ربما هي قصة شبيهة في أهم ملامحها بما عاشه كثير من أطفال مغرب الهامش زمن الستينات، وبعض شبابه المتعلم زمن السبعينات، مع اختلاف في التفاصيل. هزني الحنين إلى استعادتها في لون الحبر، رغبة في العودة إلى فرح الطفولة وأحلام الشباب، ومداعبة ذكريات بعيدة، وأحلام منسية. قصتي مع الجدار تثير في نفسي مشاعر ملتبسة ومتضاربة…حب، وحنين، واعتزاز، ورضا عن المسار والمآل، مقابل حرمان، وحزن، وخوف، وخيبة أمل، وشيء من الندم… ولأنها كذلك كانت، فهي قصة جميلة على كل حال، تستحق أن تعاش، وكان من حظي أني نسجت وقائعها، بقدر ما صنعتني أحداثها، عبر فضاءات مغربية يطبعها التنوع ويسمها الاختلاف في كل شيء… في التضاريس والبنيان… في اللسان والهندام، ولون الأسوار ومجاري الوديان… في لون السماء، وتشكيلات النجوم، ونسائم الليالي، ورموش الغوادي، وأناشيد الصباح… فما أرحبك أيها الوطن ، وما أجملك…
كانت وزان بداية الستينات مدينة وديعة تتعانق في فضاءاتها الساحرة تجليات التحضر العريقة وسمات البداوة النافرة. تحفها شرقا ثكنة عسكرية تتخللها فيلات صغيرة بنيت على الطراز الأوربي، ومقبرة النصارى المسيجة التي زينت لحودها بعقيق نفيس ذي ألوان زاهية، وملعب لكرة القدم يكسو أرضيته بساط أخضر جذاب، إليه كان يصاحبني «الشويدي» أيام الآحاد لمشاهدة مباريات في كرة القدم…أولمبيك وزان يرفل لاعبوه في حلة بهية : أحمر فاقع وأخضر يانع وجوارب ناصعة… تتوسط المدينة دار الضمانة التي جعل منها الوزانيون مزارا للتبرك وملاذ للاحتماء من كل الآفات. قلب المدينة، امتدت ساحة كانت تبدو لي هائلة، هي بمثابة المركز التجاري النابض، حيث المحلات التجارية والمقاهي ونزل صغيرة بنوافذها الضيقة الزرقاء. وسط الساحة انتصبت منارة تعلوها ساعة لا يتوقف عقرباها عن الدوران ، يلاحق أكبرهما الأصغر بلا كلل، كما لو أنهما يحصيان أيام حيوات أهل المدينة قاطبة. تحيط بالساحة أحياء وزان بدروبها الضيقة والمبلطة، دروب نظيفة تزينها باقات ورد وأزهار زاهية، على جانبيها حوانيت تبيع كل شيء، لكن بكميات قليلة: قفاف زيتون حباته في ألوان الياقوت، تزيدها أنوار الصباح الدافقة لمعانا، إلى جانب قارورات زيت صاف وأطباق البيض البلدي وشرائط التين الجبلي المجفف، وغيرها من ثمار الناحية حسب المواسم والفصول: مشمش وبرقوق وسفرجل وعنب وتوت وسنونو، رتبت كلها في سلل من قصب، وقفاف من دوم، تحملها في الصباحات الدافئة نساء القرى المجاورة إلى وزان لتعدن بعد بيعها بما تحتجنه من مؤن وألبسة. على هامش الثكنة، وبمحاذاة الفيلات التي ما زالت تحمل رموزا نصرانية، قبعت «دارنا» على جانب الطريق المتجه نحو «زومي» وغيرها من قرى جبالة ومدن الشمال، دار شبيهة بكوخ قصديري ما أعتقد أنه أعد أصلا ليسكنه بشر، جدرانه حجر، وسقفه قصدير بلغ منه الصدأ مبلغه، يحفه من الشرق سياج من قصب وأكوام حطب يابس، تتوسطها شجرة تين تظلل أغصانها المورقة، حين يأتي الربيع، فناء متربا. دارنا، كوخنا لا تتجاوز مساحته ستين مترا يؤثثها بيت للنوم و»كشينة» وبيت النظافة الذي بناه أبي بعد حلولنا بالمكان من طوب وبقايا لبنات. يطل باب المسكن على طريق بري مفتوح على حقول وبساتين على امتداد البصر، وتلال لم أكن ادري ما بعدها ولا لأتجرأ على استكشافها… كانت تبدو لي بعيدة، بعيدة …كانت تذكرني بتلال بني زروال حيث المولد والطفولة الأولى، وحنان الجدة فضيلة، ودفئ حضن بابا سيدي…تلك الطريق الضيقة والمتربة القادمة من عمق البراري، الخالية في أغلب الأيام، كانت لنا ولكل الجيران باب أرزاق لا تنضب. عبرها تتدفق صباح كل خميس أسراب القرويين والقرويات تحملن ويحملون ما جادت به حقولهم من خيرات، خضر وفواكه طازجة، طيور وخراف وأتياس، قرب لبن وأجبان المعز الناصعة البياض، وما إليها من عطاءات أرضنا الطيبة. صباح الخميس، قبل أن يلتحق أبي بالثكنة يناول أمي قدرا من المال، تمسك عليه بيدها اليسرى، وتجلس القرفصاء على عتبة بيتنا، تؤنسها خالتي فضيلة في انتظار قدوم من يبتعهما ما تيسر من بيض ودجاج وخضر وفاكهة الموسم، وكل ما توفر حسب الفصول والأيام، وفي حدود ما خصه الوالد لنفقة ذلك اليوم. كان كوخنا يجاور كوخا من نفس السعة وعلى نفس الشاكلة، يقطنه عمي عبد السلام وزوجته فضيلة مع ابنهما الوحيد آنذاك، وكانا الكوخان معا يتكئان على بناية أمتن وأرحب، شيدت كما الفيلات المجاورة على الطراز الأوربي، اختار لها رئيس الحامية العسكرية أن تكون مؤسسة لتعليم أبناء وبنات الجنود أثناء العطلة الصيفية، فتم إصلاحها وتجهيزها بما تقتضيه وظيفة التربية والتعليم التي عهد بها لضابط صف وسيم، ذكي، وعلى قدر كبير من الجدية والمعرفة باللغة الفرنسية، أذكر أنه الرقيب أول الحاتمي.
كان الفصل صيفا، وما أدراك ما صيف وزان، لاسيما إن كان سقف البيت حديد وكانت أسواره حجر… حر، وغبار، وقنط… ويزداد المرجل غليانا، والعرق من الجباه تدفقا، عندما تهب على المدينة ريح شرقية ضارية. حينها نلوذ بواد إسمنتي يشق وزان ذاك الزمن إلى شطرين، نلعب في مائه ونستظل بالشجيرات على ضفتيه منذ الزوال إلى أن يلف جبل «بوهلال» المدينة بظله، وقد أشرفت الشمس على الارتماء في جوف البحر. أجل كان الفصل صيفا لما سحبني أبي من متعة الساقية ومائها المنعش الدافق ليدخلني بدون مقدمات حجرة من حجرات المدرسة العسكرية، طالبا من مسيو الحاتمي أن يعتني بتعليمي اللغة الفرنسية وإعدادي لولوج قسم التحضيري الأول بداية الموسم الدراسي المقبل، وقد أوصاه بي «خيرا» إن أنا تهاونت في التحصيل أو أبديت بعض التبرم أو عدم الاهتمام. شرح المعلم لأبي أنه يشتغل مع صفوف متقدمة، ومع تلاميذ يكبرونني سنا ويتوفرون على رصيد لا بأس به في اللغة الفرنسية، وعليه، فأنا غير مؤهل لمسايرة الفصل. أصر أبي أن أتلقى نفس الدروس، وألح على ضابط الصف الشاب، الذي كان يكن لوالدي الفقيه كثيرا من الاحترام، أن يقبلني بين تلامذته …وكذلك كان.
عبد السلام الرجواني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 31 - 05 - 2017
كانت وزان بداية الستينات مدينة وديعة تتعانق في فضاءاتها الساحرة تجليات التحضر العريقة وسمات البداوة النافرة. تحفها شرقا ثكنة عسكرية تتخللها فيلات صغيرة بنيت على الطراز الأوربي، ومقبرة النصارى المسيجة التي زينت لحودها بعقيق نفيس ذي ألوان زاهية، وملعب لكرة القدم يكسو أرضيته بساط أخضر جذاب، إليه كان يصاحبني «الشويدي» أيام الآحاد لمشاهدة مباريات في كرة القدم…أولمبيك وزان يرفل لاعبوه في حلة بهية : أحمر فاقع وأخضر يانع وجوارب ناصعة… تتوسط المدينة دار الضمانة التي جعل منها الوزانيون مزارا للتبرك وملاذ للاحتماء من كل الآفات. قلب المدينة، امتدت ساحة كانت تبدو لي هائلة، هي بمثابة المركز التجاري النابض، حيث المحلات التجارية والمقاهي ونزل صغيرة بنوافذها الضيقة الزرقاء. وسط الساحة انتصبت منارة تعلوها ساعة لا يتوقف عقرباها عن الدوران ، يلاحق أكبرهما الأصغر بلا كلل، كما لو أنهما يحصيان أيام حيوات أهل المدينة قاطبة. تحيط بالساحة أحياء وزان بدروبها الضيقة والمبلطة، دروب نظيفة تزينها باقات ورد وأزهار زاهية، على جانبيها حوانيت تبيع كل شيء، لكن بكميات قليلة: قفاف زيتون حباته في ألوان الياقوت، تزيدها أنوار الصباح الدافقة لمعانا، إلى جانب قارورات زيت صاف وأطباق البيض البلدي وشرائط التين الجبلي المجفف، وغيرها من ثمار الناحية حسب المواسم والفصول: مشمش وبرقوق وسفرجل وعنب وتوت وسنونو، رتبت كلها في سلل من قصب، وقفاف من دوم، تحملها في الصباحات الدافئة نساء القرى المجاورة إلى وزان لتعدن بعد بيعها بما تحتجنه من مؤن وألبسة. على هامش الثكنة، وبمحاذاة الفيلات التي ما زالت تحمل رموزا نصرانية، قبعت «دارنا» على جانب الطريق المتجه نحو «زومي» وغيرها من قرى جبالة ومدن الشمال، دار شبيهة بكوخ قصديري ما أعتقد أنه أعد أصلا ليسكنه بشر، جدرانه حجر، وسقفه قصدير بلغ منه الصدأ مبلغه، يحفه من الشرق سياج من قصب وأكوام حطب يابس، تتوسطها شجرة تين تظلل أغصانها المورقة، حين يأتي الربيع، فناء متربا. دارنا، كوخنا لا تتجاوز مساحته ستين مترا يؤثثها بيت للنوم و»كشينة» وبيت النظافة الذي بناه أبي بعد حلولنا بالمكان من طوب وبقايا لبنات. يطل باب المسكن على طريق بري مفتوح على حقول وبساتين على امتداد البصر، وتلال لم أكن ادري ما بعدها ولا لأتجرأ على استكشافها… كانت تبدو لي بعيدة، بعيدة …كانت تذكرني بتلال بني زروال حيث المولد والطفولة الأولى، وحنان الجدة فضيلة، ودفئ حضن بابا سيدي…تلك الطريق الضيقة والمتربة القادمة من عمق البراري، الخالية في أغلب الأيام، كانت لنا ولكل الجيران باب أرزاق لا تنضب. عبرها تتدفق صباح كل خميس أسراب القرويين والقرويات تحملن ويحملون ما جادت به حقولهم من خيرات، خضر وفواكه طازجة، طيور وخراف وأتياس، قرب لبن وأجبان المعز الناصعة البياض، وما إليها من عطاءات أرضنا الطيبة. صباح الخميس، قبل أن يلتحق أبي بالثكنة يناول أمي قدرا من المال، تمسك عليه بيدها اليسرى، وتجلس القرفصاء على عتبة بيتنا، تؤنسها خالتي فضيلة في انتظار قدوم من يبتعهما ما تيسر من بيض ودجاج وخضر وفاكهة الموسم، وكل ما توفر حسب الفصول والأيام، وفي حدود ما خصه الوالد لنفقة ذلك اليوم. كان كوخنا يجاور كوخا من نفس السعة وعلى نفس الشاكلة، يقطنه عمي عبد السلام وزوجته فضيلة مع ابنهما الوحيد آنذاك، وكانا الكوخان معا يتكئان على بناية أمتن وأرحب، شيدت كما الفيلات المجاورة على الطراز الأوربي، اختار لها رئيس الحامية العسكرية أن تكون مؤسسة لتعليم أبناء وبنات الجنود أثناء العطلة الصيفية، فتم إصلاحها وتجهيزها بما تقتضيه وظيفة التربية والتعليم التي عهد بها لضابط صف وسيم، ذكي، وعلى قدر كبير من الجدية والمعرفة باللغة الفرنسية، أذكر أنه الرقيب أول الحاتمي.
كان الفصل صيفا، وما أدراك ما صيف وزان، لاسيما إن كان سقف البيت حديد وكانت أسواره حجر… حر، وغبار، وقنط… ويزداد المرجل غليانا، والعرق من الجباه تدفقا، عندما تهب على المدينة ريح شرقية ضارية. حينها نلوذ بواد إسمنتي يشق وزان ذاك الزمن إلى شطرين، نلعب في مائه ونستظل بالشجيرات على ضفتيه منذ الزوال إلى أن يلف جبل «بوهلال» المدينة بظله، وقد أشرفت الشمس على الارتماء في جوف البحر. أجل كان الفصل صيفا لما سحبني أبي من متعة الساقية ومائها المنعش الدافق ليدخلني بدون مقدمات حجرة من حجرات المدرسة العسكرية، طالبا من مسيو الحاتمي أن يعتني بتعليمي اللغة الفرنسية وإعدادي لولوج قسم التحضيري الأول بداية الموسم الدراسي المقبل، وقد أوصاه بي «خيرا» إن أنا تهاونت في التحصيل أو أبديت بعض التبرم أو عدم الاهتمام. شرح المعلم لأبي أنه يشتغل مع صفوف متقدمة، ومع تلاميذ يكبرونني سنا ويتوفرون على رصيد لا بأس به في اللغة الفرنسية، وعليه، فأنا غير مؤهل لمسايرة الفصل. أصر أبي أن أتلقى نفس الدروس، وألح على ضابط الصف الشاب، الذي كان يكن لوالدي الفقيه كثيرا من الاحترام، أن يقبلني بين تلامذته …وكذلك كان.
عبد السلام الرجواني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 31 - 05 - 2017