أنس الرشيد - النهضة المؤنثة بالصوتِ المهمل/ الجَمَالُ يُحطّمُ الجُدران.

  • إهداء:
إلى حبيبتي.. الشفّافةِ التي تتحدث صامتة، الرقيقة من حِدةِ ذكاءِ الأنوثة الأولى.. الكنعانيّة التي جاءت من لقاءِ (قرنِ غزالٍ) زرعتْها أُمُنّا الأولى بين سهول أولِ الحُب في فلسطين العتيقة، مع (عَرَارٍ) أوجدتْه رياحُ الشعر الأولى في رياضِ نجد، ذلك الذي حين مرَّ الصمة القشيري على موطنِ وجوده قال:
تَمّتّع من شميم عرار نجد/ فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد/ وريّا روضِه غبّ القطار

وإلى حبيبي وشقيقِ النصِ حين يتجلى، محمود درويش، ذلك الغريبُ الذي مات في الغابة بعد أن خطَّ خَطًّا بجوارِ الشعر والنثر، فكانَ الأدبُ شِعرا ونثرا ودرويشًا. ذلك الذي خاطَ من الطبيعةِ والإنسان نصًّا يتوالد، نشربه فننثر الحُبّ حكاية سردية بمسارات متعددة، تبني الواقع -كما جذوره اللامتناهية في السردية- أنثويّا، متوزّع القوة والحظ.. وليكون لُقاحًا سرمديًّا.
____
  • عتبة:
المنديلُ الدرويشي: "تركتُ وجهي على منديلِ أمّي/ وحملتُ الجبال في ذاكرتي/ ورحَلْت...".
المنديلُ الأنثوي الذي يُفكك ثنائية: الجريمة الصهيونية/ البطولة الفحوليّة. المنديلُ رمزٌ مزدوج؛ حيث يُكتب عليه، وحيث يُمحا به ما كُتب. والعودةُ إلى (المنديل) هو بقاءُ أساسٍ يُحلم منه. وكان المنديلُ؛ للخاصّية المزدوجة. فهو يمحو كلَّ ما كان بعد الملامح الأولى، ثم يكتب عليه إنسانية مجردة! أما الإنسان نفسه فيحمل الجبل ويرحل بلا منديل. لهذا الحلم شرط في الصراع؛ والصراع لا يحقق الحلم إلا بقدر ما يبني حلما جديدا.
____
  • تأنيث النهضة:
" سأواصِلُ أَنْسَنةَ العدوِّ..." جملة أطلقها محمود درويش؛ ليؤنث النهضة العربية الثانية، تلك النهضة التي أعقبت هزيمة 67م؛ الهزيمة التي جعلتْ الفحولةَ الصهيونية تشرب الأنخابَ وترقصُ، والفحولة العربية تطرحُ سؤالات جديدة تقوم على النكوص على الذات وتفكيك عيوبها حتى تنهض وتستعيد فحولتها المسلوبة.
في هذا الوقتِ عادَ درويشٌ على الذاتِ الرابطة بين الطرفين، ليُشرِّحَ عيوبها، إذ ليس في الحرب/ الفحولة، إلا الخُسار، فالصراعُ الطبيعيُّ هو صراعٌ بين ذاكرتين؛ يُنْبِتُ نسقَه الطبيعي في نسيجه الكنعاني، وتتحدد حلوله ونقده وأزماته وفلسفته بناء على هذا النسيج، وأما الفكرة الصهيونية فهي ذاكرة الاستفحال نفسه؛ نبتتْ في مفاصِل صخرةٍ فانتسبت لها، وامتدتْ إلى ما بعد بزوغ الشمس، فأتمّت وجودها باغتصابٍ. لكنّ الذاكرة الكنعانية مؤنثة تَعِدُ بالولادة الدائمة، والإنتاج اليومي والحياتي، وتعد بالزيادة والنقص، فالصراع لا يحقق الحلم إلا بقدر ما يبني حلما جديدا، أما الحربُ فهي الذكورية في مراحلَ عليا، ولا تعد بشيء إلا الحفاظ على الكمال الأوحد، والقوة العظمى؛ لهذا فالحربُ خارج صراع الذاكرة. ومن هنا يقول درويش في (كتابة على ضوء بندقية): " وأحسّتْ كفَّه تفترسُ الخصر/ فصاحت لستَ في الجبهة/ قال/مهنتي/ قالت له لكنني صاحبتك/ قال من يحترف القتل هناك يقتل الحب هنا".
ولهذا فالنهضة الدرويشيّة نهضة متعالية على الحرب الثنائية المغلقة، فهي ليست نهضة عربية بل نهضة إنسانية/ أنثوية. وليس المراد بالأنثوية أفعال المرأة، بل المراد به ما يرتبط بالخطاب من نسق يضاد الفحولة والتسلط والقوة المطلقة والمتن الأوحد، ومن ثمّ فإن التأنيث فعل يصدر من النساء والرجال على حدٍ سواء.
ومن هُنا أعادَ درويشُ تقسيمَ الشعراء اليهود في فلسطين إلى حِزمٍ جديدة؛ فالشاعر (حاييم نحمان بياليك) ينتمي لصهيونية (أرضٍ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض) والشاعرة (داليا ريبكوفتش) والشاعر (يهودا عمحاي) ينتميان لذاكرةٍ في المكان. فحاييم مطرود من صراعِ الذاكرة، وينتمي لتلك الصخرة النابتة خارج التأنيث والذاكرة الولّادة، أما الآخران فشريكان في الشعر لدرويش؛ حيث يقول درويشٌ عن يهودا: " طرح شعره تحدّيا لي؛ لأننا نكتب عن المكان نفسه، يريدُ استثمارَ المشهد والتاريخ لصالحه، ويقيمه على هويتي المدمرة، لذا نتنافس: من مالك لغة هذه الأرض/ من يحبها أكثر/ من يكتُبها أفضل". ويقول عن الاثنين: "... بيد أني أريد أن أفترض وجود شعراء مبدعين، مثل يهودا عمحاي وداليا ريبكوفتش، ذوي استعداد أولي لفهم أمثالنا، عندما ألتقي بالحيرة النفسية لدى هذين وغيرهما أحصل على حقنة من الأمل في أنّه لا يزال في هذه البلاد من يحافظ على حاسة فهم الآخرين".

إن هذا الجذر التأنيثي، ليس طارئا، بل نجده في عروقِ ديوان (أوراقِ الزيتون)، وتحديدا في نصّ (أمل)؛ حيث يقول: "ما زالَ في قلوبكم دماءْ/ لا تسفحوها أيها الآباء/ فإن في أحشائكم جنين". تأنيث الذكور هنا مرتبط بالأمل، إذ لا أمل إلا بأن تخلعَ الذكوريةُ لباسَها وتهبط إلى إنسانية الأنوثة. الذكورية التي أشار لها درويشٌ على لسانِ صاحب شولميت: "يا أريحا، أوقفي شمسكِ إنا قادمون/ نوقف الريح على حدِّ السكاكين/ إذا شئنا، وندعوك إلى مائدة القائد/ إنا قادمون".
لم يقل درويشٌ: فإن في أصلابكم جنين. بل قال في أحشائكم، لينقل المعنى المجازي إلى حقيقي، والحقيقة هنا ليست تلك المفارقة للذات، بل هي الملازمة لها من جهة تبدُّل الوعي لما يعيه. إذ الوعي ملازم لما يعيه، ومن ثمَّ لا وجود لما هو خارج، إلا بحقيقة ما نعيه.

  • آخرُ الليل/ الزنابق البيضاء/ نبيذ الذاكرة
آخر الليل هو عنوان الديوان الذي أصدره درويش في أعقاب هزيمة 67م، وهو وصفٌ مخاتل لمفهوم الهزيمة؛ من حيث إن َّآخرَ الليل/ السَحَر، لا يعقبه إلا الإبلاج؛ والإبلاج سيعمّ أصحاب الذاكرة، لهذا قال درويش في الديوان ذاته/ قصيدة وعود من العاصفة: " فإذا كنتُ أُغنّي للفرح/ خلفَ أجفان العيون الخائفة/ فلأنَّ العاصفة/ وعدتني بنبيذ.. وبأنخاب جديدة/ وبأقواس قزح". والقوس القزح بألوانه المتعددة علامة على المخاتلة للهزيمة التي لا وجود لها إلا في تاريخِ الطارئين على الذاكرة، تلك الجيوش الحربية بصفتها امتلاكا للحق المطلق.
ديوانُ (آخر الليل) كان بداية منعطفٍ، حيث إن التطور الفني لدى درويشٍ بدأ منه، وما هذا التطوّر إلا وصفا لحالة الصراع شكلا ومضمونا، يقول درويش: " ...أشعر بأنَّ مسافة التطور الفني بينه -آخر الليل- وبين عاشق من فلسطين، أوسعُ من المسافة الممتدة بين عاشق من فلسطين وأوراق الزيتون، وأشعرُ أنَّ كلمات آخر الليل أكثر ظلالًا وإيحاءً، وصار الرمز عندي أغنى بالكثافة، وإن كان الجو العام شفافًا" هذا التحول الدرويشي متزامن مع تحول سياسي كبير وهو عام 67م، مما يجعلُ النصَّ مكثفا بالرمز لا على سبيل الإغماض، بل لتحول القضية من تراكمٍ كميٍ إلى (كيفٍ)، وسُيبنى عليه تراكمًا متسقا مع ذلك التحول. من هنا قال درويش: " واستطعتُ -كما يبدو لي- أن أحقق الصداقة بين الحلم والواقع، بين سبب الرمز ومدلوله، وتلقائية العلاقة بين الفكر والوجدان". عقد الصداقة بين الحلم والواقع هو الثيمة الدرويشية التي تبني الصراع على مفاهيم إنسانية/ أنثويّة، حيث الأحلام أنثى؛ فهي تلد، وتحوي في أحشائها جنينا/ حكايات/ وعود/ تأويلات. والأحلام تنزف كالأنثى ولا تموت، والأحلام تتمدد وتتقلص كالأنثى في عظمتها البيولوجية/ الولادة وتوابعها. والحلم عند درويش هو الذي يُمسك برقبة حلم آخر، أي أن تحقق الحلم هو بميلاد حلم آخر، وذاك من أعماق الأنوثة.

وهُنَا أطرحُ نموذجين: نموذجٌ ينتمي للذاكرة، ويُعَدّ ذروة هذا العقد الدرويشي، وهو (شلومو ساند)؛ ذلك الجندي الإسرائيلي الذي يحلم بغصن زيتون، بزهرِ ليمون، الجندي الذي يرى الوطنَ أن يحتسي قهوةَ أُمِّهِ، أمه التي حفرت تحت جِلْدِهِ أمنية (لو يكبر الحمام في وزارة الدفاع)، وأما النموذج الثاني فينتمي للصخرة الصهيونية، ذاكرة الاستفحال، وهو (موشيه ديان).
فأما النموذج الأول وهو (شلومو ساند) فهو بطل قصيدةٍ شعرية كتبها درويش وضمنها ديوانه آخر الليل، بعنوان (جندي يحلم بالزنابق البيضاء). هذه القصيدة أشارت إلى خلل مفهوم الحرب، لا الخلل في أيٍّ من الطرفين!، ومن هنا فإنها وضعت أصبعها على النسق الفحولي الذي يصرّ على مفهوم الغالب والمغلوب/ الظهور والخفاء/ الوجود والعدم. والقصيدة في الآن نفسه، دشّنت مرحلة جديدة في مفهوم الصراع شكلا ومضمونا، فأما الشكل فالتزاوج الذي جرى بين القولِ الشعري في إيقاعيّته المغلقة، والسردية الحكائية المنفتحة؛ بين المطلق والنسبي؛ مما يعطي أنَّ الصراعَ صراعُ الذاكرة، والذاكرة تتسع لتحوي قوس القزح. وأمَّا المضمونُ فتأنيثُ الإنسان؛ إذ حينها تنكسر حدةُ القول المطلق لديه، والقوةُ المدمرة التي لا تدخلها النسبية أبدا، والجسمانية التي ولدتْ بلا طفولة، وامتلاك المتن الدائم. فالنصُ هنا بُني على: 1. المهمّش واليومي: قال درويش: " ... لم يفهم الأشياء/ إلا كما يُحسّها.. يشُمّها/ يفهم -قال لي-إنَّ الوطن/ أن أحتسي قهوة أمي/ أن أعود في المساء.." 2. الناقص: " حدثني عن لحظة الوداع/ وكيف كانت أُمُّه/ تبكي بصمت عندما ساقوه/ إلى مكانٍ ما من الجبهة/ وكان صوتُ أُمه الملتاع/ يحفر تحت جلده أمنية جديدة/ لو يكبر الحمام في وزارة الدفاع/ لو يكبر الحمام.." 3. الضعيف: " سألتُه: حزنت؟ / أجابني مقاطعًا: يا صاحبي محمود/ الحزن طير أبيضٌ/ لا يقرب الميدان. والجنود/ يرتكبون الإثم حين يحزنون/كنتُ هناك آلة تنفث نارًا وردى/ وتجعل الفضاء طيرا أسودا".
والحزنُ يتعالى عليه الذكرُ، الذي يرى أنَّ الضعفَ صفةٌ أنثويّة، طيرٌ أبيض في وقتٍ يجب ألا يكون إلا الدم الأحمر، والطير الأسود، والانتصار المطلق.
والحزنُ ربيبُ الذاكرة، لا مكانَ له في المفهوم الحربي التقدّمي. يقول درويش: "... فوجئتُ أنَّ المكتبَ السياسي ناقشَ هذه القصيدة، وفهمَ أحدُ الأعضاء أنَّ الحلَّ الحقيقي هو أن يرحلَ الإسرائيليون؛ لكي يريحوا ضميرهم".
إن الفحولة هنا في الرؤى سليلة تلك العصور البطولية الإغريقية التي ترى أن الرجل الصالح هو القوي الباسل المقتدر، وأما الرجل الطالح فهو الضعيف والمتسامح والأمين. لهذا قال درويش عن ديوان آخر الليل: "...استُقبِل بفتورٍ علنيٍّ من أغلبية القراء، قال لي عشرات المثقفين يا محمود! عُد إلى الوراء. إذا كان هذا هو التقدم الفني فليتك لم تتقدم. وقيل لي بشفقةٍ ليتك لم ترحل عن القرية، هل سيأتي كل قارئ إلى الشاعر؛ ليفسر له الرموز، أم يبحث عن منجّم".
إنَّ الرافضَ هنا ليس وعي المتحدثين، بل إنه نسقٌ فحولي/ ذكوري يريدُ امتلاك المعنى الأوحد، والمقاصد المباشرة في تحديد الموقف الأيديولوجي؛ وكأن درويش أدركَ هذا فعبّر عنه قائلا: "... وفي الحوار القاسي، أو الصراع بين الموت والحياة، انتصرتُ على الموتِ دون أن أجعلَ أيديولوجيتي تتدخل ظاهريًّا".
في إدراك درويش لهذا التناقض (متطلبات التجديد عند الشاعر/ الإمكانيات المتوافرة لدى الناس) جعله يطرح هذا التساؤل آنذاك: " كيف أُوفِقُ بين شقِّ الطريق أمام الكلمة لتمارسَ مفعولها بين الجماهير، بصفتها كلمة ثورية من ناحية، وبين متطلبات الشروط الفنية المتطورة لهذه الكلمة؟" ومما يجدر الانتباه له أن درويش هنا عنى -ممن عناهم- القارئ المثقف؛ إذ هو أشار في حديثه المذكور في الأعلى أنَّ عشرات من المثقفين قالوا له عُد إلى الوراء. وهذا يؤكد أنَّ درويش يتعامل مع ظاهرة ثقافية سياسية اجتماعية، ولهذا قال عن الكلمة (بصفتها كلمة ثورية) أي أنَّ هذا شرطها في الوجدان الجماهيري، وأيضا هي كذلك عند المثقفين العضويين. والثورية هنا تأخذ الجانب الأحادي/ المتعدد في الآن نفسه، أي أنّ الثورة مشتقة من فعل الثور حين يثور، تلك الثورة التي تختلف طعناتها واتجاهاتها، وهي في الآن نفسه تحمل هدفا واحدا وهي القضاء على مَن أمامها. ومن ثم جاءت النظريات التي تسبق الثورة، وهذا ما جعل مفهوم الثورة توريةً ثقافية، أي أنها تحمل معها مفاهيمها للقيادة النخبوية أو الفردية، والديكتاتورية سواء كانت لأفراد أو لطبقة، ومن ثم فإنَّ هذه التورية الثورية تقول بأنَّ كل الصفات التي تحملها النظرية للثورة (الديكتاتورية/ الاستبداد/ التنظير الفلسفي التقعيدي) ماهي إلا مؤقتة لتجاوزها، وذلك للتخلص من حِمل النظرية التي أرهقت كاهل مفهوم الثورة الذي جاء من ثورة الثور. ولو تُركت الثورة بلا نظرية، فإنها ستكون كثورة الثور بلا مقصد محدد. لهذا كله يطرح درويش سؤاله المصيري لمستقبل شِعره. وهنا نعود لمفهوم المنديل الدرويشي الذي طرحتُه، يقول درويش في لحظة عذاب نفسي، وعصف ذهني أمام الحالة المصيرية: " ... ثم إني مليء بالإحساس في أنَّ اللعبةَ الفنية عندي مكشوفة خلف منديل شفاف". وكأن درويش وجد مفتاحًا أوّليًا للإجابة عن هذا التساؤل المعضلة؛ إذ المنديلُ رمزٌ مزدوج؛ حيث يُكتب عليه، وحيث يُمحا به ما كُتب. والعودةُ إلى (المنديل) هو الضمان لبقاء الأساس الذي يُحلم منه. وكان المنديلُ؛ -لخاصّيتة المزدوجة- يمحو كلَّ ما كان بعد الملامح الأولى، ثم يكتب عليه إنسانية مجردة، أما الإنسان نفسه فيحمل الجبل ويرحل بلا منديل. لهذا الحلم شرط في الصراع؛ والصراع لا يحقق الحلم إلا بقدر ما يبني حلما جديدا.
ومن هذه المعضلة ترسّخت الفحولة/ الذكورية في الخطاب الفكري/ الديني/ الاجتماعي/ الاقتصادي/ السياسي، وقاعدتها الأساس الثورة/ الجذور/ العودة، فنبعت الدراسات التي تحاول أن تقرأ مشكلات العرب من جهة قومية، أو مشكلة الأمة من جهة دينية أو شيوعية. والذي لم يلتفت له هي تلك المعمارية الحوارية الأنثوية/ الإنسانية، التي يريدها درويش، لهذا كتب يوسف الخطيب في مقدمة ديوان الأرض المحتلّة: " سنضطر للمرة الثانية بعد قصيدة كردستان، ألا نعايش محمود درويش تجربته الشعرية التي سجلها لنا حول هذا النمط الإنساني المريض... فأي نمط إنساني عجيب حقا ذلك الذي جاء من بولندا أو رومانيا أو اتحاد جنوب أفريقيا من أجل أن يبحث عن زنابق بيضاء في الجولان أو في الغور الأردني، أو في سيناء؟ إن هذا الإنسان سواء أكان في هيئة عامل أو في هيئة مزارع أو في هيئة جندي يحلم بالزنابق البيضاء، لا يكاد يختلف شيئا عن أيما ضابط هتلري قام بواجبه العسكري على أكمل وجه في ساحة القتال، أو في أحد أفران الغاز، ثم عاد لنفسه ليسكر ويبكي، ويتأمل صورة زوجته وطفله الرضيع اللذين تركهما في برلين"
إن الخطيب يتحدث بلسان النسق الشعري القديم، ذلك المستفحل، الذي لا يفهم الأغنية حين تقول إن شيئا غير هذا الماء يجري في النهر، وحصى الوادي تماثيل وأشياء أخر. قال درويش في مطلع الستينات: " الفرق بين الشعر القديم والحديث هو باختصار أن الشعر القديم فكرة، والشعر الحديث صورة وإحساس، هذا في الشكل، أما المضمون فأصبح الشاعر إنسانا بعد أن كان مغنيا وواعظا وفارسا".
أي أنَّ الشعر القديم إنسانٌ يتقمص شخصية واعظ أو فارس أو مغني ليعبر عن فكرة مستغنية بنفسها، تدور ضمن النسق المستفحل/ الذكوري/ المتسلط/ المستبد/ المطلق، أما الحديث فإنسان يرسم صورة ممتدة مفتقرة لما بعدها كافتقار الأحاسيس إلى اتقان الحقيقة الكاملة. ومن هنا أيضا نلحظ تحول وظيفة المغني بين القديم والحديث، بين الخطابات السياسية والأيديولوجية، وبين الأحلام في مفهومها الأنثوي/ الإنساني/ الإبداعي/ المختلف/ المتعدد. فشلومو ساند من خلال قصيدة درويش تحول من مغني لخطاب سياسي إلى مغني للحب. ومن هنا قال درويش في يوميات الحزن العادي: " ما عاد بوسعي أن أرضى بالأطلال تجسيدا للحلم، لأن انتمائي لم يعد غريزيا، صار أكثر وعيا، وصار مضمون الحلم لا انفجاره هو قضيتي".
لهذا كانت خاتمة شلومو ساند مدهشة، يقول صبحي حديدي: " روى لي الصديق الكاتب والمؤرخ الفلسطيني إلياس صنبر مترجم أشعار درويش للفرنسية أن إحدى أقنية التلفزة دعته قبل سنوات إلى حوار حول السلام مع أكاديمي إسرائيلي، فاكتشف صنبر أن شريكه في الحوار هو ذاته الجندي الذي كان يحلم بالزنابق البيضاء. تتمة الحكاية أنَّ ذلك الجندي ليس اليوم معارضا لسياسات الأحزاب الإسرائيلية في الموضوع الفلسطيني فحسب، بل هو بين أفضل الإسرائيليين المدافعين بشدة عن الحقوق الفلسطينية"
إن شلومو هنا يتحول إلى كائن أنثوي، وكان درويش ينظر له -بنظرة ثاقبة كاشفة – على أساس أنه (شوشنة ديتسمان) تلك المرأة اليهودية التي علمتْ درويشًا في ثانوية كفر ياسيف، يقول درويش: " ومن حسن حظي ظهرت في حياتي صورة أخرى مناقضة للحاكم العسكري... هي المعلمة شوشنة التي لا أملّ الحديث عنها. لم تكن معلمة، كانت أمًا، لقد أنقذتني من جحيم الكراهية، كانت لي رمزا للخدمة المخلصة التي يقدمها يهودي طيب لشعبه، لقد علمتني شوشنة أن أفهم التوراة كعمل أدبي، وعلمتني دراسة بياليك بعيدا عن التحمس لانتمائه السياسي، وإنما لحرارته الشعرية. لم تحاول أن تعبئنا بسموم البرامج الدراسية الرسمية التي ترمي إلى دفعنا للتنكر لتراثنا. لقد أنقذتني شوشنة من الحقد الذي ملأني به الحاكمُ العسكري، لقد حطمت الجدران التي أقامها ذلك الحاكم"
ذلك هو الفرق بين نظرة درويش للنهضة، ونظرة غيره سواء كانوا شعراء أم مناضلون بمختلف الأيديولوجيات، أم مفكرون وفلاسفة. يقول درويش في لقاء مبكر معه عام 1969م " ومن الطبيعي أن السياسة تقضي على الحساسية المفرطة، وعلى التمسك المتواصل ببقايا الذكريات، وبوسعي أن أقول الآن: إنَّ وضعي الراهن أسهل، ولكن المواجهة النفسانية الداخلية تثور فيَّ عندما أجلس لكتابة الشعر. عندها يجري الحوار بين إحساس الفنان والوعي السياسي، وأنا أعتقد أن الفنان يجب أن يكون عاريًا أمام نفسه"
من هنا جاءت مناصرة درويش للأكراد على حساب العرب، فالنهضة شرطها أنثوي/ إنساني، لا فحولي/ تسلطي، أي أن إلغاء ظروف الحرب/ الكراهية/ الغلبة/ الرأي المطلق، معقود بإلغاء المفهوم الفحولي/الذكوري. ومن ثم حلول الإمكانيات الكبرى لطبيعة العيش في الحياة ومدنيتها، تلك الحلول التي تجلت شعريا في قصيدة (هدنة مع المغول أمام غابة السنديان) من ديوان (أرى ما أريد) تلك القصيدة المقسمة إلى ستة عشر جملة شعرية، مجموعها يوصل إلى تلك الخلاصة العظيمة، ويطرح الوسيلة الصعبة في طرح الإمكانيات المعيشية، ومن ثم نهاية الحرب بصورتها الذهنية والواقعية. لهذا يمكنُ لي أن أصنع لها عناوينَ بهذا الشكل كي تتضح الملحمة الدرويشية: الجملة الأولى: (حماماتُ سلام، لكننا كائنات من سنديان) وتبدأ بقول: "كائنات من السنديان تطيل الوقوف على التل" الجملة الثانية: (احتمالات قدوم السلام على سنديان الريح العبثية) وتبدأ بقول: " كُلُّ شيء يدلُّ على عبث الريح، لكننا لا نَهُبُّ هباء" الجملة الثالثة: (الخيول تُفكِّر بالحرب؛ فلابدَّ من هدنة؛ ليتحول الصراع إلى حكي ولابدَّ من عقل؛ ليتحول الخيل إلى كائن من سنديان) وتبدأ بقول: "الضحايا تمرُّ من الجانبين تقول كلامًا أخيرًا وتسقط في عالم واحد" الجملة الرابعة: (شبح الرجاء الأخير المُعلّق بين صدى الأرض الواحد، وغربة السماء) وتبدأ بقول: "الصدى واحد في البراري" الجملة الخامسة: (قربان الحرب المتناقضة من تناقض الحياة) وتبدأ بقول: "كل حرب تُعلِّمنا أن نحب الطبيعة أكثر" الجملة السادسة: (لو كان أعداؤنا "نحن"، لكانت "ليت" لوقوع المستحيل: حب الرصيف/ الألوان المتعددة) وتبدأ بقول: " ليت أعداءنا يأخذون مقاعدنا في الأساطير؛ كي يعلموا كم نحب الرصيف الذي يكرهون" الجملة السابعة: (كيف تمدّ براعم الأزهار لك يدها للسلام، وأنت تطأها) وتبدأ بقول: "كم أردنا السلام لسيدنا في الأعالي.. لسيدنا في الكتب" الجملة الثامنة: (لا غابة سنديان ندخلها؛ ليستحق الأمر نسيان مهارة امتصاص الرذاذ) وتبدأ بقول: "الحروب تُعلّمنا أن نذوق الهواء، وأن نمدح الماء" الجملة التاسعة: (قَطْعُ السنديان؛ كيلا نرد على ناي شجرة) ويبدأ بقول: "كل قلب هنا لا يردُّ على الناي يسقط في شرك العنكبوت" الجملة العاشرة: (الإرادة والغفران) وتبدأ بقول: "المغولُ يريدوننا أن نكون كما يبتغون لنا أن نكون حفنة من هبوب الغبار على الصين أو فارس" الجملة الحادية عشرة: (حسب رحيل الخيل يقف العدو ليتأمل معجزة السنديان) وتبدأ بقول: "لم يجيئوا لينتصروا فالخرافة ليست خرافتهم" الجملة الثانية عشرة: (لابدَّ من حنين إلى لغة السنديان) وتبدأ بقول: "الصدى واحد في الليالي" الجملة الثالثة عشرة: (بياض الحروب من خارجها) وتبدأ بقول: "الحروب تُعلّمنا أن نحب التفاصيل" الجملة الرابعة عشرة: (ما بعد الحرب العبثية؛ إذا المطرُ غسل الذاكرة) وتبدأ بقول: "كم سنضحك من سوس خبز الحروب، ومن دودِ ماء الحروب إذا/ ما انتصرنا نُعلّق أعلامنا السود فوق حبال الغسيل ثم نضع منها جوارب" الجملة الخامسة عشرة: (القمر للجميع والحبق لنا) ونبدأ بقول: " خَلْف هذا المساء نرى ما تبقّى من الليل" الجملة السادسة عشرة: (كان حلما عن جذوع الحكاية) وتبدأ بقول: وأخيرا صعدنا إلى التل. ها نحن نرتفع الآن فوق جذوع الحكاية.. ينبت عشب جديد على دمنا وعلى دمهم"

وعودا على الانتفاضة الكردية في بدايات الستينيات من القرن العشرين، رأى درويش فيها نظرةً تعودُ إلى تحليل الإشكاليات من النفي الأصيل للظروف المنتجة للصراعات؛ والنفي الأصيل هنا ليس إلغاءها إنما بترها من خلال إعادة الروح للمختلف والأنثوي والمهمش والضعيف...إلخ، يقول باحث كردي: " ومَنْ مِنَ الكُرد لم يتذكر إنصافَ هذا الشاعر في شعره، تجاههم... إن للشاعر محمود درويش دَيْنًا كبيرًا في أعناق الكُرد من خلال قصيدته كردستان الذي ندد بالعدوان الظالم على الشعب الكردي في العراق، وكان ينتقد حزب البعث عندما أشعل حربه ضد الكرد منذ عام 1963م" (وَرَدَ هذا القول للباحث الكردي في مقالة في الحوار المتمدن بعنوان درويش شاعر الإنسانية أنصف الكرد).
وأما حذف قصيدة كردستان من ديوان أوراق الزيتون، فدرويش كتب قصيدة ضمن ديوان (لا تعتذر عما فعلت) بعنوان (ليس للكردي إلا الريح) وهذا أمارة على بقاء الروح التي جعلته يكتب (كردستان) فليس إذن حذفها بسبب التخلي عن الكرد. وإن كان ثمة فارق بين القصيدتين من خلال أن قصيدة(كردستان) للشعب كله، وقصيدة (ليس للكردي إلا الريح) لشخص بعينه هو سليم بركات. إلا أن الروح الفنية التي ينبض بها نص (ليس للكردي إلا الريح) تحيله على الكرد أنفسهم، ابتداءً بالعنوان؛ فاختيار لفظة (كردي) تحديدا من صفات سليم بركات له مغزاه العميق. ولو قرنا قراءة هذه القصيدة مع قصيدة (لا راية في الريح)؛ لخرجنا برؤية عميقة حول المراد من لفظة الكردي باقترانها مع الريح. لهذا فحذف القصيدة (كردستان) جاء من جهتين؛ جهة قيلتْ سابقا وهي إزاحة القصائد -كلها أو بعضها- التي حملت مضامين إيديولوجية. وجهة أراها أنا وهي مرتبطة بالتخلي عن الديوان الأول (عصافير بلا أجنحة)، وهو أنه خطّ آخر لا يلتقي مع طريق التطور الدرويشي، وليسَ لأنَّ ما فيه ضعيف فنيّا كما يُشير البعض، إذ بالإمكان أن يقول الشاعر: هي مرحلة تُعَبّر عن زمنها الشعري، ولا يلغي الديوان من تاريخه. لكنه ألغاه من قوله الشعري وتطوره، لهذا فدرويش يرى أنَّ الشعر هو لحظة غامضة ينفصل فيه القول عن نوازع الذات. وهي لحظة غامضة؛ لأنه مغرق في الوقت نفسه في أسرار الذات بتنوعها. من هنا تأتي الفلسفة الشعرية لدرويش؛ تلك التي تَخُطّ طريقًا جديدًا في معنى الشعر، مع ملاحظة أننا لا ندري ما الشعر؟ إن منبع المفارقة هو أننا نُعرّف الشعر ولا نُعرّفه، ولكن منبع رضانا عن هذا التناقض هو أنَّ ثمة معنىً شعريًا يؤخذ من تاريخ الذات الطويل، الذات هنا بمعناها الكلي، لهذا يمكن أن نقولُ إن الشعراء يسيرون بخط طويل، له فروع كثيرة، لكنه أصل الخط نفسه وإنْ قَدُم. حتى أتى درويشُ وخط طريقا آخر. من هنا نتساءل عن مكان الذات في الشعر الدرويشي، مستحضرين أن ذاته ذاتان، ذات شاعرية وذات واقعية. ومن هنا فحذف درويش للقصائد من تاريخه الشعري ينبع من التنظير ذاته لإلغاء ديوان كامل. وقصيدة كردستان خرجت في أول طبعة من أوراق الزيتون؛ ثم ألغاها درويش تماما بعد ذلك.
وأما النموذج الثاني وهو (موشيه ديان) فحكايته مرتبطة بتلك الصخرة النابتة خارج الذاكرة الكنعانية..، بذلك الفعل الصهيوني الذي جاء من الذاكرة الاستفحالية في آخر ظهورها الفج/ أواخر زمن الاستعمار الأكبر، واستمرّ إلى ما بعده، فظلَّ النسيجُ الكنعاني مغتصبًا من قِبلِ جسمٍ غريب، وظلت فلسطين تنتمي لما قبل الفعل الأنثوي المستتر، ومن هنا أهمية الطرح الدرويشي.
(موشيه ديان) واجهه درويشٌ بقصيدةِ (يوميات جرحٍ فلسطيني) وتحديدا في المقطع الثاني عشر، والقصيدة في ديوان (حبيبتي تنهض من نومها) وهو بعد (آخر الليل) بثلاث سنوات. يقول: " عالم الآثار مشغولٌ بتحليلِ الحجارة/ إنه يبحثُ عن عينيه في ردم الأساطير/ لكي يثبت أني/ عابرٌ في الدرب لا عينان لي/ لا حرفٌ في سفر الحضارة/ وأنا أزرع أشجاري على مهلي/ وعن حبي أُغني"
إن هذه المواجهة الدرويشيّة تصوّر كائنًا غريبا يفتش في الذاكرة؛ لعلّه يجد أثرا لتلك الصخرة الطارئة التي ولِد منها. بينما درويشٌ يزرع الشجر بطمأنينةٍ وعن ذاكرته يغني. لهذا يذكر بعض المؤرخين أن موشيه ديان وزير الحرب الإسرائيلي مولع بالآثار؛ وقد ذكر هو نفسه في مذكراته أنه لم يشهد إحدى المعارك، بسبب قيامه بالحفريات في منطقةِ (أزور) القريبة من تل أبيب.
هنا نلحظ أنَّ (شلومو ساند) و(موشيه ديان) كلاهما عسكريان، إلا أنَّ درويشًا فرق بين مفهوم (الآخر) في مواجهتهما، وهذا التفريق نابعٌ من جذريّة الفرق بين الحرب القائمة بين جسدين لا بد أن يطرد أحدهما الآخر، لأن أحدهما لم يولد ولادة طبيعية، وبين الصراع في الذاكرة الكنعانية، وصراع التاريخ الطبيعي، فالأول لا يمكن أن يتطور إلى مفاهيم أنثوية/ إنسانية، وأما الثاني فالقابلية يؤسِسها طبيعة الصراع، وتغيير الوعي في الصيرورة التاريخية، لهذا فدرويش يخاطب الآخر عن الآخر في المقطع العشرين من قصيدة (يوميات جرح فلسطيني) يقول: "كان لابد من الأعداء/ كي نعرف أنّا توأمان/ كان لابد من الريح/ لكي نسكن جذع السنديان" إنه يخاطب آخرا داخل النسيج عن آخر خارجه، لهذا كي يعرفا أنهما توأمان لابد من عدو، ومن خلال هذا العدو يتغير الوعي في السيرورة التاريخية، ومن ثم تغير النسق الأكبر للحياة.
والديوان الذي واجه به درويشُ موشيه ديان معنون بـــ (حبيبتي تنهض من نومها) والدلالة هنا على تلك اللحظة التي تقوم بها فلسطين -كذاكرة منسوبة إلى حبيب- ببطء من نومها، إنه استيقاظ الواثق من أغنيته، في اللحظة التي يسارع الآخر (موشيه ديان) إلى الحفر ليثبت وجوده في الأغنية. لهذا يقول درويش في مطلع قصيدة (حبيبتي تنهض من نومها) التي عنون بها الديوان: "طفولتي تأخذ في كفّها/ زينتها من كُلّ شيء/ ولا/ تنمو مع الريح سوى الذاكرة"

  • آخر الليل/ الأنوثة/ مرافقة الدخان
بين الفعل والقول مواضعَ تفصيلية، تجيدها الأنثى التي لم تشُبْها لوثة الذكورة، من هنا قال درويش في يوميات الحزن العادي: " اذهبي وتعالي ريثما أصحو من اللذة. وابتعدي عنّي قليلًا، لكي ينفصل الحلم عن عظامي. أنا علمتُك التدخين، وأنتِ علمتني مرافقة الدخان"
بين الذهاب والجيئة انفصالٌ لا ينتمي للذكر ولا للأنثى، بل للأنوثة. إن هذه المواضع ينقسم الناس تجاهها إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: قطعي بثبوتها ولكن بعد أن يُحرر الاعتقاد حولها بشكل قطعي أيضا، والثاني: قطعي بنفيها بصورة دوغمائية، تُنَظِّر بصورة قطعية على أن مصدرها كذبة صُدِقت، وبُني عليها سيرورة تاريخية. وهذا مثل سابقه بالقطع، وبالجمود، والثبات حول رؤى وفلسفات تعزز من وجود الإطار الشمولي/ الفحولي. والثالث: لا ينفي ولا يثبت، بل يُغمضها لدرجة انفجارها إلى شظايا لا تحصى، ويصنعُ من وجودها نصوصا عليا، ومنهجَ وصفٍ يروّضُ منه الاستفحال الفكري والفلسفي والأدبي والثقافي.
إن درويش في هذا الوصف يتأمل الفعل النابع من أنثى يهودية، ولكن بصورته الفلسفية كمقام أول، ثم بصورته الثقافية الاجتماعية كمقام آخر، وآثار ذلك على تحولات الذات ومن ثم واقعها الموضوعي، فتبرز آثار ذلك على الحرب والصراع وطبيعته. لهذا قال عن هذه الأنثى نفسها بعد حرب حزيران: "وفي العام القادم كانت الحرب، وعدتُ إلى الزنزانة من جديد، وفكّرتُ بها: ماذا تفعل الآن؟ كانت في مدينة نابلس أو في مدينة أخرى واحدة من الفاتحين. تحمل بندقية خفيفة، ولعلها تلك اللحظة كانت تأمر الرجال برفع أيديهم أو بالركوع على الأرض، أو لعلها كانت تُشرف على استجواب أو تعذيب فتاة عربية" إن هذه المقارنة الدرويشية للفتاة نفسها، كان في الأول فلسفي شاعري، ثم تحوّل الوصفُ إلى تقريري مباشر، وهذا التغير يعطي إشارة على مفهوم الأنوثة وموضعه من الأنثى في واقع ذكوري، ففي اللحظات الأولى كانت قبل وعي الحرب الحزيرانيّة فأطلقَ درويش وصف: " كي ينفصل الحلم عن عظامي" ووصف: "علمتني مرافقة الدخان" فمرافقة الدخان صفة للمختلف والمنفتح على كل الثقافات والرؤى والفِكَر، والممارسات المختلفة، دون تحديد لصوابيّة قطعية، فقط يرافق الدخان حيثما يذهب، وكأن الدخان مسير التاريخ وتحولاته وتشعباته وتنوعاته. أما تعليم الدخان فإنه فعل قارّ وثابت وواضح الرؤى، ومن ثم يُناسب المطلق والقطعي. ومن هنا أراد درويش أن ينفصل الحلم عن عظامه من خلال الأنثى، وقد صار فعلا؛ حين تأنث فكره ورؤيته وأطلقَ العنان لإبداعه الذي ينفصل عن الواقع ويتصل به أشد اتصال، في لحظات مغايرة لكل تجربة شعرية سابقة. ثم لما قامت حربُ حزيران أخذ يصف الفتاة كما يصف أي جندي يحارب بشكل مباشر. يقول درويش في حوارية مع تلك المجندة: " - متى أراكَ - عندما تخرجين من القدس - أنا سأخرج ولكن الجيش لن يخرج - لن أراكِ - وما زلت أحبك - ارمي هذا السلاح" وفي هذا المقطع نجد القطيعةَ بين الحرب والعشق، تلك الرابطة التي تنتمي للذكورية، وتمثُّل القطيعة هنا بالأنثى كرمز؛ يوضح رمزيته تجنُّدها. أي أنَّ الحرب والعشق وجهان لعملة واحدة في المفهوم الذكوري في كلا وجهيه؛ إذ الوجه الآخر هو النسوي. ولهذا جاء -عند درويش- تأنيث النهضة بصورتها المشتركة بين الشعوب.
إن تلك التجربة الدرويشية تخضع دائما لتساؤلات درويش نفسه، من خلال تقمص روح أنثى بالأنثى نفسها كواقع موضوعي؛ فنجده مثلا في عام 1991م بعد الانقطاع عن اللقاءات الإعلامية لمدة أربع سنوات، بحجة: " لا قابلية لي على التكرار" نجده يقبل دعوة إيفانا مرشليان؛ كي يتعرف على عاشقة استثنائية لأشعاره، وذلك لمّا أُخبر درويش عنها في أمسية باريسيّة. فبادرها بالسؤال: قولي لي ماذا تعرفين عن محمود درويش؟ هذا سؤال لا يعني ظاهره، بل يريد أن يكشف عن الأنساق الثقافية الكامنة في نصوصه من خلال أنثى؛ تأكد أنها استثنائية في حب نصوصه. ولهذا لما قال درويشُ لإيفانا: "يوميات الحزن العادي، كتبته مثل الحلم... ذكّريني شو بقول فيه" درويش يعرف ما في كتابه، ويعرف أن إيفانا لن تسرد له الكتاب أو أغلبه بل ستنتقي، ومن انتقائها هذا يختبر أنساقه من خلالها. فأجابتْ إيفانا: " في قصة حب: أنا علمتكِ الدخان... وأنتِ علمتِني مرافقة الدخان" فأظهر درويش تَعجبه قائلا "جميل هذا الكلام". هذا التعجب يجعل التأويل السابق لهذا النص حاضرا في ذهن درويش، وحاضرا في ذهن إيفانا بكونه منتقى، وبما أنه يكسر حدة الاستفحال/ السلطة/ القوة المطلقة.
وهذا التفسير الذي ذكرتُه يجيب عن قول إيفانا: " كم استغربتُ أسئلتَه حول هويّتي الحزبية، وميولي السياسية" إن درويش يريدُ أن يتأكد من الأنثى التي ستقرأ له أنساقه ومدى إيغالها في الأنساق الكبرى الاستفحالية/ السلطوية/ الذكورية. ولنتأمل استجواب درويش لإيفانا ابتداء من سؤاله لها: " بالــ 82 رشّيتي الغزاة اللي دخلوا بيروت ليقضوا علينا بالورد والرز؟" ومرورا على استفهامه: "ليش اعتذر لك"؛ ليصل إلى نتيجة جاءت على متن سؤال يقول فيه: " إذن لماذا تحبين شعر محمود درويش مادام نحن من هجرناك من بيتك وطفولتك؟ أنا كمان فلسطيني، ما تنسي" وقد كانت الإجابة التي أرادها محمود حين قالت إيفانا: "لأن الشعر والفن أقوى من الدبابات. تصور أن شعرك كان ومن حيث لا تدري سقف بيتنا في وقت طويل من الحرب لم نكن نملك فيه بيتا..." فتلك الإجابة تنقّي صورة إيفانا، وتعزز من كشفها الأنثوي لكل الأنساق الفحولية.
العلاقة بين الأنثى والذكر علاقة شِعرية عند درويش تنبعُ من واقع الأرض، يقول: "الفتاةُ تنامُ معي في الليل، وتحاربني في الصباح؛ لأنها تصير جندية، والشاعرة الحسناء تبكي على قدمي في الليل، وتدل الشرطة على آثار أقدامي في الصباح" إن هذا القولَ مضمّن في كتاب عنوانه (وداعا أيتها الحرب وداعا أيها السلام) والذي يودّع الحرب والسلام في الآن نفسه، إنما يريد أن يبني واقعا غائبا حاضرا بقوة العلاقة الصراعية في حياتنا، إذ تلك التفصيلة بين فتاة، وشاعرة حسناء، ليست إلا وصفًا لطبيعة الحرب والسلام، من خلال العلاقة الأنثوية/ الذكورية؛ لاختبار إنسانية الجسد عندما يتحرّر من الوعي. إذ حين نتحرّر من الوعي كيف نبني علاقتنا؟ هنا يأتي وصف التناقض بين (تنام معه بالليل وتحاربه في الصباح) والنوم بالليل علامة السلام، فإذا أصبحا تحاربا. فلحظة السلام (النوم بالليل) هي لحظة تحرر الوعي، وفي الصباح يعود الوعي فتعود معه الحرب، مما يعني أننا رسبنا في الاختبار، اختبار الجسد حين يكون بلا وعي، لهذا يقول في كتاب (ذاكرة للنسيان): " وكلانا يقتل الآخر خلف النافذة". لكن هذا التناقض يحيل على إمكانية موجودة، وهي أنَّ الوعي حين يسقط يعانق عدوَّه، مما يجعلنا نمسك بهذه الإمكانية ونفلسفها كي تثمر واقعا، من خلال صراع الحرب والسلام اللذين ودعناهما، وبنينا من صراعهما طريقا جديدا، جذورُه ذلك العناق في لحظة سقوط الوعي.
ومن هنا يأتي اسم (ريتّا) ذلك الاسم الأبرز، الذي خرجَ مع الأحداث الحزيرانيّة 67م، وتحديدا في ديوان (آخر الليل)، ثم ضاعَ مسمّاه بعد ذلك من تعددِ دلالاته، وبناء سياقاته المغايرة، إذ ورد هذا الاسم بعد ذلك في قصيدة (العصافير تموت في الجليل)، وقصيدة (ريتا أحبيني) وكلاهما من ديوان (العصافير تموت في الجليل) عام 69م. ثم في قصيدة (تقاسيم على الماء) من ديوان (أحبكِ أو لا أحبكِ) عام 72م. ثم في قصيدة (الحديقة النائمة) من ديوان (أعراس) عام 77م. ثم في قصيدة (شتاء ريتّا الطويل) في ديوان (أحد عشر كوكبًا) عام92م.
وكان درويش يتعمّد إضاعة مسمّاه، ليبقى الاسم حرا، طليقا، لا يخضع للقيود الذكورية، السلطوية التحكمية التي تُغلق الألفاظ على معانٍ واحدة. وهذا يُذكرنا بقولٍ في رواية (اسم الوردة): "كانت الوردة اسما، ونحن لا نمسك إلا الأسماء". أي أنَّ درويش لم يُرد للكتابة أن تمنح (ريتّا) اسما له دلالة واضحة، بل أراد من (ريتّا) أن تتقلب بين المعاني ضد العرف الذكوري. أي أن تفكك العلاقة التاريخية ما بين الدال/ النهضة، والمدلول/ القوة، التسلط، الانتصار الأوحد، الدولة الواحدة القوية، المستبد العادل. وإذا فككنا تلك العلاقة فإن القارئ أمام حالةٍ مفتوحة متعددة/ أنثوية/ إنسانية، فيملؤها من جديد بمسميات التنوع والاختلاف والتعايش اللامحدود واللامشروط.
فمثلا لما سألت الصحفيةُ الفرنسية (لور أدلير) درويشًا عن ريتا، أجاب: " إنها تركيب لغوي لأكثر من تجربة، وأنه لا يعرف امرأة بهذا الاسم؛ لأنه اسم فني، ولكنه ليس خاليًا من ملامح إنسانيّة محددة" وبعد تساؤلٍ صحفي ملحٍ كعادة الصحفيين الذي يريدون الأشياء بمسمياتٍ محددة، "هل ريتا قصة وقعت بالفعل"؟ أجاب درويش: " إذا كان يريحكِ أن أعترف بأن هذه المرأة موجودة، فهي موجودة، أو كانت موجودة، تلك كانت قصة حقيقية محفورة عميقا في جسدي.." حتى قال بوصفٍ شِعْري ومعنى دقيق: " في الغرفة كنا متحررين من الأسماء، ومن الهويات القومية، ومن الفوارق، ولكن تحت الشرفة هناك حرب بين الشعبين". أي كأن الأسماء بقيت في الأسفل عند الشعبين، أما المسمّيات فهي متعانقة متحابّة، في الأعلى. ولهذا قال في كتابه (شيء عن الوطن): "إنها إنسانة ليست محددة" أي أن معناها ومسمى ريتا -سواء قلتم إنها فلانة أو قلتم إنها رمزا- ليس مغلقا، بل هو معنى حرا طليقا يعرّي صراعنا، ويخلق منه طريقا جديدا لوصف حالتنا. ومن علامة أن درويش يلاعب المعاني حتى لا تقف، بل يفتح إمكانيات أن يأتي الطريق الثالث من صراعاتنا، وندخل في مرحلة إنسانية/ متعددة/ أنثوية.. أن سميح القاسم -صديق درويش الذي أدرك ريتا وقابلها- وضح تفاصيل شخصية ريتّا قائلا: " لقد كانت ريتّا عابرة جدا في حياة درويش، بل وبحكم معرفتي بها أقول: بأنها كانت بسيطة جدا كما أن معرفة درويش بها لم تتجاوز أشهرا وليس حتى عامين كما قال الشاعر... الحكاية عبارة عن أكذوبة تافهة، بالكاد كانت ريتا أو (إيريت) كما كنا نسمّيها، تبلغ التاسعة عشرة عامًا. لقد كانت العلاقة برمّتها عابرة وسطحيّة في حياة الشاعر، بحكم معرفتي بالشخصيات عن كثب، ولم يكن لها هذا التأثير لولا القصيدة".
ونلحظ الدلالة المفتوحة في قول درويش في قصيدة (ريتا والبندقية) / ديوان آخر الليل: "اسم ريتا كان عيدا في فمي". أي أنه يعود الاسم في كل عام بمسمى جديد، أي لأمرٍ من العيد تجديد، في جواب على سؤال المتنبي: " عيد بأية حالة عدتَ يا عيد/ بما مضى أم لأمر منك تجديد" فكأن درويش يقول: بل لأمر تجديديٍ يعود اسم ريتا.
ومن هنا أيضا أجاب درويشُ على سؤال إيفانا مرشليان قائلا: " ريتا، ليست اسم امرأة، هي اسم شعري لصراع الحب في واقع الحرب، هي اسم لعناق جسدين في غرفة محاصرة بالبنادق، هي الشهوة المتحدرة من الخوف والعزلة؛ دفاعًا عن بقاء كل من الجسدين في ظرف يتحاربان فيه خارج العناق... لم يكن حبًا بقدر ما كان حادثة ومفارقة واختبارا لإنسانية الجسد في تحرره من الوعي". إذن هي (الشهوة) التي تخلقها العلاقةُ العشقية لتدافع عن ذلك الطريق الذي سينسلّ منه ظرفا يبني عناقا بلا قتال. والشهوة هي التي ستقتل التفرد المطلق والتسلط الفحولي والانتصار العالي؛ بما أن الشهوة لا تعترف بالحدّية، بل بالتجاوز والمفاجأة واللهفة الإنسانية. ومن هنا فإن درويش يقول: " وكان على كنّاسي الشوارع أن يكنسوا الحادثة ومغنيها في الصباح، لا لأن حكايات شهرزاد قد انتهت، بل لأنها قد بدأت. " والحكاية أنثى بامتياز، ثم سرقها الذكر وحولها إلى قيوده التسلطية في الأدب، وضمها إلى ممتلكاته. لهذا ينهي درويش حديثه قائلا: " ...ولأنه ليس في وسع الجسد أن يسرق الجسد كثيرًا، على مرأى من بنادق الحراس". فبين أن يعلن كنس الشوارع والحادثة ومغنيها، وأن الحكايات بدأت، إمكانيات نصنعها نحن لكسر الفحولة الذكورية/ بنادق الحراس. لهذا يسأل أخيرا درويش: " ولكن من هي ريتا؟ سأبحث عنها مرة أخرى في جسدي، وربما تستطيع قصيدة ما أن تجدها... ربما". ربما تجد هذه الإمكانيات. وهنا تظهر بعض تجليات نص (ريتا والبندقية) حين قال درويش: "بين ريتا وعيوني.. بندقية/ والذي يعرف ريتا، ينحني/ ويصلي/ لإلهٍ في العيون العسليَّهْ"
أي أنَّ الفاصل بين المعنى الممكن/ الغائب، وأن أنظر إليه شهودا، هو السلطة الذكورية/ الاستفحال/ الانتصار الأوحد المطلق/ الرأي الواحد/ القوة/ المتن. لأن الذي يعرف وجود الإمكانية هذه سينحني ويضعف ويقبل الآخر وينتصر للتعدد/ الأنوثة، وستكون صلاته لا كصلوات الأديان التي تنفي الآخر، وتسمه بالكفر، وأن طريقها هو الوحيد للوصول للجنة، بل صلاته لإلهٍ مختفٍ في المعاني الأنثوية/ التعددية/ المتجلية كشعاع الشمس في كل مكان.
إن ريتا في إحدى سياقاتها تُعيد شلومو ساند، على طريقة أنَّ حالة العشق الريْتويّة -كاسمٍ متجلٍ متحرر، يريد أن يكسر الفحولة التسلطية-؛ تنتج وتثمر أمثال شلومو ساند في لحظات تَنَكّرِه لجرائم العدوان. ولهذا ليس غريبا أن يُشاع أن ريتّا هي (تانيا رينهارت)، فهي الوجه النسائي لما كان يريده درويش من أنسنة العدو، في مقابل الوجه الرجالي شلومو ساند؛ فتانيا تنتمي لإسرائيل؛ لكنها كتبتْ في تحليل السياسة الإجرامية التي تنتهجها حكومات إسرائيل المتعاقبة. ومن هنا وضع درويش القصيدتين متجاورتين في الديوان، ليشير إلى ذلك الشيء بوجهيه. لهذا يقول درويش: " إنني أكتب في هذه الفترة عن الحب الذي يولد وسط قضيّة، فيحمل ملامحها، وهمومها، ويصبح جزءا لا يتجزأ منها. أريدُ أن أكسر الحائط الذي يفصل بين العاشقين وبين الشاعر، فالعاشقان ليسا عاشقين فقط، ولكنهما ضحية واحدة، وأمل واحد وكفاح واحد... إنَّ طعمَ العلاقات بين العاشقين يحمل مذاق الواقع الخشن". ذاك حائط الذكورية/ القوة المطلقة/ التسلط/ القانون الذاتي. والشاعر هنا هو ذاك الذي يبتعد كي ينظر بوضوح للواقع الخشن، فيشير على الظروف الممكنة لخلق واقع مغاير. ذلك الحائط هو الذي وصفه درويش مرتين متباعدتين؛ الأولى عندما احتُلّت قريتُه البروة حيث يقول: " جدي كان في مثل هذه الشهر (حزيران) يأخذنا لنقف معه في طابور الشحاذين؛ كل واحد يحمل سلة صغيرة، وعيناه على الأرض، واقفًا في الدور حتى يقترب من موزع الفتات ويعطيه قطعة من الجبن الأصفر، وحبات من التمر، وحفنات من الطحين، وكان ذلك أول عهدي بالجبن الأصفر". والثانية في حزيران 67م حيث يقول: " ولا يستطيع المرء مهما بردت أعصابه، واعتاد المفاجآت إلا الاهتزاز والاستسلام لرعشة جارحة وهو يقرأ تقرير وكالة غوث اللاجئين هذه الأيام. يشير التقرير بلغة رسمية إلى ازدياد عدد اللاجئين المضطرد، وإلى ازدياد حاجتهم إلى الطحين والجبن الأصفر والخيام"

  • معماريّة آخر الليل/ السلم المهجور/ الفكرة والواقع
جاء الديوانُ مُهيْكلًا على التاريخ الفلسطيني، على الذاكرة، على الأنوثة؛ بصفتها شرطًا لانبلاج آخر الليل؛ إذ قسّم درويش القصائدَ هكذا:
  • عنوان: (تحت الشبابيك العتيقة) = 7 قصائد مرقّمة، و6 غير مُرقمة. وهذا العنوان دالّ على البدايات، على التاريخ القديم لفلسطين، على النسيج الكنعاني.
  • عنوان: (أزهار الدم) = 6 قصائد مرقمة، و4 غير مرقّمة. وهذا العنوان دال على المرحلة التي أشرتُ إليها وهي لحظة 67م. ونلحظ هنا تأنيث الدم بالأزهار؛ أي كسر لحدة الفحولة. وتغيير النسق في النهضة إلى مساره الإنساني/الأنثوي؛ الذي تجلى في قول درويش في الجملة الثالثة عشرة من قصيدة هدنة مع المغول أمام غابة السنديان في ديون (أرى ما أريد) يقول: "الحروبُ تعلّمنا أن نحب التفاصيل: شكل مفاتيح أبوابنا/ أن نمشّط حنطتنا بالرموش، ونمشي خفافا على أرضنا/ أن نُقدّس ساعات قبل الغروب على شجر الزَّنْزَلَخْت.. / والحروب تُعلّمنا أن نرى صورة الله في كُلّ شيء، وأن/ نتحمّل عبء الأساطير كي نخرج الوحش.. / من قصة السنديان" من الحرب الكبرى، الحرب/ المتن، يتعلم درويش التفاصيل الهامشية، واصفا الحرب أنها هي المُعلّمة، وهذه هي لحظة الصراع القائم الذي يحاول أن يتحاشى الذاكرة، لكنه يعود إليها كمُعلّم، وكأن عودته هذه أزلية تفضح فعله المشين. من هنا قلتُ: ليس إلا صراعًا بين ذاكرتين؛ والذاكرة مؤنثة تعد بالولادة الدائمة، والإنتاج اليومي والحياتي، وتعد بالزيادة والنقص، أما الحربُ فهي الذكورية في مراحلَ عليا، ولا تعد بشيء إلا الحفاظ على الكمال الأوحد، والقوة العظمى. لهذا فالوجه الآخر للحرب هي زاوية موضوعية تعيش فيها الأنوثة من خلال التفاصيل. ومن هنا فإن الحرب تعلمنا أن نرى وجه الله في كل شيء، وما وجه الله إلا الأنوثة؛ لهذا أيضا تعلمنا الحرب أن نتحمل عبءَ الأساطير؛ كي نخرج الوحش من قصة السنديان. الأساطير التي نسجتها الذاكرة الطويلة، لا مكان للوحش فيها.
  • عنوان: (أغنيات إلى الوطن) = 6 قصائد مرقّمة، وواحدة غير مرقمة. وهذا العنوان دالّ على نتيجةِ ذلك التلاقح بين الأزهارِ والدم، وهي الغناء للوطن.
ونلحظ أنَّ القسمَ غير المرقم يتناقص هكذا: (6-4-1) فالرقم 6 رمزيته عالية في التاريخ الفلسطيني، بنسيجه المتعدد، سواء كانت الرمزية في اليهودية أو المسيحيّة أو الإسلام. من ثلاث نواحي: الأولى: خلق السموات والأرض في ستة أيام، والثانية: مجيء ملائكة الله لمريم في الشهر السادس، والثالثة: التعاليم الستة الخاصة بالمشناه التلمودية. وأما الرقم 4، فهو يرمز إلى أركان الاتجاهات الأربعة: الشرق والغرب، والشمال والجنوب. وهذا دلالة على النهضة التي تقوم على مراعاة هذه الأركان لا الارتكاز على جهة دون أخرى فتختل النهضة، باعتمادها على الفحولة/ الفردية المطلقة/ القوة الساحقة. وأما رقم 1 فهو معبر عن نهاية الحرب، بانتصار مَنْ يمتلكون الذاكرة، وهم واحد. بل إن المرقّم هنا 6، وهذا يجعل من هذا القسم امتزاج بين الستة والواحد من حيث سيرة التاريخ الفلسطيني وآخر الليل فيه، ونلحظ أن المجموع هنا 7 وهذا الرقم يرمز في كثير من الثقافات وأساطير الأمم وتراثها إلى الاكتمال والنضج.
ثمَّ نلحظ أنَّ مالم يُرقّم فإنه يُغني خارج سربِ عنوانه الأساس، لكنّه يرتبطُ به كدلالةٍ عامة؛ فمثلا قصيدة (جندي يحلم بالزنابق البيضاء) انتماؤها إلى عنوان (تحت الشبابيك العتيقة) لكسر حدّة التقسيمات بين فسطاطين، بأن كُلُّ فسطاطٍ يحمل صفاتا موحدة متمايزة عن الفسطاط الآخر!، بل إنَّ شلومو ساند، ودرويشًا كانا تحت راية واحدة، مع أن الظاهر أنهما مفترقين. يقول درويش: " كان انجذابي إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان يطرح قضايانا ويدافع عنّا كأقلّية، ضمن المجتمع الإسرائيلي" ويقول في سياق الصورة الوحشية التي رسمتها له صحفُ السلطةِ الصهيونيّة: " إني أتصدّى لهذه الصورة بأعصاب باردة، بالتمييز بين السلطة الصهيونية وبين اليهود" ويقول: "... سأواصل أنسنة العدو، الحاكم العسكري الذي عاقبني على كتابة الشعر كان يهوديًّا، والمعلمة التي علمتني العبرية وفتحت مواهبي على حب الأدب كانت يهودية، ومدرس اللغة الإنجليزية كان يهوديّا، القاضية التي حاكمتني لأول مرة كانت يهوديّة، عشيقتي الأولى كانت يهوديّة، جاري كان يهوديا، ورفاقي في العمل السياسي كانوا يهودا؛ إذن لم أنظر منذ البداية إلى اليهود كشيء واحد مدفوع بنظرة نمطيّة، ومن ثمَّ إمكانية التعايش موجودة لديَّ نفسيًا وثقافيًّا، ولكن المشكلة الأساسية هي المشكلة السياسية؛ ولذا فإنني منذ البداية لم أرَ اليهود إما شياطين أو ملائكة، بل كائنات إنسانية".
ونلحظُ أنَّ العنوانَ الأخير (أغنيات إلى الوطن) عنونَ القصيدة غير المُرقَّمة بـــــ (الأغنية والسلطان) والأغنية تدل هنا على التعدد، التحرر، المطر حين ينهمر على كل البقاع، البرق الذي يُسْمع من الجميع دون استثناءاتٍ ثقافية اجتماعية. وهذه علامة للأنوثة/ الانصهار/ الاندماج/ التفاني/ الآخر. وأما السلطان فواحد مستبدّ، لا يريد شريكًا، لا يريد صوتًا غير صوته. وهذا علامة الفحولة/ الذكورية/ التسلط/ القمع/ التفرد المطلق/ الأنانية/ الذات.
وفي مطلع القصيدة ما يُجلي هذا التنظير؛ حيث يقول درويش: "لم تكن أكثر من وصفٍ.. لميلاد المطر/ ومناديل من البرق الذي يشعل أسرار الشجر/ فلماذا قاوموها؟".
لم تكن الأنوثة/ الأغنية، إلا الوصف الذي يشير للمطر وأسرار الشجر، وهذا الوصف تكرهه الذكورة/ الصوت الواحد؛ تكره أن يشيع إلا في حالة أن يتوجه إلى حياضه/ سُلطانِه المطلق.
لهذا قال درويش بعدها: " حين قالت إنَّ شيئًا غير هذا الماء/ يجري في النهر؟ / وحصى الوادي تماثيل، وأشياء أُخَرْ"
إن الأنوثة/ الأغنية تقول بتعدد الرؤى وخداع الأحاسيس وإمكانية التعدد في الأصل الواحد، وهذا ما ترفضه الذكورة/ الفردية المطلقة/ النظرة الشمولية القطعية.
ولما كان الانحياز للسلطان باقٍ، لم ينتهِ الصراع بصورته الكاملة، ستبقى مقاومة الاستفحال؛ لهذا أُنهيتْ القصيدةُ بهذا النص:
كانت الأغنية الزرقاء فكرهْ/ حاول السلطان أن يطمسها/ فغدتْ ميلاد جمرهْ/ كانت الأغنية الحمراء جمرهْ/ حاول السلطان أن يحبسها/ فإذا بالنار ثورهْ" " كان صوتُ الدم مغموسًا بلون العاصفة/ وحصى الميدان أفواه جروح راعفة/ وأنا أضحك مفتونًا بميلاد الرياح/ عندما قاومني السلطان/ أمسكت بمفتاح الصباح/وتلمستُ طريقي بقناديل الجراحْ/ آه كم كنت مصيبًا/ عندما كرست قلبي/ لنداء العاصفة/ فلتهبَّ العاصفهْ/ ولتهبَّ العاصفهْ"
لكنَّ درويشا يقول قبلها: " أخبروا السلطان/ أنَّ البرقَ لا يُحبس في عودِ ذرهْ/ للأغاني منطقُ الشمس، وتاريخُ الجداول/ ولها طبع الزلازل/ والأغاني كجذور الشجرهْ/ فإذا ماتت بأرضٍ/ أزهرت في كل أرضْ".
وهذه إشارة تسبق الإعلان الأخير؛ من حيث أن النزوع لواقع الأشياء ووصفها المتعدد/ المزدوج هو ما ستنزع له صفتك السلطانية رغما عن إرادتك الذاتية، لأن تلك الصفة خيالية يتلبسها جسد يتعاطى مع النسق الفحولي، المضاد لطبيعة الأغنية/ الأنوثة/ الطبيعة/ الشمس/ النسبية/ النقص/ الهامش/ الازدواجية/ الحب. إذ نلحظُ أنَّ درويشًا وصفَ السلطانَ بأنه مخلوق خيالي؛ وهذه إشارة على أن الفحولة فكرهْ، لم يعضده الواقع الموضوعي إلا بانعكاسات مماثلة؛ لهذا وجدنا نازك الملائكة -رائدة حركة الشعر الحر؛ كما تسميه، وقصيدة التفعيلة كما سُميت لاحقًا من قِبل عز الدين الأمين- سعتْ إلى تحديد أربعة أسباب لثورتها الشعرية هي: "النزوع إلى الواقع. الحنين إلى الاستقلال. النفور من النموذج. إيثار المضمون". فإذا كانَ السلطان مخلوقا خياليا؛ ذلك لأنه لم ينزع إلى الواقع إلا بمحاولات التدخلات وفرض الهيمنة وتطبيق النظرية بفعل غير طبيعي، ولأنه يستعبد غيره فكرا وجسدا، ولأنه يصنع للواقع نموذجًا يسير عليه وله وبه، ولأنه يكره المضامين المتعددة، بل يؤيد الشكل العاكس لواقعه، والدالّ فيه لا يعطي إلا مدلولًا واحدًا. فهذه الأربعة أسباب التي دعتْ نازك الملائكة لأن تعلن ثورتها على العمود الشعري الذي يرمز للفحولة، هي التي دعتْ درويشا لأن يتأمل واقع القضية وحقيقة الصراع العربي/ الإسرائيلي. يقول: " غَضبَ السلطانُ/ والسلطان مخلوق خيالي/ قال: إن العيب في المرآة/ فليخلد إلى الصمت مغنيكم. وعرشي/ سوف يمتد/ من النيل إلى نهر الفرات/ اسجنوا هذي القصيدهْ/ غرفة التوقيف/ خير من نشيد.. وجريدهْ"
(تحت الشبابيك العتيقة)، هي رمزيةُ الحقّ في المكان، من حيث طبيعة العلاقة مع التاريخ الذي نقشته الذاكرة ذات يوم؛ إنها الحكاية التي صنعتها الأنثى، وامتلكتها. صنع درويش مِعْمَارَه على الحوار السردي، ذلك النمط الأنثوي/ الإنساني. يقول درويش: " أريدُ أن أتباهى بإنسانيتي، بأنني أول شاعر عربي عرض جنديًّا إسرائيليًّا حتى بعد حرب حزيران بجوهره الإنساني. كيف حدث ذلك؟ بعد حرب حزيران التي أعادت قتلي حافظت على انتمائي الإنساني. كتبتُ قصيدة جندي يحلم بالزنابق البيضاء، والقصيدة هي حوار مع جندي إسرائيلي، عادَ من الحرب خائبًا؛ لأنه فقد انتماءه الإنساني. شربتُ معه أربعة كؤوس خلال حديثنا عن الحرب، وعن حبه الأول، وعن همومه اليومية، بدون ظل من الكراهية القومية، لقد وضع الجندي قلبه أمامي، وأنا استقبلته كصديق قبل الحرب"
جاءت أولُ قصيدة ضمن (تحت الشبابيك العتيقة) بعنوان (الجرح القديم)، يبدأه بحديث الذات للذات: "واقفٌ تحت الشبابيك/ على الشارع واقفْ/ درجات السلّم المهجور لا تعرف خطوي/ لا ولا الشباك عارفْ"
درويشُ هنا يتموضع خارجا، بما أنه تحت الشبابيك، ويقف على الشارع. إن رمزية الشباك هنا تعني تلك الوسائل التي تثبت وتنفي أحقيته بالمكان. فالشباك يُعْمَل للتواصل مع (الخارج) ودرويش خارج المكان؛ لهذا فإنه هنا رمز للتاريخ أو للواقع الموضوعي في مقابل الذات (فلسطين)، فيأتي السؤال: من الذي بالداخل؟ إنه كائن خيالي موجود في الذهن (ذهن فلسطين) إذ هو لا مطابق له موضوعيا؛ بأمارة أنَّ السلمَ مهجورٌ، فكيف صعدوا إلى المنزل؟ إنهم لم يصعدوا عن طريق التاريخ/ الواقع الموضوعي، إذن هم مجرد فكرة سيلفظها الواقع.
والشُبّاك أيضًا علامة على حاجة مَنْ بالداخل لهواء الخارج، والخارج هو التاريخ، ولا مفرَّ لهم من الاعتراف. لكن في الآن نفسه درجات السلم المهجور، والشباك لا تعرفان خطوات أصحاب الذاكرة، لأن من يكتب الحكاية سيملك المعنى، لكن لا شيء سُمي باسمه حتى تُختبر الذاكرة. يقول درويش: " عندما تنفجر الريح بجلدي/ وتكفّ الشمسُ عن طهو النعاس/ وأُسَمّي كل شيء باسمه/ عندها أبتاع مفتاحا وشُباكًا جديدًا/ بأناشيد الحماس" والمفتاح والشباك الجديد نوافذ للشباك القديم، وتستمر النوافذ تفتح حتى يصل إلى النافذة الأخيرة.
إن التاريخ/ الواقع الموضوعي/ أصحاب الذاكرة، يصطادون السحابة من يد النخلة، يقول درويش: " من يدِ النخلة أصطادُ سحابه/ عندما تسقط في حلقي ذبابه/ وعلى أنقاضِ إنسانيتي/ تعبر الشمسُ وأقدام العواصف/ واقف تحت الشبابيك العتيقه".
والسحابةُ تعني امتلاك المطر الذي يرمز للأنوثة/ السماء/ الإنسانية/ الاندماج، والنخلة هي الأرض وجذورها، وهي السماء ونجومها، وهي إنسان الأرض المتأنث/ المتعدد/ المؤثر/ المحب/ المتفاني، فالنخلة لا تموت إلا إذا قُطعتْ رأسها. وحملها وولادتها كالإنسان، وجُمّارها كالدماغ. وهي التي حاجج بها العربيُ غيرَ العربي، لمّا أراه بساتينه قال: " عندنا شجرة تنشق عن مثل اللؤلؤ، ثم يصير زبرجدًا، ثم يصير ياقوتًا، أحمرَ وأصفرَ". إنه التعدد المثري والمثير. ومن هنا جاءت قصيدة في القسم الأخير بعنوان (وطن) يقول فيها درويش: " علِّقوني على جدائل نخلهْ/ واشنقوني.. فلن أخون النخلهْ/ هذه الأرض لي.. وكنت قديما/ أحلب النوقَ راضيا ومولَّه"
ويحصل اصطياد السحابة عندما تموج الرياح، فتحرك عسيب النخلة. والريح والنخلة والسحابة مؤنثة، والتزاوج هنا في ذروته الأنثوية/ الأنثوية. وسقوط الذبابة في الحلق علامة الدفع والحركة والصوت. لهذا الشمس/ النور، والعواصف/ التقدم التاريخي يعبران على أنقاض إنسانية أصحاب الذاكرة. من هُنا قال درويش: " آه كم كنتُ مصيبا/ عندما كرّست قلبي/ لنداء العاصفة/ فلتهبَّ العاصفهْ/ ولتهبَّ العاصفهْ".. " أخبروا السلطان/ أنَّ الريح لا تجرحها ضربة سيف/ وغيوم الصيف لا تسقي/ على جدرانه أعشاب صيف/ وملايين من الأشجار/ تخضرُّ على راحة حرف".
ونلحظ أنَّ الشارع من الاشتقاقات ذاتها التي جاء منها الشعر والشاعر والشعور، لهذا فالحب/ والوصف/ والأغنية هي من تَهَب شمس النهار، فبين الشباك الجديد والشباك العتيق أشعار وأغنيات وحب. لهذا جاءت القصيدة التالية بعنوان (أغنيةُ حُبٍّ على الصليب) يغني ويشعر ويموسق الحياة؛ كي يصغر الجرح القديم، " مدينة كل الجروح الصغيرة/ ألا تخمدين يديَّ/ ألا تبعثين غزالًا إليَّ؟ / وعن جبهتي تنفضين الدخان.. وعن رئتيَّ؟" وهو يغني يحمل معه تلك السحابة التي اقتبسها من (يد النخلة) ليحل في وطنه ويملأ الجدب غمام، " أحبك كوني صليبي/ وكوني كما شئتِ برج حمام/ إذا ذوبتني يداك/ ملأت الصحارى غمام" يحل حلولا واتحادا جعله يطير في رمش الرياح، ويزرع صوت الوطن في كل طين، " إذا مت حبا فلا تدفنيني/ وخلي ضريحي رموش الرياح/ لأزرع صوتك في كل طين/ وأشهر سيفك في كل ساح" لهذا لما نهضَ في أعماق الرياح أخذ يشرح تلألأ آثار الوطن في كل مكان وفي كل زمان في القصيدة التالية (خارج من الأسطورة)، " وأنا أمشي على مهلي. وعيني تقرأ الأسماء/ والغيمَ على كل الحجارهْ". إنه يشرب من ذلك السحاب الذي التقطه من يد النخلة، "ها أنا أنهض من قاع الأساطير. وألعب/مثل دوري على الأرض... وأشرب/ من سحاب عالق في ذيل زيتون ونخل".
فلم تكن الحرب إلا بين فِكَرٍ خارجة من الأسطورة، تحمل بنادق، أما أصحاب الذاكرة والمكان (درويش/ شلومو) فيحملون الأغنيات والزنابق، " وامتشقنا لملاقاة البنادق/ باقة من أغنيات وزنابق" إن ذلك الحلق الذي سقطت فيه ذبابة هو القاع الأنثوي، هي حنجرات الأنوثة، فمم نخافُ وفينا الآن شاعرة أنثى تقول النبيذ وتخمر قوس قزح؟
أما قسمُ غير المرقم فقد كانت بدايته بقصيدة عنوانها (موّال) والموال طريق للدخول إلى الأغنية. والأغنية هي الأنوثة كما ذكرنا في الأعلى، وحين نجلس على ظهر سفينة الأغنية فمهما خسرنا من أحلام جميلة، ومن لسع الزنابق، فإنا نملك الطريق، من لحظات الإلهام التي ستهزنا بعنف، فتسيل منا الأغاني/ الأنوثة.
وكما أنَّ (الموّال) طُعمٌ موسيقي للأذن، يُدرب الملكات، ويبني الأذواق في درجات السلّم العالي، السلم الذي لم يعد مهجورا حين تبنيه الأنوثة؛ فإن موّال درويش هنا يبني السواعد من حكايات الأنوثة/ الشعر الذي يكسر قوانين الذكر. لهذا فأصل (الموال) جاء من ميلان الرأس حين التنغم والطرب، أي أن ما يُسمع سيميل أجسادكم لذة وطربا وعشقا، كما يميل الصوفي حين يناغي الله. وها هو درويش يموّل: " إذا انحنيت انحنى/ تلٌّ، وضاعت سماء"
وأما لفظةُ (مويل) فإنها تصغير لموّال، " يمّا مويل الهوى/ يما مويليّا" هذه الأغنية التراثية الفلسطينية التي وظف مطلعها درويشٌ لإرادة (مويل الهوى) أي يا أمي؛ إن موَّالي هو موال الهوى. وحين نقلّب (مويل) إلى أصل لغوي متداول وهو (المال) فمويل تصغير مال، والمال هو كل ما يمتلك؛ فيكون المراد (ما يملكه الهوى) هو (موَّالي). والهوى حين يملك المشهد، يدب الفرح/ الجمال/ الأنوثة التي تنشر أشعتها هواءً وماءً، وتبني من وحيها ترابا، وتشعل من نورها نارا نستدفئ بها، وننضج أفكارنا فيها، ونأكل من يديها.
هذي الأنوثة في موَّال رحلتنا/ ريحٌ ستعزف أنغام النهايات

إن هذه الأنوثة هي السلاح الذي يكسر الصراع الحدّي، يكسر شر أولئك الذين لم يصابوا بالعشق، يقول درويش: " عن الورد أدافع/ شوقا إلى شفتيك/ وعن تراب الشوارع/ خوفا على قدميك/ وعن دفاعي أدافع". " على يديكِ تصلي/ طفولة المستقبل/ وخلف جفنيكِ طفلي/ يقول: يومي أجمل/ وأنتِ شمسي وظلي".
والأنوثة هي أنْ تخرج لك في المرآة صورة غير صورتك، أن تنظر فيها للمعاني التي تجمعت في صلصال عتيق سافر مع الريح. فالخصال الأنثوية -التي تعني كسر حدة الذكورة/ المطلق/ التسلط/ الذاتية/ الأبوية-جعلت الذكر متساويا في الفعل مع الأنثى، لا يوجد معنى لــ أعلى/ أسفل. غالب/ مغلوب. وحينها تتهذب الطبائع، وتتعدد بتعدد معنى الحياة، وتنغمس مع غيرها في الهامش والنسبي فيعشق سعادةَ الآخرين.
وما كانت قصيدة (موال) إلا ترانيم عاشق قبل دخول المعركة، يجهز أدواته: (الورد والشباك)، ليتنبأ قائلا: "لا تنامي حبيبتي" وهذا عنوان القصيدة التالية لموَّال. ذلك الإعلان الشعري لدخول مرحلة مغايرة: " عندما يسقط القمر/ كالمرايا المحطمة/ يكبر الظل بيننا/ والأساطير تحتضر/ لا تنامي. حبيبتي/ جرحنا صار أوسمهْ/ صار وردًا على قمر...!" هذا السقوط كالمرايا المحطمة، أي إن فلسطين بعد أن كانت نسيجا متعددا كتعدد أوصاف القمر وتوالي الحكايات والأساطير عنه، وهو واحد، ستصبح بأسماء وهويات متحاربة، لأن ثمة ما هو خارج من أسطورة لا طباق لها. لهذا قال درويش في حيرة العائد: " كنتُ أدركُ أن انسلاخ الأسطورة عن الواقع، مازال في حاجة إلى مزيد من الماضي، وأن تحرر الواقع من الأسطورة مازال في حاجة إلى المستقبل. وأما الحاضر فلم يكن أكثر من زيارة يعود الزائر بعدها إلى توازنه الصعب بين منفى لابدَّ منه، وبين وطن لابدَّ منه".
والنتيجة الشعرية أن سقوط القمر سيحول الظل من صغير إلى كبير، وسيجعل الأساطير تحتضر، إن هذا السقوط هو المزيد من الماضي؛ إذ المزيد منه يفكك صحة الأساطير التي ابتكرها الوافد الغريب/ الصهيوني. والمزيد من المستقبل يحرر الواقع من الأسطورة؛ فالجرح صار أوسمه؛ صار وردا على قمر.
الظِّلُ هنا " يكبر الظل بيننا"، علامة على تلك النتيجة الأنثوية/ التعددية المنسوجة على التاريخ القديم لفلسطين، قال درويش في قصيدة (الظل) من ديوان (لا تعتذر عما فعلت): " الظل لا ذكر ولا أنثى". لأنه الأنوثة التي تكسر حدة المطلق والقوة والغلبة والفحولة. لهذا قال: "إذن سأتبعه لأخدعه/ سأتبع ببغاء الشكل سخرية/ أقلد ما يقلدني/ لكي يقع الشبيه على الشبيه/ فلا أراه ولا يراني". الظل -حين كان صغيرا-كببغاء الشكل، لكن لما تحطم فإننا حولناه إلى انتصار؛ فالظل لم يعد ببغاء الشكل، بل اندمجنا مع الآخر فلا أراه ولا يراني؛ من شدة التداخل والاندماج والتفاني/ المعنى الأنثوي. من هنا قال في قصيدة (أتذكر السيَّاب): " تغلبتْ أنثى على عُقْم السديم/ وأورثتنا الأرض والمنفى معًا".

  • الانتصار/ النهضة/التورية/ تأنيث الديمقراطية
فالنهضة ومفهومها مع المستبدّ العادل، والزعيم الأوحد، لا ترى إلا من منظار العنف والقوة المطلقة، تلك الكلمة التي هي قيمة مجازية ابتكرها الذكر في تاريخ الذكورية وصدقها الإنسان في تاريخه، وعمل على ضوئها؛ ومن هنا جاءت قصيدة (رد الفعل) -القصيدة التي خرجت من رحم السجن -كعنوان بارز لوصف الحالة، ولقول بأنَّ القوة المطلقة ما هي إلا مجاز تحقق في الذهن، وفي نسبية الواقع الموضوعي، لكن سيظل المنتصر مهزوما لأن لكلٍ هزيمته مالم يدرك أبعاد المجاز، وكينونة الكناية، وأسرار الأنوثة القديمة. وكأن تلك القصيدة تحاور جبران خليل جبران عندما قال: "ويل لأمة تسمي المستبد بطلًا" لأنه لا وجود لمصاديق مفهوم البطل أبدا في عالم يقوم على زئبقية الوهم/الحقيقة. في عالم لا يستطيع أن يتخلى عن التورية، فالانتصار الصهيوني توريةً والنهضة العربية بعد الهزيمة تورية، وكلا الأمتين المتحاربتين كانتا تسمي المستبدّ بطلا. وتسمي قائد الثورة زعيما أوحدا، ولكلٍ من الأمتين هزيمته الخاصة. ومن هنا أتت مقولة درويش: "سأواصل أنسنة العدو". إلا أن (أنسنة العدو) تلغي مفهوم الأمة من أساسه، إذ هو يحيل على مفهوم الجماعة الواحدة المستقلة عن غيرها، بآرائها وحزم أفكارها المغلقة، ومن هنا كانت الديانات تعزز هذا المفهوم التحزبي وإن ظهر بمظهر النفي له أي الأمة الشاملة للكل: {وإن هذه أمتكم أمةً واحدة} إذ في كلُّ نصِّ ديني وصفٌ عامٌ بأنَّ ملتكم ملة واحدة، أي إثبات دين وإلغاء آخر. وحين تلغي (أنسنة العدو) مفهوم الأمة، فإنها تضع مفهوم الأنسنة؛ إذ في أنسنة العدو إشارة إلى إلغاء مفهوم الاستبداد وإحلال مفهوم الديمقراطية محله، ومثلُ الديمقراطية كمثلِ الحكاية، بكونها أنثى سلبها الذكر وجيّرها لصالحه، حين وضعها في قوالب وقواعد وشروط وتكنيكات (الرواية) مما جيّرها إلى الرؤية الفحولية وسلطويّتها بالانغلاق والاكتمال، التي سَلَبتْ من الأنثى نفسها صفاتَها وجعلتها ذكرا في المعنى، أنثى في الشكل.
لهذا فليست الديمقراطية -المرادة هنا كبديل للاستبداد-هي تلك التي نشأت تاريخيا وتحققت فكان نضوجها في أذهانِ الشعوب، كما نضجَ مفهوم المستبد العادل، لهذا جاءت بثغراتها معها، حتى استفحلت الديمقراطية من زوايا ذكورية جديدة. بل الديمقراطية المؤنسنة هي التي تتحوّر مع المفاهيم الأنثوية بشكل طردي؛ والمفاهيم الأنثوية تعني -مما تعنيه- ألا وجود لما هو كامل/ ألا وجود لما هو قوي بشكل مطلق/ ألا وجود لما هو حق مطلق وأوحد/ ألا وجود لإنسان متخصص في شيء ما، إذ التخصص من الخاص، لهذا هو تورية، فالمفهوم تحوّر إلى سلطة التخصص/ ألا وجود لسيرورة تاريخية واحدة/ ألا وجود لمسار قطعي/ألا وجود لفلسفة ثابتة/ ألا وجود لغاية مطلقة أو دائمة/ ألا وجود لحاكم واحد أو لحكام نخبة/ ألا وجود لمعنى حقيقي للانتصار/ ألا وجود لمنهج مقنن يسير عليه الإنسان/ ألا وجود للطبيعة البشرية/ ألا وجود للسلطة/ ألا وجود للمركزية/ ألا وجود للوعي المطلق بشيء ما/ ألا وجود لواقع موضوعي حقيقي إلا بوجود هذا الوعي النسبي الذي لا نعيه إلا من خلال اللاوعي؛ ومن ثم لا نستطيع التنظير له، فقط نمارسه في لحظة ما. ولا تنظير فيه إلا من خلال الغوص في تفاصيل القيم وتجزئتها في واقع الحال، لتخرج نسبيتها كواقع موضوعي ومن ثم فإن الرأي والرؤية تأتي كصورة متكاملة في اللاوعي، وليست مخادعة في سلطتها الواعية واللاواعية. وإلا فالرأي العام لا ينشأ، لا من خلال الوعي الفوقي، ولا من خلال المادة السفلية، ولا قيمة له -للرأي العام-طالما أنه مستلب، أو يُغير من خلال الوعي الفلسفي المسبق سواء بدأ من أعلى أم من أسفل. الرأي العامّ لا يكون إلا بعد أن تُخترق تلك المقولة التي تتحدث عن إرادة الشعب وقدرته على الاختيار، وفي الآن نفسه تؤمن تلك المقولة بأن الإنسان ليس عليه إلا السعي/الاختيار المجرد/ الفعل الخاوي، وأما ما وراء ذلك فعلى الله/ السلطة العامة/ الحاكم المطلق/ الأب/ الحزب/ الطائفة/ القبيلة/ الذكر...إلخ. ولا يراد هنا مفهوم الإرادة، كما تطرحه المعتزلة، بأن إرادة الإنسان في خلق أفعاله مطلقة، أي أن أفعاله الإرادية تنسب له، دون إضافة إلى الله لا خلقًا ولا فعلًا. بل إننا نفترض -أولا-تدخل السلطة العليا/ المطلقة في هذه الإرادة، ومن هنا اخترقت الديمقراطية، بدون تدخل مباشر من السلطة، وكأنها تحولت من الإرادة بالمفهوم الأشعري إلى الإرادة بالمفهوم السلفي التَيْمي، أي كأن السلطة العليا صنعت أسبابا -ومن ضمنها الأفراد-، فأصبحت تحكم هؤلاء الأفراد من خلال هذه الأسباب، تحت مسمى: حكم الشعب للشعب! أو كأن السلطة العليا خلقت في الفرد فعلًا انتخابيا، ثم تركته ففعلَ هذا الفعل المخلوق فيه من قِبل السلطة العليا؛ ومن هنا اختُزلت الديمقراطية في عمليةٍ آليةٍ لاقتراعات الصناديق، فكأنَّ السلطة العليا تقول: إن حقيقة أفعالكم الديمقراطية ليست إحداثكم للفعل ذاته، بل قيام الفعل بكم، أي أن السلطة العليا تُشَبِّه الفرد بأي معنى للأشياء، فإذا كان الأبيض هو من قام به البياض، فإن المتكلم لا يسمى متكلما إلا بكلام يقوم به، وكذلك الإنسان المريد لا يكون مريدا إلا بإرادة تقوم به. لهذا فالمرادُ إلغاء فعل السلطة العليا من جذوره، وتفكيك الثغرات التي ينفذ منها، وهذا دون القول برأي المعتزلة، إذ هي لا تلغي فعل السلطة العليا بالصورة المطلقة، بل تحيلها إلى نظام صارم قطعي، وما الأسباب فيه إلا مخلوقات تفعل فعلها بذاتها لأنها عرفت منهج السلطة العليا.
ومن هنا فإن إلغاء تدخل السلطة العليا لا يكون بإحالة السلطة المطلقة إلى أفراد الشعب؛ فذلك يجعلنا نتمركز بشكلٍ آخر، لأن لفظة الفرد هنا تورية ثقافية، تنسخ مفهوم الفردية نفسه، لتدخله إلى مفهوم الجماعة المحكومة بسلطة مطلقة. بل المراد أن نسلب القدرة والإرادة من السلطة العليا بتفكيكها إلى أفراد مجازيين/ أنثويين، هم المنشأ والغاية. ومفهوم الأفراد المجازيين/ الأنثويين هو أن تتكوّن الإرادة الأنثوية بصورتها المطلقة من خلال اللاوعي، وأمّا كيفية تشكّل هذا اللاوعي فهو الذي يأتي تراكمًا في كسر السلطة/الفحولة/الذكورية/المطلق/الأب/المركز/... إلخ. حتى يتحوّر إلى (كيفٍ) يكون مقابلا للذكورية اللاواعية. وكأن هذا اللاوعي يجمع فكرة قيام الفعل بالإنسان، مع فعله الشيء بنفسه بقدرة تامّة، فيكون الذي حلّ محل السلطة العليا، إرادة متجذرة ومتعالية معاكسة لمفهوم السلطة؛ لا من حيث المفارقة لما هو طبيعي، بل من حيث الاستهجان للأفعال السلطوية في الكينونة الإنسانية المتغيّرة، ويأتي الاستهجان بصيغٍ متعددة، بحسب الفرد ومتغيرات طبيعته الاجتماعية والنفسية والبيولوجية. ومن ثم طبيعة الفعل الثقافي في وعي الإنسان، إذ تفكيك تمركز السلطة الخارجية في السرديات إحدى صيغ الاستهجان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى