حيدر عاشور - فراس الاسدي.. (يا لك منْ مُستفز أبيضْ).. حين تكون قصيدتك صوتاً ورمزاً

الشائع لدى قراء الشعر ومتذوقيه كشف المهيمنات الاسلوبية، والبحث عن البصمات الجمالية لأسلوبهِ الخاص ضمن مبدأ التنوع الصوري في قصائد أي الشاعر. وقصائد فراس الاسدي.. (يا لك منْ مُستفز أبيضْ) تتحرك اسلوبياً على أكثر من منطقة شعرية كونها تنتقد الهم الوطني، وتتحدد بالحسّي، والتعبيري، والرؤيوي والتجريدي. لذا كان مدخل المجموعة ظاهرة شبابية تشرينية شكلت أكبر مطالبة في الحقوق والتساوي ومحاربة الفساد يطرحها الواقع الشبابي ميدانيا فكانت النتيجة قرابين من الدم لأجل وطن حر وشعب متمكن من العيش بسلام. فـقصيدة (طيور الخريطة التشرينية) فكرة على شكل صورة انما هي الشعر، وتجمع جميع المفردات المجردة، محسوسة لتكون ملموسة، وبوسعها تجعل الخفيف ثقيل والكثيف سائل وبوسعها ان تزاوج بين شيئين مختلفين وتمزج بين المجرد والمحسوس ليتمم احدهما الاخر. والقارئ المتأمل لقصائد(الاسدي) يستطيع ان يتحسس مئات الصور التي تجسد الهم الوطني للشباب، حين يقول:

/ وطني .. يا أول الحرف.. جاءَ جرحُكَ.. بمقدار الذين طالبوا بقلوبهم فيك/. وهو الاستفزاز الروحي الابيض الذي يحاول "الاسدي" اظهاره من خلال حسه الشعري. وقد اشار الشاعر القدير والمخضرم(محمد زمان الكربلائي)..وهو يقدم مقدمة الكتاب الى رمزية الاستفزاز بالرمزية والايحاء الايجابي.. وهو تشخيص دقيق لتجربة الشاعر. اضافة الى طرحه سؤالين فيهما من الخبرة في وضع الكلمة بموقعها دون ان يمس مشاعر المؤلف. السؤال الاول كان في نجاح قصيدة النثر واستيفاءها لشروط الوحدة العضوية للقصيدة ؟. والسؤال الثاني هل للقصائد استقرأت تغريدة المؤلف الادبية؟. ويترك "زمان الكربلائي" الاكتشاف للمتلقي المتفحص. وكانه يريد ان يقول: ان الشاعر فراس الاسدي سبق عمره وعليكم اكتشافه !. فالكتاب ولادة 2020م ولكنه سيقرأ حتى عام 2060م..


  • قراءة مغامرةٌ ورهان
وهنا اطرح سؤالا للأستاذ(محمد زمان الكربلائي). لماذا تصرّ ان المجموعة الشعرية كتاب؟ الا الاجدر تسميتها (مجموعة شعرية). لماذا تقول مؤلف ولم تقل شاعراً. كأن مقدمة(زمان) كانت قراءة مغامرةٌ ورهان تجذب المتلقي وتكسر جدار المألوف في محاولة اقتناء المجموعة الشعرية ووضع القارئ في محاولة لاختبار ذائقته والحكم على الاحساس النثري فيها أو الاعتراف بالخطاب الشعري لا بالمحتوى.

اما القراءة النقدية التي نمتلك ذائقتها تقول: ان الشعر بهذا الاسلوب، يكون بين منطقتي الشعر الواقعي والسردي رغم وجود حضور وملامح مشتركة بين هذين المنطقتين، ابرزها اقحام الشعر بتوترات الحياة وصراعاتها اليومية، وتوظيفها توظيفاً سرديا ادرامياً للابتعاد بالشعر عن نثرية البوح المباشر. فالشاعر ملزم بالتعبير عن نفسه بصدق وامانة، ويقرأ الشعر بحفاوة حين يعبر عما يرتبط بالشعب واكثر اثارة حين يعبر عن افكاره بلا غرور او تصنع، وشعره ينبع من نفس بساطته كانسان !. وهو يعلن هذه البساطة الاسلوبية من خلال انسانيته وعلاقته بالمكان والتاريخ، وهذا ما مكنه في تمايز الذاتي في قصيدة (أتأرشفُ في المدينة )، فأهمية المكان الواقعي وتماهي الذات معه. كان هذا التمايز هو الذي يُنضج وعي المتلقي ككائن، وعيه بكربلاء وبتاريخها، وبتاريخه الشخصي. فيقول:/ تمارسُ كربلاءُ ..غوايةَ أرشفتي.. من رحيقِها.. يتبلل قلبي/. يعبر بهذه الشعرية أنه لا انفصال الذات المبدعة عن المكان فهي تعيش فيه كمتلازمة. ان القصائد في النهاية اشارات على نحو نمطي لقصيدة النثر، وهي تحتاج الى وقفة متفحصة لفك سر ثمرة جهود الشاعر الذي اطلق عليه( زمان الكربلائي) بالمؤلف.


  • مجموعة تلعب في ملعب حر على سطح ابيض
ربما يحيلنا هذا المنطوق الى المواجه المباشرة لتوضيح كتابات دلالية متنوعة فيما يخص عموم المجموعة، منها العنوان الخارجي، وما جسد بالمقدمة كتعليق افتتاحي. فالمجموعة برمتها تلعب في ملعب حر على سطح ابيض لإنتاج توجه دلالي كما في قصيدة( مدارات) يضع حصاد خبرته المعرفية والابداعية في مجموعة اسئلة تنظر اجوبة مقنعة تنويرية فاعلة.. لذا قال في مطلع القصيدة:

/ علاقتي متينةٌ بالكون.. ولكنيِّ .. لا أستعينُ بالنجومِ/.

ما الذي اراد ان يقوله؟، ماذا يريد ان يرسل للمتلقي من توجه. حين ارجع البصر الى اغلب الاعمال السابقة يتبين على الفور مشاريع مختلفة بالمعنى الذي يتداوله المثقفون في منظومتهم الفكرية – عملية جاهزة تريد بادعاء وكبر لا حدود لهما. ما بين وضع الحقيقة الوجودية وكشف غطاء عن امور مجهولة تسهم في المعرفة، او لديه توجه عسير الفهم، او ينشد التنوير الروحي وفق قناعته نحو عالم اصلح. نفس النفس الشعري في قصيدة( وسائد تنامُ في الكتابة) كأنه يجيب عن اسئلته في (مدارات)/ كيف لأحدٍ.. أن يواجه ذلك السيلَ .. من البلاءاتِ/.. ما يُصيبني من حجم الألمِ .. أحاجِجُهُ ..بكمية الامل/.

كل هذه الحيرة المرتبطة بالأمل هي أشباه لداخلية الشاعر المتأججه نفسياً وفلسفياً. ما جعل الصورة الشعرية تطفو بحرية ولا ترسو ولا تُفسَّر. أي برأ قوله في ختام القصيدة / ها أنا.. لا زلتُ.. أواجهُ الكلام.. بالكتابة الصامتة.. ومداد أقلامي.. الذي صار أزمنة ملونة/. كذلك الهم الشعري في قصائد(وطن يوسفي) و(تسريبات)و(شجرة التكرار)و(تناقض) و(جنون الأسئلة)، تتسم بهم لغة التخاطب الوطني والحلم الاجتماعي المثالي، مشحونة بالمعنى والصور الى اقصى درجة وصلها الاسدي في فكره وعقيدته المركزية التي تعود به دائما الى الوعي الانساني وطبيعة الانسان. ممكن لكلا الاتجاهين (الفكر والعقيدة) قد عملا في روح الشاعر الواحد نفسه، فجمع بين همين ( الوطن والدين) كربلاء والعالم الاخر، البيت وخارجه الكاره والمحب. صراع داخلي اخرج نصوص موجوعة دمجها في التاريخ والمجتمع وقدمها بالطريق المختصر السحري.

/ لا يدهشني في هذا العالم ..سوى.. مدينة الماء/ (تسريبات).

/ لأجل ممارسة إغوائه ..يدعو .. لتحرير العقل.. وهو.. يعيش الظلمة في ذاته/ (تناقض).

/ وطني .. مثُلك كمثل يوسف.. يحاولون إخماد صوتك.. وإسقاطك من على بئر.. ولكنك ستبقى أجملهم .. وهم سيموتون/ (وطن يوسفي).


  • في دقائق مهربة من عقارب غافية
ثم يختم(يا لك من مُستفز أبيض) بعشرين من الدقائق المهربة من عقارب غافية.. ومضات شعرية قريبة من الصور السردية تحيط بالأصل الشعري او تجتزئ بالنص فقط.. مفردات دلالية متنوعة يطلق عليها في الاصطلاح النقدي( موجهات القراءة) الخاصة للشاعر تجمع بين الفكرة والحكمة والتجربة واشارات متقاطعة.. فقد امتازت بالرقة ودفق الخيال والحضور الموسيقي. يبدأها / افكر باحتياجي للتلاشي... ويختمها / الرقصُ مُزاحٌ مُزورٌ... والموسيقى بصمات ارواح مجروحة/.

بقي علينا ان نبحث ونسأل عن مزاجيته بشكل اعمق وادق وندعو الى قراءته. وقد تناولت مجموعته اولا لكرمهِ في الاهداء، وثانياً لتناوله غربة الوطن داخل الوطن ورفضه للفساد والارهاب، فتنقل عبر مجموعته بروح الشعر والحدس والقبول والرفض بطبيعة التشاؤم والتفاؤل، والانا والآخر، والواقع والحلم، والخلاص وللإخلاص..


  • خلاصة طريق الاسدي
هذه هو (فراس الأسدي) الشاعر والصحافي، عضو اتحاد العام للأدباء كتاب العراقيين في كربلاء. عرف بالإعلامي ومقدم برامج ثقافية وأدبية، واشتهر بمدينته بالشاعر الشعبي الارتجالي وله نصوص شعبية يقف عندها المتلقي متأملا –حسجته- الشعبية.. وحاليا صدر له كتاب (قصائد شهيدة) عن مركز كربلاء للدراسات والبحوث كتاب وثائقي عن برنامج قصائد شهيدة الذي عُرض في قناة كربلاء الفضائية يوثق سيرة حياة الشعراء الشهداء حصرًا. وله أيضا كتاب (في مدار القوافي رسالة في الأدب الشعبي ومجاوراته)، وخيرا جاءت مجموعته (يا لك من مُستفز أبيض) الذي قامت على إصدارها دار المفكر للنشر والتوزيع ضمن مشروع مُفكر في مدينة كربلاء المقدسة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى