أنس الرشيد - التفكيرُ خارج المكان

كتبَ إدوارد سعيد مذكراتٍ، حاول فيها أن يستعيدَ قدرا من السعادة افتقدها لما صار يفكرُ داخلَ المكان، وضِمنَ المركز، وكان خلاصه من هذه التعاسة أن يكتب عن السنوات الشاعرية لا الشِعرية، كي يفكر خارج المكان، وفي الهامش.

لهذا يُمكنني أن أصِفَ الكتابَ بأنه خارج وعي إدوارد؛ ولعلَّ هذا ما جعل عنوانَه (خارج المكان)، ومرادي بخارج وعيه، أي أنه استسلم لهذيانِ الذاكرة؛ بصفتها هُوية تنبش الماضي بكلِّ ما فيه، لهذا كان إدوارد قَلقًا بشأنِ استقبال الكتاب في العالم العربي، حيث المذكرات السياسية أو الروحية شائعة، لكنّ المذكرات الحميمية نادرة جدا.

ومُهمة إدوارد في هذا الكتاب أن يميز الحدَّ الفاصل بين غموض هذيان الذاكرة، ووضوح الحياة الرسمية بتبعاتها السياسية (والسياسية هنا تعني ذلك الغطاء الشامل للحياة المجتمعية بكل أرديتها) أي أنَّ مهمته الكتابيّة هي في جعل لغة الذاكرة مقروءة، لهذا فإنَّ الكتاب وصفٌ للعالم من خلال الدور الذي لعبه إدوارد، أي أنَّ هذا الوصف يحمل سمة التهكم، وسمة القبض على كل ما لا تريد أن تدركه العقول، ومنها أنَّ الذاكرة –بصفتها مخزون اللاوعي-لا تعتدّ بالهويّات السياسية، لكنّ العقل الواعي السياسي يؤمن بشوفينيّة الانتماء، فيحرِف الذاكرة ويسجنها داخل المكان؛ لهذا يصرخ إدوارد أنا (خارج المكان)، أؤمن بأن الذاكرة لا تُعطى طبيعة محددة، بل هي أمّ التنوع والاختلاف والتداخل بين الأمكنة والثقافات، ومن ثمّ الشعور بالآخر.

ومما يجعل هذا الكتاب تدفقًا للذاكرة كما هي، هو أنَّ إدوارد كان خرّيجَ المدارس البريطانية؛ فكانَ يعرف – كما يذكرُ-عن الهند وماليزيا والمستعمرات الأخرى، أكثر مما عرفه عن مصر حين عاش فيها أول حياته. لهذا جعل ذاكرته تهذّ تفاصيل اليوميات الصغيرة، والأشياء الحميمية التي تأخذ من الذاكرةِ سياقات تاريخ إدوارد وما وراء كتاباته، لهذا فإن إدوارد كان يتغزل بأمه، ويصفها كما لو كان نموذجا حيًّا لفرويد في عقدة أوديب؛ فهل هذا شرح لأسباب حب السلطة من قِبل المُتسلط عليه؟ إن الذاكرة هنا لا تقول هذا ولا يصح لنا أن نقول هذا بالفم المليان؛ بل إنَّ تغزّله بأمه ناتج عن جمالها؛ لهذا وضع صورتها متجهمة وصورتها مبتسمة في الكتاب، كي يراها القارئ كما هي، أما ما وراء هذا التغزل فقد يكون عائدًا للهيمنة الجسدية، التي هي مرجع القيم. ومن ثم يكسر حدّة السلطة بمعناها الأخلاقي/السياسي؛ تلك التي تحيل القيم على الماوراء، ومن ثم تحكم قبضتها في تقدم الحياة وطبيعتها. هنا تعود ذاكرتنا إلى اللحظات التي عبر عنها إدوارد بأن جسده أخذ في التغير؛ وكيف كان والداه يتسلطان: كيف يقف وكيف يمشي وكيف يلبس ثيابه، تلك الأخلاق النابعة من المعنى الرسمي المأخوذ من (برستيج) طبقة غربية. هنا إدوارد لا يحلل، إنه يعطي للذاكرة مساحاتها المكبوتة، لهذا رأى أن والده هو أول من أسس البيروقراطية العقلانية، وذلك لأنه أول من استخدم الأدوات المكتبية الحديثة. أي أن مفهوم السلطة عند إدوارد لم يتأثر في المذكرات، بحيث يوجه المعنى توجيها محددا نحو مفهوم الثقافة والإمبريالية. بل جعل الجسد يحلل سواء من خلال المرسل أو دعوة المتلقي إلى أن يدع جسده يحلل. وقد كان إدوارد يكتب هذه المذكرات وهو على سرير المرض.

ومن هنا أيضا يذكر إدوارد أنه لما حاول أحدهم أن يبحث في الكتاب عن ماهو سياسيّ بالمعنى المتداول، لم يجد ما يكفي.
نعم لم يجد ما يكفي؛ لأن الذي يكتب هو الذاكرة بعد أن قيّدها إدوارد، والذاكرة لم تعرف مكانها الذي تعيش فيه بل عرفت مستعمرات بريطانيا العظمى، لهذا هربت إلى تفاصيل الحياة العتيقة؛ المــُغْرقة في صغرها من حيث الشكل، لكنها منتجة في مضمونها، أي أنها ستكسر حدة الكبرياء المكاني، سواء ظهر بمظهر الطقوس المجتمعية والأخلاق العرفية، أو خرج بلباس الأعراق النقية، أو تجلى بالتاريخ السياسي الملغي للآخر.

وهنا يتجلّى في الكتاب ما وظفه إدوارد عن الموسيقى؛ من حيث إنها لحظة ذوقية بحتة، وهي ما عبّر عنها بمجال الخصوصية؛ ومن ثمّ لن تكون ملوثة بالعرف الأخلاقي أو الأوامر الأبويّة، أو الأوصاف التي تنطبق على من هو المواطن الصالح مِنَ المواطن الطالح؟! وكأن الموسيقى هنا حبيبةً يمارس إدوارد معها لحظة شبقيّة. أي يستمتع بها ويُخرج منها ما يتدفق من ذاكرة عميقة، تعري قبح العالم من خلال سلطته، لكن دون أن يقول هذا، بل اكتفى بالوصف الموسيقي كلحظة خاصة لا تلوثها الأخلاق الأبوية. ومن هنا كان وصفه لغناء أم كلثوم حين قال: " أشبه بالتأوه والنحيب، المتواصلين لشخص يعاني نوبة معوية حادة". إن إدوارد هنا يعود إلى ذاكرته ليسترجع اللحظة؛ اللحظة التي كان يعيش في مصر لكنه يسكن المستعمرات البريطانية. وبين العيش والسكن مقدار ما بين الصيرورة والسكون، فالعيش صيرورة والسكن سكون. أي أنَّ في وصفه لغناء أم كلثوم ازدواج بين (تحوّل) الإنسان من صحيح إلى مريض، و(سكون) انتمائه للموسيقى الغربية انغماسا بالسيمفونيات التي أخذت من وجدانه ومعانيه بصورة حميمية؛ لهذا وصف موسيقى بيتهوفن قائلا: " ...بكل ما فيها من دراما وتعقيد... وحدة كانت ترن في آذاننا الجماعية" هذا الانفصام الإدواردي جاء في الكتاب بصورة معبرة من خلال الذاكرة التفصيلية، التي توثق اللحظات العتيقة والصغيرة. أي أن إدوارد أراد أن يحول الأشياء العابرة الصغيرة إلى لحظات معبّرة عمّا وراء الوعي الأخلاقي، ذلك الذي يُمرض الجسد، فيتراجع العقل عن إدراك مراميه في التنوع والاختلاف.



أنس الرشيد

2014م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى