عبد النبي بزاز - اختلاف الرؤية وعمق أبعادها : المجموعة القصصية « نمارق» للكاتب عبد الرحيم التدلاوي

تنضاف أضمومة « نمارق « القصصية إلى كتابات الأديب المغربي عبد الرحيم التدلاوي التي تمتلك رؤية إبداعية مختلفة ومغايرة لطبيعة اشتغالها على تشكيل أفق كتابة ميسمها التنوع والتعدد (سرد، شعر ، نقد) بهاجس وهمّ التأسيس للون إبداعي يشذ عن المألوف في نمطيته المعهودة داخل متن محدد المعالم والآفاق في شتى أشكاله وتوجهاته التقعيدية والإنتاجية بمواضعاتها ومواصفاتها الشائعة. كتابة بنزعة انزياحية تجترح آفاقا بكرا عبر آليات التنوع والتجديد أملا في إرساء لبنات جنس أدبي حديث (قصة قصيرة جدا)، وما يستلزمه الخوض في غمار آفاقها المتبدلة من بحث مضن ومكلف عن حيز أرحب، ومدى أعمق تستدعي تجشم فعل كتابة مسكونة بهوس الاستشراف، وهاجس البحث والاكتشاف بعدة لا تعوزها ملكة الخلق، وعمق الرؤية وحس التجديد والتجريب. كلها مقدرات معرفية وأدبية يحوزها الكاتب والأديب عبد الرحيم التدلاوي في تعددية إنتاجه النوعي إبداعا ( سرد وشعر) ، وقراءة ( مقاربة ونقد) مما منح نصوصه نزعة تنحو نحو التجديد والتغيير.



« نمارق» كمجموعة قصصية في لون سردي ( قصة قصيرة جدا) تتميز بوفرة (133 نصا) تنهل من مرجعيات بزخم معرفي وتراثي وتاريخي وحضاري…لصهرها داخل بوتقة صياغة حكي غني بإيحاءاته الدلالية والجمالية والرمزية. نصوص تتطلب مقاربتها امتلاك الأدوات النقدية الأساسية المرتبطة بحقول منهجية بما فيها ( السيميائية والإبيستومولجية) لانفتاحها على مجالات معرفية وجمالية في استلهام من تفاعل وتماه يغني زخمها الإبداعي، بتشريعه على آفاق تتوالد معانيها وتتكاثف دلالاتها داخل نسق معجمي تتعدد أبعاده وتتنوع تجلياته.
من هنا سنحاول تحديد بعض « تيمات» المجموعة لإضاءة جوانب من معالمها الإبداعية، ومقوماتها الجمالية الموسومة بالوفرة والعمق والتنوع، مما يصعب معه الإحاطة بجل مكوناتها ومراميها.
وسنبدأ ب « تيمة « الوصف وما تحبل به من غنى وتوهج : «يحلق كفراشة وقد اكتحلت عيناه بنور الفجر» وصف بحس ينضح بأمارات تجديد ينأى عن الوصف المألوف بحمولاته التصويرية والتشبيهية الشائعة بإدراجه للفراشة كطرف مشبه به داخل زمن (فجر) يرهص ببزوغ نور الصباح وما يشيعه من إشراق ووضاءة على العينين في رؤية مشبعة بتفاعلات ذهنية وحسية ليصير أكثر عمقا وانفتاحا : « كجناح طير قادم من جنة الرؤيا «، بإضافة عنصر آخر هو الطير وارتباطه بتمظهرات دينية (جنة، رؤيا) وما تعج به من حمولات عقدية وقيمية تتعدد طرائق تمثلها ومسلكيات تأويلها .
وتتضمن قصص المجموعة أيضا موضوع الدين بتحوير لبعض نصوص القرآن الكريم، إغناء لأفقها الدلالي وتصييره أكثر رحابة وانفتاحا كما في سورة ( المائدة) : « اللهم أنزل علي مائدة تكون عيدا» فيغدو المتكلم مفردا وليس جمعا، وبشرا وليس نبيا ( عيسى عليه السلام) ، تحوير يطال كذلك سورة ( نوح) : « أنا ذاهب إلى الجبل سيعصمني منها» بصيغة تقريرية وتأكيدية مع ما يطبع شخصية المبدع من سمو اعتباري قد يرقى به، مجازا، إلى مصاف الأنبياء والمتصوفة والزهاد، وذلك ما يمكن أن يحمله الجبل كرمز مكاني للاعتكاف الذهني والروحي وملاذ لخلوة منشودة لهذه الفئة. ولتعميق الرؤية الإبداعية داخل نسيج الأضمومة وبنيتها، وكامتداد لـ « تيمة « الدين يستلهم الكاتب نظرية الحلول والاتحاد من الفكر الصوفي : « وبجسمه يتحد بها « كانصهار وجودي في شكله الروحي القائم على المجاهدة لإطالة مقام الحلول : «انصهرنا في بعضنا». بالإضافة إلى التحول كـ «تيمة « لا تخلو من أبعاد دلالية وجمالية لكائنات مثل السمكة : «لأجدني فعلا سمكة «، أو فراشة: « فتحول فراشة عاشقة حلقت إليه» تحول يتمحور حول الذات الواحدة منخرطا في صلب دائرتها الذهنية والوجدانية، أو موجة : « صرت كموجة أتلفت بحرها « في تجسيد لصور تيه وضياع بامتدادات وجودية يجللها الغموض، ويحدق بها الزوغان.
ويبرز موضوع الاستلهام على عدة أوجه ومستويات منها ما هو تراثي أدبي ( شعر) :» سئمت الحياة أثقلت كاهلي تكاليفها وأنا الرجل الثمانيني» في استحضار للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى من خلال معلقته الزاخرة بنفس حكمي باذخ مستمد من حياة خبر أسرارها بعد عمر مديد ( 80 سنة) حافل بشتى ألوان التجارب وأنواع الطوارئ والنوائب : سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبالك يسأم، وفني ( سينمائي ) فيلم أبي فوق الشجرة وما جسده من جرأة أخلاقية ، وشعبي محلي ( سالف لونجة) .
وللغرائبية كذلك تمظهراتها الدلالية والجمالية في المجموعة في شكل يلتئم فيه المجازي بالديني: «منتظرا حضور ملاك يسكب في عينيه النوم «، والكوني في مظاهر كالشمس التي تتم أنسنتها باستلهام من النص القرآني : « نظرت إليه الشمس من وراء حجاب وقالت هيت لك فاستجاب « مما يستدعي التوسل بأدوات معرفية متعددة المرجعيات والمشارب لسبر أغوار خفاياها، والغوص في بواطنها وخباياها عبر مقاربة منهجية تمتح من مرجعيات فكرية ومعرفية.
لا تخلو قصص الأضمومة من تعابير بطابع ينزاح عن الأنماط المعروفة والمألوفة مثل : «سقط في جب الضحك» صورة مفتوحة على شتى الإيحاءات والتأويلات ، وقوله : « ما باليد يوسف « وما تزخر به من حمولات رمزية في سياقها الديني والتاريخي، وأيضا إحالتها، في استعمال مختلف، على المثل الشعبي ( ما باليد حيلة) وتوجيهه نحو مسلكيات متعددة العتبات والمقصديات. تعابير لا تفتأ تتوسل بنفحة رومانسية تطفح جمالية ونضارة في مزج مشهد الغروب بإحساس وجداني يتجاذبه الانفعال والتفاعل : « اعترتني رعشة الغروب»، أو تصوير ( بانورامي) تشكيلي لطيور النورس والموج : « كانت طيور النورس تحلق بعذوبة، فيما الموج يعانق نفسه بهدوء» بأسلوب شفاف وجذاب يجلل فيه ضوء القمر الرؤية: «في عينيه يسكن القمر»، ويشيع نور الشمس وبهاؤها داخل ألياف الفؤاد: «في قلبه شمس» باختزال لغوي منحوت بدقة وبراعة.
قصص « نمارق» للأديب المغربي عبد الرحيم التدلاوي جديرة بالمتابعة، وقمينة بالمقاربة لصدورها عن رؤية إبداعية مغايرة تنماز بعمق معانيها، وغنى أبعادها في تكثيف لغوي واختزال دلالي عبر تقتير وتقطير لأشكال المحكي ومراميه تماشيا مع روح القصة القصيرة جدا التي أفلح في تمثل مقومات بنائها، وإواليات أنماط تشكلاتها وتجلياتها فأبدع فيها وبرع.

عبد النبي بزاز

بتاريخ : 31/05/2021



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى