محمد الطايع - رسالة الخيبة والخذلان

غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي
نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِيسَ
بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ
أبوالعلاء المعري




* ملحوظة :
《كل الصفات والنعوت المذكورة في هذا النص، محض تخييل.. وكل تشابه بينها وبين الواقع، مجرد مصادفة مقصودة》





ذات مساء قريب، وبعد شعور خانق بالضياع والإحباط، كتبت صديقة شاعرة مغمورة.. نصا بائسا ضمنته بعض رثاء لواقعنا، وحين شاركتني نص القصيدة، حزنت تعاطفا مع ما نحن فيه.. وكنوع من المواساة لنا معا، أجبتها ببضع كلمات أخبرها من خلالها أننا نتشارك الهم نفسه.
لكن كلماتي لم تكن كافية، لكي تشغلها عن حزنها، فما كان مني، إلا أن أرسلت إليها نص رسالة كتبتها لصديقة، لقبتها: (أنجيلا القطة المتكلمة) قياسا على لعبة الكترونية خاصة بالبنات الصغيرات..

يقول نص الرسالة:

صديقتي أنجيلا المتكلمة.. عجبا..! كيف فكرت في كتابة الشعر؟ ولستِ سوى قطة! وكان أولى أن تلوذي بالمواء.. أيتها المدللة التي لاتغسل أسنانها بنفسها، ولا تحظى بتسريحة جديدة لشعرها، إلا بمساعدة معجبيها الأغبياء، وحين تحصل على طعامها، لا مقابل تدفعه إلا اللعب.
لماذا أقلقتِ نَوم شاعرنا "بول إيلوار"؟ وكان قد أغلق عينيه ونام. مستسلما لرغبته القديمة في البحث عن امرأته المثالية. وبينما هو يلاحقها في أحلامه، أيقظتِه ثلاث مرات متتالية، مرة بحجة أنك جائعة، ومرة لأنك ضَجرة.. ومرة قلتِ لعاشق الحرية الكبير: - كل الذي أريده منك أن تختار لي فستانا وحسب.
لست أدري، كيف سولت لك نفسك الأمارة بالسخف، أن تطرحي جانبا، قضايا حقنا في العيش الكريم، ورغبتنا في فهم أنفسنا لكي نتصالح مع النبل الذي خاصمنا منذ سنين، وقيم كريمة نفتقدها.. مثل الحب والألفة اللطف وحسن الجوار..
يا الطائشة.. مامعنى أن تخطر لك تلك الطلبات الغبية عند الثالثة فجرا..؟! ثم تماديت، بعدما غفرتُ لك زلة تنميقك لطعم الإيقاع بي، عند قولك: إنك رجل وسيم، وما أنا إلا مهمش بشع الشكل، أقرع مهمل وبدين، ثم أرسلت إلي دعِيًّا كَدَّرَ صفو يوم عطلتي الأسبوعي.
نعم.. أمس، وأنا أستمتع بوحدتي في المقهى، التحق بي أحمق يزعم أنكما صديقان مقربان، ومع أول تعارفنا، قدم لي نفسه بصفته شاعرا.. ثم.. هلم ثرثرة، ولقد بالغ في الثناء عليك وعلى خربشاتك المقرفة، التي لاتشبه الخواطر ولا قصائد النثر..
ولأن حديثه أضجرني، طفقت أقلب ناظري بين كراسي المقهى فأبصرت هرة تتنقل من كرسي لآخر، فخطر لي أن أدردش معه حول الشعر الجاهلي، ولربما حدث ذلك بسب رؤيتي لتلك القطة، فتذكرتني صغيرا أيام كنت أعتقد أن الشاعر الأعشى، كان قويا مثل "كونان البربري" قاهر الجن والوحوش، والذي قال عنه كاتبه "روبرت هوارد" أنه رجل قد من صخر.. فلما آوى ذات ليلة إلى كهف مسحور، تعلق قلبه بجنية سحرته، فقلت وأنا الصبي المنبهر، إنها الجميلة هريرة.. التي مارس معها الأعشى كل أصناف الحب، فلما أتى الصباح، وأراد أن يلتحق بقافلته، أصابه حزن التعلق الشديد، حينها ودون تقدير للعواقب، سألت صديقك عن هريرة التي شق على الأعشى فراقها؟ إن كانت امرأة حقيقية؟ أم جنية من بنات النار؟.. ومن أجل الاستئناس تلوت عليه مطلع القصيدة..
{ وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ
وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ }
قال بعد تظاهر بالتفكير الجِدي: لعل هذا الأعشى هو نفسه، ذلك الرجل الطيب الذي أطلقوا عليه لقب أبو هريرة............ و.........لكن.........إنما..........أكيد..........و................. ههههههههههه كيف لي ألا أموت ضاحكا، غير معقول!! يافضيحة الشعر والسرد والفقه وكل صنوف المعرفة..!!
هنا توقفت صديقتي عن القراءة.. ثم أرسلت إلي رسالة صوتية.. فلم أتبين ماتقوله.. سوى القهقهات.. هههههه
- بالدموع والله، هذا كل الذي فهمته.. ثم عادت لمواصلة القراءة..
صديقتي أنجيلا.. بعدما استجمعت أنفاسي سألت صاحبك الغبي: من أوحى لك بهذا؟ فقال وكأنه ليس أحمقا: إنها جنية كما قلت أستاذ محمد، لأن أكثر الهررة مسكونة بالجن..!! بل إن من الجن من يتمثلون كهيأة القطط السوداء، مهلا أستاذ، هل كانت هريرة الأعشى سوداء اللون؟ أقسم بالله إنها عفريتة..؟!
مستغربا تابعت الاستماع له.. حيث سألني: هل سمعت بديك الجن؟ قلت: لا.. مامعنى هذا؟ قال: لابد أنك متفق معي أن لكل شاعر جني يملي عليه القصائد.. قلت: تلك مجرد أسطورة.. قال: لا.. ديك الجن.. هو العفريت المختص بالشعر.. يأتي الشاعرَ فجرا على هيأة ديك شديد حمرة العرف.. وصياحه بالغ الحدة..!!!!
عند هذا الحد، لم أعد أتبين أينا الأحمق، هذا المهلوس، أم أنا الذي فتحت الويلات على نفسي، حين قمت بخلط قصة "كونان" بسيرة صاحب المعلقة؟
سامحيني يا قرة عين شعراء الجاهلية الثانية، لا أعرف كيف أسيطر على غضبي.. فلقد فكرت أن أدفعه لكتابة تدوينة حزينة على صفحته الفايسبوكية، وأنا أتعمد إخباره أنني عند آخر لقاء لنا.. كنت لطيفا معك، وأني انحنيت إلى كفيك الناعمتين، فقبلتهما أمام رواد المقهى.. وأنت تنظرين إلي بإمعان هرة تخنقها الرغبة، ويمنعها الكبرياء.. وقد لون خفر البنات القاصرات خديك بحمرة شهية.. كان هذا نوع من الثأر البسيط، للشعر والشعراء.. وإلى اليوم لازال دمي يغلي في عروقي..
أنجيلا أيتها الوقحة، أإلى هذا الحد تستصغريننا؟! بسبب أمثال صديقك هذا، يشيبُ شَعْرُ شعراء العصور كلها، وهم يلعنون أقدارهم بين قلاع الصمت.. وحانات العزلة. مع ألف خيبة بين يدي جمهور الأمسيات الثقافية، حيث لا تصفيق إلا من بعد وصلات نوم طويلة متقطعة.. تعقبها حفلات اقتناص "سِيلفيات" النفاق.
ولكي يفهم الغبي الدرس جيدا، أخبرته أن أشد ما يزعجني التواجد بصحبة أنصاف الأدباء، ثم ضربت لصاحبك مثلا: شاعران من إبداع مخيلتي، افترضت أن أحدهما، يدعي أنه مازال قويا، مُلما بعلم النحو والعروض.. وأنه لا يشكو ألم الظهر ولاضعف النظر، والظاهر أنه يقصد قوى جسدية أخرى غير قوة الابداع.. فهو السيد الفحل الذي لايضع نظارة طبية، وهو معشوق العجائز والأرامل والمطلقات، بإخلاص الحمقى والمعتوهين، نذر ماتبقى من عمره لإسعادهن، وإثارة غرائزهن النائمة، رغم تجاوزه الخمسين.. لم يتعب مع كل التركيز اليومي على شاشات الهواتف، والحواسيب والتلفزات، والكتب القديمة.
أما الثاني فإنه يزعم بالتفوق.. كأنه نابغة الأدب المغربي الحديث.. ثم أكدتُ زورا سامحني الله، أن ذلك حدث هنا، حيث أتواجد الآن.. ثم أضفت: أما الثاني فيدعى أنه عاش حياته ملتزما بقاعدة: استعينوا على سماع أوديوهاتكم ب"الكيتمان".. لذلك ظهرت موهبته بعد سن الثلاثين، فأسرف في نظم شعر الغزل، ومن طقوسه كما يقول، أنه يتأنق ويتعطر قبل كتابة أي قصيدة جديدة هههه.. ومما أدهشني زعمه أنه قد نظم الشعر وهو صبي في المهد!!! لكن ممارسة الشعر في وسطه العائلي المحافظ، كانت أشبه بممارسة السحر والفلسفة والكمياء، والاستمناء قبل عصر الأنوار. ولقد أَقسمَ أنه ولد موهوبا.. وأنه أتقن كتابة الهاكيو - يقصد الهايكو - في عامه السابع، وأنه كان بارعا في إغواء تلميذات المدارس الإعدادية بقصائده الغزلية الخطيرة.
ثم ها أنت ياشبيهة الببغاوات، لاتبدعين في الحب ولا في الكلام، ولولا ثقل دماغي الليلة، لأخبرتك ببعض مافاتك من دروس الحب والحياة.. لكنني لازالت أحاول أن أستوعب ما أسررتِ من قول أهبل، لشاعرنا أبي العلاء المعري، حيث بِتِّ تهرفين أنَّ هرَّةَ بنت قط.. أبلغتكِ أن جَرْوَةَ بنت كلب.. قصَّتْ عليها خبر مهجة القرطبية، وهي تعترض فقيه حارتنا عند باب الجامع، بعد فراغه من صلاة الظهر، هنا في حي بن ديبان، فلما سألها عن حاجتها، قالت: أريد الزواج من ابن زيدون نكاية بولادة بنت المستكفي..
هنا، توقفت صديقتي مرة أخرى عن القراءة، ثم قالت محتجة: ماهذا الحمق؟ ما علاقة الإمام بالزواج؟ هل هو خاطبة؟
قلتُ: والأدهى من ذلك، أنه ليس ساحرا، فأنا أعرفه حق المعرفة، إنه رجل تقي. وإلا كان تزوج ألف امراة كما يفعل سائر الأئمة.. أكملي قراءة الرسالة رجاءً..
بكل وقاحة أخبرت مهجة القرطبية الإمام، أنها لم تعد تطيق النوم وحدها، مع أنها مطلوبة ومرغوبة، ومن ورائها جيش جرار من المكبوثين، ولولا مخافة الفجور.. لكان جواب الفقيه المسكين، أنه مزق كل وسائد غرفة نومه.. فتلك زوجته الشمطاء لم تعد تنام بجانبه، ولأنه ومما ألقته الفطنة بين أيدينا، حين يتعلق الأمر بسعادة القلوب وتوافق الأجساد، فلا شك أنه قد (ضعف الطالب المطلوب).
غاضبا قال أبو العلاء: أنكِ طلبت منه أن يضيف فصلا متأخرا لرسالة الغفران، يحكي من خلاله أن مهجة القرطبية سوف تدخل النار، وولادة بنت المستكفي سوف تكون حورية من حوريات الجنة. وأديبنا لايعرف أن الحكاية لاتتعدى كيد نسوة لبعضهن، وأن فحوى الخطاب، شاعرة تهجو شاعرة كانتا لوقت قريب صديقتان، وكل هذا.. فقط، من أجل شوعير كان يدفع من خالص ماله، مقابل سهرات وجلسات جوفاء، في مقاهي الأدب.
المهم.. لقد فعلتُ ما يجب.. واعتذرت لأبي العلاء، ولست أدري كيف فكرتِ أن تقحمي شاعرا عظيما، في خزعبلات حياتك اليومية، وتفاصيل كتابات حمقاء، ليس بمثلها يمكن لك أن تلفتي انتباه المبدعين الكبار.
وإذن.. فلتعلمي يا صديقتي أنجيلا.. أيتها القطة المتكلمة.. أنني لن أرد على رسائلك مرة أخرى، لأن رجلا وضيعا كحالتي، لا يلبي دعوة أنثى بعد منتصف الليل، إلا إذا كان متأكدا أن منحة لذيذة تنتظره.. فلو أني كنت أعلم أن وعدك لي، ليس سحابة غير ممطرة.. لكنتُ غادرت بيتي من أجل عينيك في عز الظلام.. ولسان حالي: " للي ليها ليها.."
بعد قراءتها لنص الرسالة، سألتني صديقتي عن جواب أنجيلا.. فقلت: لقد سخرت من المعري، قالت: إنه أعمى لم يمتحن بشهوة، ولم يبرح منزله، ولم يعاشر طوال حياته امرأة. ممتعضة قالت صديقتي: - وبماذا دافعت أنت عنه؟
قلت: أخبرتها أن بإمكان السلحفاة البطيئة الفهم، التي لم تغادر حديقة التمني، أن تتقمص شكل ضفدعة، بعد سماعها بقصة المسخ لكافكا، ثم تقفز فوق النصوص كلها.. وفوق علامات الترقيم، وتقفز من علاقة إلى أخرى، والقفز حيلتها كلما عجزت عن الإفصاح المبين، غاية ما يمتعها، أن ترسل لسانها الطويل لصيد الحشرات. وكلما غشيها مبضع فوق طاولة التشريح، ضحكت لصراخ عاشقها، حين يشل نصفه الأسفل من صعقة كهربائية غير متوقعة، ثم يهرع بحثا عن حقنة تشفيه من داء السيلان.
للأسف ألف مرة..
لكي نصف واقعنا الذي نهرب منه نحو الكتابة. لن نحتاج الى كثير من البلاغة. فالمكان وسخ مثل صندوق قمامة. والحلم مثل حمام شعبي مكتظ بلحم العار والعري المجاني..
عالمنا أيتها العزيزة.. قبيح.. قبيح جدا.. لولا أن لنا بعض عزاء في مثل هذه الكلمات :
رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً
ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ
وَدَفِينٍ عَلى بَقايا دَفِينٍ
في طَويلِ الأزْمانِ وَالآبادِ

محمد الطايع..
طنجة.. 05/ 07/ 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى