم ، وهو صديقي ورفيقنا في السلاح إيضاً كلمته التأبينية، كل ما قاله ذلك اليوم كان صحيحاً لكنه كان ناقصاً، ولاسيما ذلك الجزء الأخير بحكاية استشهاد محسن. رفع صديق ولدكم نظره من خلف مكبر الصوت، فالتقت عيناه بعيني، ثم طأطأ رأسه وخفض نظره مع اقترابه من نهاية روايته الناقصة، أتذكر يومها كيف ساءت حالته في نهاية الكلمة وانفتح الجرح في وجهه مقطراً دماءً احتقنت لتوها، اعطيته انت شالك الأسود ليوقف نزيف دمائه، انتهت روايته آنذاك وعليّ أنا أن أكمل ما حدث.
‎في تلك الليلة بعد غروب الشمس دخلنا المياه أنا ومحسن وبقية عناصر فريق الغواصين، كان علينا طبق الخطة أن نستولي على الخط الأوليّ للأعداء على الضفة الأخرى لشط العرب، ثم نضع قدمنا هناك – وهذا مصطلح عسكري لا ضرورة لشرحه هنا – بدأت القوات تستعد في زوارقها للتقدم، لترمي جبهة العدو.
‎ما قالوه لنا لاحقاً، إن العدو علم بتحركاتنا وشك بأننا نتحضر للهجوم، لذا بدأ بفتح النار على شط العرب، وكنا قد جدلّنا أيادينا ببعضها ومضينا إلى الامام، كانت يد محسن اليسرى بيدي اليمنى ونحن وسط المياه، ونيران العدو تترامى حولنا وكأننا وقعنا في قدر ماء يغلي، ولكنه لم يتمكن من رؤيتنا بعد، فاخذ يطلق الرصاص عشوائياً نحو الماء. على الطرف الآخر من المياه كانت أجسام سوداء تطفو فوق الماء متجهة نحو الخليج “الفارسي”، امعنت النظر أدركت أنها اجساد غواصي العدو في القطاع الأعلى.
‎ربما لا تهمك هذه التفاصيل ولكنيّ أرى أنه من واجبي شرح كل ما حصل تلك الليلة بالتفصيل، الحق معك لا استطيع أن أقول ما أريده دون مقدمات.
‎ثلاثمائة إلى أربعمائة متر كانت تفصلنا عن شط العدو، عندما أطلق محسن ولدكم صرخة قصيرة، وسقط كسمكة خرجت لتوها من الماء، وبدأ يتخبط قربي، لقد أصابته رصاصات العدو العشوائية.
‎ أمسكت به حتى لا يضيع في الظلام الحالك، فمن الممكن أن يغرق في الماء مع حمولته الثقيلة من المعدات والأسلحة ويذهب مع المياه دون عودة. ما أخبركم به صديق ولدكم هو أن محسن استشهد وسط المياه والقائد أمر جندي إسمه بنكدار بنقل جثمانه إلى ضفة العدو كي لا يضيع.
‎ربما الآن تذكرت اسمي، لكن محسن لم يستشهد عندها، على الرغم من أن جرحه لم يكن بالأمر السهل، لكن قائدنا أمرني بنقله إلى عمود الغواصيين نحو الأمام، في تلك اللحظات هدأت نيران العدو وتمكنت من فك معداته وأسلحته ليسهل نقله، كانت الرصاصة قد استقرت في عنقه ومزقت حلقه، وضعت يدي بإحكام حول خصره وسبحتُ معه نحو الشط، كل ما كنت أفكر به في تلك اللحظة هو إنقاذ محسن الذي انقذني من الموت سابقاً، رفعت رأسه فوق الماء كي لا تمنع الأمواج العالية والقصيرة تنفسه، بقيت على نفس الحركات حتى قطعت الامتار الثلاثمائة المتبقية.
‎وصلت شط العدو، كانت الاسلاك الشائكة والألغام والطحالب تنتظرنا، لم يلحظ حراس العدو وصولنا اختبأنا خلف الاسلاك، تواصل قائد مجموعتنا مع المقر، قالوا لنا عليكم أن تصبروا حتى تصل الامدادات، فجأة بدأ بلعوم محسن بإصدار أصوات عالية، فالهواء كان يخرج من المكان الذي مزقته الرصاصة، اقترب مني قائد فرقة الغواصين وقال أخفي صوته، فحركت محسن نحو اليمين واليسار ليخف الصوت دون فائدة. في تلك اللحظة رأيت جندي من جنود العدو يقترب من برج المراقبة، يبدو أن شكاً اعتراه، قرأت الصلوات على الأنبياء والآيات التي كانوا يقولون إنها تحجب نظر العدو، اقترب القائد مجدداً وقال لي بحزم اخفِ صوته. لم ادرك قصده، أجبته بتلعثم بأنني حاولت لكن الصوت لم يتوقف، أعاد القائد أمره: اخفِ صوته، سألته: كيف؟، أجابني ضع رأسه تحت الماء، لم أصدق ما قاله ولكن مع نظراته الحادة وصمته، ادركت أنه جاد بالفعل.
‎استمر محسن، ولدكم وصديقي ومدربي بإصدار شخير حاد، والأمواج المتلاطمة تعلو رأسه أحيانا فتملأ بلعومه بالماء فيعود ليخرج مع أنفاسه كالنوافير، كانت يدي تمسك بمعصم محسن سحبته تحت الماء بقوة، ما أن غمرته المياه حتى اهتز فجأة واستعاد وعيه وعاد ليعلو بنفسه فوق الماء، صرخ القائد بوجهي لماذا تقف أبقيه بقوة تحت الماء اذا عرف العدو مكاننا ستزهق أرواح كل الجنود خلفنا، أمسكت كتفي محسن من الخلف وضغطه في الماء، حبست أنفاسي ودفعته نحو الأسفل.
‎كانت لحظات مؤلمة جداً استعدت ذكرياتي مع محسن لحظة بلحظة، مرت أمامي أشهرنا الستة المشتركة في ثواني، في يوم توزيع القوات تم تصنيفي كسباح محترف، وأُرسلت إلى فرقة الغواصين، ساقونا إلى المقر قرب نهر كارون، هناك رأيت محسن ومدرب آخر أمرونا بأن نسبح نحو الشط الآخر للنهر ونعود، ثانيةً، قفزنا في الماء وبدأنا السباحة كي يحدد المدربون قدراتنا، لا خيار لي سوى التغلب على الخوف، فقد أمرنا ولدكم بذلك، لم أصدق أن المياه عميقة بالفعل حتى فقدت قدمي تواصلها مع الأرض، رأيت الموت بعيني انتفضت يداي وقدمي بحركات عشوائية ودخل الماء إلى جوفي، لم أدرك ماذا حدث إلى أن فتحت عيني ورأيت محسن يضغط على صدري بيديه، لم أمت! لقد انقذني ولدكم من الغرق واخرجني من تحت الماء.
‎مع الوقت أصبحنا أنا ومحسن أصدقاء نبوح بأسرارنا ونحكي قصصنا الخاصة، ستة أشهر كاملة مرت كشريط الذاكرة في ثوانٍ أمام عيني، لم أقاوم هذا الشعور الغريب أمام غرق منقذي، لم استطع أن أحرمه من حقه بالحياة، غصتُ بنفسي من الماء وقبل أن أرفع رأسي لأتنفس كان رأس صديقي محسن قد لامس الهواء.
‎كان القائد قد تقدم علينا حينها، لكن صوت شخير محسن أعاده بسرعة نحوي، الصمت يحيط بنا من كل جانب عكس ما كان يخيل لي وأنا تحت الماء، اقترب القائد مني وبهدوء تام همس في إذني بقوة : ألا ترى إين نحن؟ اذا كشف مكاننا ستحدث مجزرة كبيرة، لن نقتل فقط نحن بل غواصي الالوية الأخرى.
‎أصوات أنفاس محسن كانت تعلو أكثر وأكثر، قلت بهدوء لا استطيع. نظر إليّ القائد وخيل له إن قوتي الجسدية هي من تمنعني من ذلك، قال لي سأساعدك. استسلمت. حاولت أن لا أفكر بأي شيء لا الماضي لا الحاضر لا الصداقة ولا الزمالة ولا أنت والده الذي عليّ أن وضح له مستقبلاً.
‎قال لي القائد: أمسك رأسه، وألصق القائد جسده بقدمي محسن ومضى نحو الأعماق ومضينا معاً، أما محسن فكان يغط في هدوء عميق إلى أن عاد وانتفض بيديه وقدميه، دفعه القائد نحو الأسلاك فعلق بينها، اكتشفنا ذلك لاحقاً، عندما عم الصمت على جسد محسن خرجنا من الماء، ليبقى هناك وحيداً متمسكاً بالأسلاك لا يقوى المد والجزر على انتزاعه منها، وكأنه مسيح مصلوب محاط بالأشواك يداه تسبحان في الماء ورأسه منحنٍ على كتفه، مسح القائد دم محسن عن وجنتيه بلباسه وأمرنا بالهجوم مرة ثانية، ولم أرَ محسناً بعدها.
‎هذه حقيقة ما حدث لولدكم، أخبركم بها الآن دون أي تلفيق، وأنا حاضر لأي عقوبة تتخذونها، أنا قاتل محسن، ويجب أن أتحمل جزاء ما فعلت، سأخضع لأي قرار تأمرون به، لازالت أخدم بنفس الفرقة وعنواني خلف الظرف. سأترك لك الوقت فأنت بحاجة للوحدة، تقبل تعازي.
‎ صديق محسن ورفيق سلاحه وقاتله فرامرز بنكدار


ديانا محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى