د. رسول محمَّد رسول - زمانية الترحال في رواية المهجر(1).. نص المحاضرة

رواية المهجر هي رواية الهُناك، لكن المسألة ليست مكانية فحسب إنما زمانية أيضاً، وكلاهما، وعندما يلتقي، سيتم إنتاج لحظة المعيش اليومي على نحو إبداعي متخيَّل، وهي لحظة تنتج ذاتها بقوام إنساني، وهذا يعني أن الهناك الإنساني تراه يخضع لمكانية وزمانية معينة تنتج بدورها لحظتها الخاصة بها على نحو ما، ومنه النحو المتخيَّل إبداعاً، فرواية المهجر التي يكتبها مبدعون مترحِّلون ليست رواية مكانية فقط إنما هي رواية زمانية أيضاً، وتلك جوانب من الهوية الوجودية والأنطولوجية والإبداعية لأي عمل يمكن أن نطلق عليه "رواية المهجر".

***
لمثل هذه الرواية "تأريخ" يخصها، وهو تأريخ أوصال ربما نجهله، وكل ما نعرفه أن مبدعين تلمسوا الكتابة خارج أوطانهم اليي لهم، ما يعني أنهم انزاحوا أنطولوجياً من حيث المكان والزمان لكتابة قولهم الإبداعي، خصوصاً في مراحل عصيبة يمرون بها أو تمرّ بها أوطانهم، وذلك ما يجري وما زال في وطننا العربي الكبير صاحب الهزائم والإزاحات الكبرى شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، لكنّه الصوت الإنساني غالباً ما يقول لنا إن الهمَّ البشري يبدو واحداً سواء أدلقته في وطنك أم خارجه،؛ إلا أن الكتابة من داخل الوطن تبقى مختلفة عن نظيرتها من خارجه في ناحيتيها الخطابية (الموضوعاتية) والجمالية = (الأسلوبية).
في العراق الحديث، نجد تأريخاً من هجرات المبدعين عن مكانية وزمانية هذا الوطن المعذَّب؛ في مطالع سبعينيات القرن الماضي في أقل تقدير ممكن، وفي خلال ثمانينياته، وكذلك تسعينياته، وما بعدها من سنوات، كان رحيل المبدعين صوب مناف عدَّة ظاهرة تطواف بشري مروع، خصوصاً أولئك الذين يكتبون السَّرد من المبدعين (رواية، قصَّة قصيرة، أقصوصة، مسرحية). أما مرحلة ما بعد عام 2003 فقد شهدت انقلاباً جذرياً في الكتابة من خارج الوطن حتى وجدنا أنفسنا بصدد تأريخ جديد لرواية المهجر (العراقية) كما هو الشأن في بلدان عربية أخرى.
***
في الكتابة الإبداعية، ولأنّها من نمط التعبير عن الهمِّ الإنساني، تراها محكومة بشرطي المكان والزمان، وكلاهما يدلي بصوته فيها. وعلى صعيد التجربة الذاتية كتبتُ ثلاثة نصوص روائية من خارج وطني هي الوحيدة لي حتى اللحظة؛ رواية (بنات الزعفران) عام 2011، ونصها ما زال في درج الحفظ، ورواية (يحدُث في بغداد) صدرت في القاهرة عام 2014 بطبعتين، ورواية (غجرية) وهي ما زالت قيد النشر.
من منظوري الخاص، اعتقد بأنها روايات مهجر، فالكتابة فيها شرفة على وطن الذوات المشاركة في أحداثها، لكن (يحدث في بغداد)( 2) ما جاء الخارجُ فيها إلا كتضمين للذات الكاتبة التي تعيش خارج الوطن، أما هذا الأخير، أي الوطن، فكان صلب مجراها الحكائي وخطابها الفكري والفلسفي، وذلك ما تقوله الأحداث، فكل الذوات المشاركة فيها تتحرّك داخل وطن مفجوع بالخراب، وكل الذوات أيضاً تبدو ضحية لفداحة ذلك التفجُّع الشامل حيث بدت الذوات تتهاوى كما الوطن إلى مصير مجهول سوى هوية الموت المعلومة التي تضع حداً يقينياً لكل ما يجري فيه.
في رواية (يحدث في بغداد) بدت الذات الكاتبة المهاجرة تصغي إلى صوت الوطن، فما كانت مهاجرة بالمطلق لتعيش وحدتها المنفصلة عن وطن تحترق أوصاله، كان الوطن يُلاحقها لا لدَين مادي أو أخلاقي قيمي عابر، إنما لصوت المصير فيه؛ فالأوطان لا تتخلى عن أبنائها، ولعله الوهم من كان يعتقدُ بأن من هجر الوطن انتهى من الحبل السري الذي يربطه به، وهو حبل وجودي مصيري، فلكل وطن نداء، وهذا النداء يجري في زمن، وذلك ما لا يمكن التخلُّص منه بمجرَّد الرحيل المكاني، إنه العبء المصيري الذي لا فكاك عنه ومنه في آن واحد.
في هذه الرواية ما كانت الذات الكاتبة تتدخَّل في مجرى الحدث؛ فالروائي وبوصفه ذاتاً من خارج الحكي، ليس شريكاً فيه، بل الكائن هناك زمانياً في صلب لحظة العيش داخل الوطن سوى الكتابة فيه وعنه ولكن من خارجه مكانياً، وهذا يعني أن "الخارج" أو ما أريد أن أقوله هنا: إن الخارج هو شرفة الداخل التي تحترق، لكنها "الشرفة" التي انزاحت مكانياً فقط، أما الزمان فقد بقي هو ذاته زمان الوطن الذي يلاحق الذات الكاتبة كنداء وجودي مصيري لا مهرب من شأنه.
بدت رواية (يحدث في بغداد) حكاية مثقف مُورس عليه الموت الرمزي قبل البيولوجي عندما تم سرقة فصول من روايته الأخيرة "ينحني الصابر للوجع" قبيل موته، وتلك زمانية المثقف المهدور مصيره في بلاد يغزوها الإرهاب الأعمى من كل صوب. كان الموت الرمزي للمثقف، كما الموت الفعلي أو الحقيقي له، يمثل دالاً على زمانية الخوف المروِّع.
في تلك الرواية ما كان المبنى السَّردي يستكين عند كتابة تقليدية معينة، بل آثر الاختلاف عندما لجأ إلى نمط "السَّرد المفتون بذاته"(3 )؛ رواية داخل رواية أو رواية "ينحني الصابر للوجع" في رواية (يحدُث في بغداد)، ما يعني أن زمانية السَّرد غير الحدثية هي زمانية الاختلاف؛ ألم نقرأ، ومنذ الصبا، بأن "لكل مقام مقال"؟
***
في الرواية الثالثة (غجرية)(4)، تحضر حكاية "أسماء يوسُف"، الأنثى العراقية المعاقة المهاجرة عن وطن دمرته صواريخ الغرب والشرق الآثمة. في (غجرية) ليس فقط بطلة قصتها مهاجرة بل الذات الكاتبة فيها مهاجرة أيضاً، وههنا تصبح الكتابة عن رواية مزدوجة الهجرة، حكاية "ذات أنثوية مهاجرة" وحكاية "ذات كاتبة مهاجرة"، إنه التطواف البشري مزدوج الحال والمآل تدلقه الكتابة الإبداعية سردا.
وههنا أيضاً للزمانية نمط حضور خاص بها؛ فالحروب التي أصبحت شائعة في كل مكان بوطننا العربي؛ حيث الموت المجاني، وخراب المدن، وحرائق البيوت، وتدمير المدارس والمشافي، وتحطيم الإسفلت المنخور في شوارع المدن، والخوف والقلق والمصير المجهول لدى البشر، كل تلك الصور الوجودية التدميرية تؤدِّي إلى دفع الإنسان نحو الهجرة عن أوطان خربة؛ فهذه الرواية هي سردية الهناك مكانياً، لكنه الهُناك المترحِّل، إنه الحدث وقد امتدَّ مكانياً، أما زمانيته فهي تستمر بين داخل طارد للذات المشاركة في الحدث، وكذلك للذات الكاتبة في آن واحد، وبين خارج يحتوي ويُضاعف الاحتواء مراراً في زمنية تتقافز على سطوحها الوجودية مصائر الذوات المهاجرة من الهناك إلى الهنا، ومن الهنا إلى الهناك، إنه التداخل القلق.
ما كانت رواية (غجرية) جربت الكتابة بنمط "السَّرد المفتون بذاته"، بل بقيت تحكي أرخبيل الوجع الإنساني الأنثوي المهاجر من مدينة البصرة إلى عمّان إلى طنجة إلى أبوظبي نحو باريس في نهاية المطاف.
في (غجرية)، لجأت إلى الاستذكار، استذكار ما جرى هناك في وطن يحترق عبر كتابة البطلة رسائل إلى والديها وقد رحلا من ذي قبل عن دار الدنيا وما أدركا حرائق المدن وموت الناس فيها دون عذر، تلك المدن المحروقة التي قال عنها الشاعر العراقي مؤيد الراوي:
"يتجوُّل فيها المارّة
جثثتاً منزوعة من جلودها
دون أقدام"( 5).
في (غجرية) لم يمض السَّرد كطريقة جمالية في التعبير أيضاً على مزاجه التقليدي؛ ففي نهاية المتن الحكائي، ينفلت السَّرد عن قوامه، تخرج البطلة لتخاطب "الراوي" الذي كان على مدى دروب السَّرد من خارجه، تخاطبه في محاولة لإشراكه في دوّامة الحدث، تطلب منه أن يتوقف عن الروي؛ فالحكاية وقد انتهت، وموسم الرحيل إلى ضفاف أخرى ها هو يبدأ، بل ما عاد للروائي ورفاقه من سبب للوجود، فكلنا نعيش المصير، كلنا أصبحنا حكاية للهجرة والترحال والتهجير والإبعاد في طواف واغتراب كوني، كلنا نعيش ذلك بزمانية التطواف الغجري.
في هذه الرواية، والتي يمكن وصفها برواية المهاجر والمنافي، ما عادت الذات الأنثوية العربية سوى تلك المرأة الغجرية التي لا وطن لها إلا الترحال الدائم، وطنها الواصب هو الترحال، وقد تحطُّ بهودجها في تلك الصحراء أو غيرها، لكنّها أبداً تعرف الاستمكان المستقر؛ فللذات المترحِّلة في كل صيف خيمة، ولها في كل شتاء موقد رملي وحطب ونار، أما وطن الاستقرار فقد بات الحلم العُريان الهارب منها أبداً نحو أعالي الضياع المراوغ. وتلك زمانيات الذوات المهاجرة حيث مصائر الترحال الخائب نحو سراب التطواف المر ودُغشة الأمل الغَلَس حتى لتبدوا حيواتها مجرَّد أنهار مجرورة إلى ما لا نهاية.



إحالات
ـــــــــــــــــ
1 . شاركت هذه الورقة في (ملتقى الشارقة للسَّرد) الدورة 13، الشارقة، 18 – 20 أيلول/ سبتمبر 2016.
2 . د. رسول محمَّد رسول: يحدُث في بغداد، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط 1 + ط 2، 2014.
3 . انظر كتابنا: (د. رسول محمَّد رسول: السَّرد المفتون بذاته.. من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2015). وأقصد بالسَّرد المفتون بذاته، وبحسب ما ورد في كتابي أعلاه: "وجود إبداعي متخيَّل وقد تحوَّلت كينونته المحضة أو الأساسية إلى موضوعة حكائية من خلال تمفصلها في مسالك أجناسية جمالية حكائية كالقصَّص والروايات والمسرحيات، تلك التي تتضمَّن حكاية تالية أو حكايات داخل حكاية كبرى يدخل فيها معمار الكتابة، وأحوال الكاتب، والقارئ، والمقروء، والناقد، والناص أو المؤلِّف، والناشر والنشر والمنشور، والمخطوطات، والملفات، والرسائل، والمظاريف، والصور الفوتوغرافية، واللوحات التشكيلية، كفواعل وعوامل مسرودة في عمل إبداعي متخيَّل وممهور بعنوان مركزي هو عنوان لقصَّة أو رواية أو مسرحية". ص 7.
4. رسول محمد رسول: غجرية، (مخطوط).
5 مؤيد الراوي: سرد المفردة، (ديوان شعر)، قصيدة "الشمس غاربة"، ص 112، دار الجمل، بيروت، 2016.

د. رسول محمَّد رسول



- ملتقى الشارقة للسَّرد "الرواية العربية في المهجر"
الدورة 13/ 18- 20/ سبتمبر/ 2016 -- الرواية العربية في المهجر



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى