محمد أحمد مخلوف - الصّراع في البناء الدّرامي لنصّ معدة حزينة فوق مكتب لعبد الواحد السويح

مَعِدة حزينة فوق مكتب

أحكمَ إغلاقَ الباب عليّ
كنتُ أتفاوضُ معه على معدتي
لم يكن الثّمن المقتًرح ليحميَ معد أطفالي الأربعة من الجوع
رفضتْ عَرضه في آخر دقيقة
غادرني وأحكم إغلاق الباب عليّ
تمضي الأيّام وأنا محاصَر
يستبدّ بي الجوع
لا خيار لي إلاّ أن آكل نفسي
بدأتُ بنصفي الأسفل والأيّام تمرّ
أكلتُ أصابعي
يديّ
ذراعيّ
والأيّام تمرّ
أنهيتْ رأسي والأيّام تمرّ…
لم تبق من جسدي سوى معدة حزينة فوق المكتب
تنتظرُ من يفتح الباب.


🇹🇳🇹🇳🇹🇳


منذ العنوان نتحسس النص يدور حول " معدة حزينة " ليكون البناء الدرامي خادما لها و مبرزا لأهميتها ، فهي بيت الداء و لكن عن اي من المعى يتحدث السويح ؟
الفعل الدرامي ينطلق من فعل منسوب لمجهول عندنا و لكن عبد الواحد يعلمه جيدا ، لينطلق صراعه معه منذ البداية ، حتى انه لا يترك له و لا لنا مرحلة تعرّف أو جسّ نبض بل إن هذا المجهول " احكم اغلاق الباب عليّ " ، لتنطلق مع هذا الفعل الحركة الدرامية بجميع ابعادها ، فإذا بنا في البداية ( من سطر 1 الى سطر 6 ) ازاء قوّتين متضادتين ابرزتهما الضمائر " هو " و " انا " ، لتكون لعبة الضمائر خير محرك و دافع لهذا الصراع المتنوع في المستوى الخارجي اولا.
فالسويح لم يستسلم ، بل يقول : " كنت أتفاوض معه على معدتي " ، مع ما يقتضيه فعل التفاوض من يقظة تغذيها روح التجارة و منطق الربح و الخسارة . لذلك " لم يكن الثمن المقترح ليحمي معد ابنائي الاربعة من الجوع " ، هذا في مرحلة اولى من التفاوض الذي هو في حدّ ذاته صراع له مقوماته التي تقتضي التلاعب من الطرفين مع حساب احكام توقع الربح و الخسارة - كما أسلفنا - في بعده التداولي ، فهذا العرض لم يكن مجزيا للطالب اي السويح ، الذي كان قطعيا في قراره اخيرا فقال : " رفضت عرضه في آخر دقيقة " ، و هنا تبرز لنا فطنته لقوة خصمه و دهاءه ، فأنقذ نفسه من براثنه في آخر دقيقة ليتحول الصراع الخارجي بداية من السطر 6 الى نوع آخر من الصراع وهو الصراع النفسي الذي سيتضح اكثر بداية من السطر 7 .
فبعد ان رفض السويح العرض في آخر دقيقة ، نلاحظ تحولا في الحركة الدرامية مع فعل " غادرني " الذي ازداد قوة بجملة " و احكم اغلاق الباب عليّ " ، التي كانت منطلق النص لتكون خاتمة الصراع الاول وهو الصراع الخارجي بين السويح و هذا المجهول و ليكون الكلام عودا على بدء بما يخدم بقية الحركة الدرامية .
الحركة الدرامية في هذا النص ستتضح لنا معالمها خاصة مع الصراع الداخلي الذي يعيشه بطلنا ابو محمود و خاصة في بعده النفسي الذي سيظلّ فيه وفيا لما عرفناه عنه من تمزق يصل حدّ التشظّي ، فيكون فعل الزمن قادحا لهذا الصراع الداخلي ، اذ " تمضي الايام و انا محاصر " ليتبعه بأمر لا يقل خطورة وهو " يستبد بي الجوع " ، فهل سيصبر و يقاوم ام سينهار؟
للأسف بطلنا لم يكن قادرا على الصمود نظرا لشعوره بمسؤولية تجاه اطفاله ، " لم يكن الثمن المقترح ليحمي معد اطفالي الاربعة من الجوع " . و هنا كما قال الجاحظ :" قد وقعت بين نابي اسد " ، فإن تحدى و ادعى الصمود ، قد يموت جوعا و حينها من يحمي اطفاله بعده ؟! و لكنه سرعان ما اهتدى الى الحل الذي قد لا يرضينا كقراء صورناه في خيالنا رمزا للصمود و القوة فيحاول المحافظة على ماء وجهه من خلال اقناعنا بصحة اختياره خاصة انه :" لا خيار لي الا ان آكل نفسي " ، و لتخفيف الصدمة علينا يفصّل عملية الأكل و ذلك بالتدرًج بنا فيقول :" بدأت بنصفي الأسفل " ، و يكتفي بما أكل ، و لكن " الايام تمرّ " و ما أكل لم يعد كافيا للبقاء ، فيتحوّل نهمه الى اجزاء اخرى من جسده علّها تسدّ رمقه و توفر له الحد الادنى للعيش ( le minimum vital ) ، فأكل اصابعه و يديه و ذراعيه ، و لكن ذلك لم يكفه لأن الزمن في الحقيقة هو الذي يأكل فيه " و الايام تمرّ " حتى " انهيت رأسي " و الايام تمرّ و رحاها تطحن فيه و فينا كلّ قوة جسدية ، فآنعكس ذلك على نفسيته و نفسيتنا حتى انه اقرّ لنا بأنه " لم يبق من جسدي سوى معدة حزينة فوق المكتب " ، و لكنها رغم ما تملّكها من حزن فبارقة الأمل لم تغادر السويح الذي ظلّ معها " تنتظر من يفتح الباب " .
و هكذا كان الصراع في بعديه الخارجي والداخلي دافعا للحركة الدرامية لهذا النص الملغز في ظاهره و الحامل لرسالة في باطنه يوجهها السويح للمفقّرين و المجوّعين في العالم ممن اصبحت معدهم خاوية على عروشها و هدّدوا في قوتهم و قوت اطفالهم ، كل ذلك في نفس ثوري يدعو لعدم الرضوخ لإملاءات البنك الدولي او بنك التجويع و كريستين لاغارد و من تبعها من ساستنا في اخراج فني درامي يقوم على الصراع المبطًن ( implicite ) و الملغز ، بل هو يقولها صراحة :" الجوع كافر ، افلا تعقلون ! ".
م ا مخلوف ( تونس )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى