أوكتاي أكبال - أناس بلا حُب.. ترجمتها عن التركية : مي عاشور

عشتُ لوقت طويل دون حب، لم يكن بسبب وجود طقس مطير ولا لكونه فصل الخريف، لكن فقط لأنني كُنت قد تحررت من حب قديم، وعجزت عن بدء حب آخر جديد. كان الحب بالنسبة لي عادة قديمة. في وقت من الأوقات كان يتملكني فضول لمعرفة كيف يعيش إنسان بلا حب، وكيف يأكل، وكيف يتجول، وفيم يفكر. على كل حال فهذا الإنسان لا يتجول ملاحقًا خياله في ظلال شوارع المدينة مترامية الأطراف، وكذلك لا يشاهد بائعي الفاكهة والخضروات من أعلى جسر(1)أونكاباني“، ولا يهوى التسكع في المتنزهات، ويكره الأفلام الرومانسية، ولكنه شخص مدرك واع، دائمًا ما يركض مسرعًا في الشوارع، ويزحم الترامات ويملؤها، ولا يتصدق على الأطفال العارية أقدامهم. لم يكن يعرف أي شيء سوى أن يعيش فقط لنفسه.

قابلت هؤلاء الناس الفارغة قلوبهم من العشق مرات عديدة؛ في محطة ترام أو عندما كنت أحاول إشعال سيجارتي وأنا أقف في مفترق طريق منتظراً أن يلوح شخص ما. كانت وجوههم جميعًا متجهمة، وكانوا ينقضّون على الترام القادم، ويلكزون الناس، ويسبونهم، لم يكونوا ينظرون إلى أفيشات السينمات، ولا إلى صور عاشقين يتبادلان القبلات.

بينما كانت تمر السيارات رائحة غادية، وتصدر “الأتومبيلات” صخبًا وضجيجًا، والناس يهرولون، كنت منغمساً في التفكير بهؤلاء الخاوية قلوبهم، الذين لا يُعثر عليهم مشعثي الشعر، ولا تبصر أحلامهم الضوء، ولا تلمح ذكرياتهم وجهًا منيرًا، ولا تعرف شفاههم رسم الابتسامة.

أحيانًا كانت تأتي عيني في عين شخص لطيف يضع يديه في جيبه ولا يرتدي قبعة، مقروء على ملامح وجهه الابتهاج، تبادلنا النظر كشخصين يألف كل منهما الآخر، وكأنني كنت أعرفه منذ سنوات طوال، وفضفض كلانا للآخر، وتجاذبنا أطراف الحديث معًا على دكة مطلة على البحر في حديقة (2)غول خانة. وكذلك كنت أؤمن بمعرفته للدروب الخاوية الطويلة التي تتداعى فيها الأفكار، وأنسب الزوايا للإفصاح عما يجثم على صدر الإنسان من ضيق، والأماكن التي تتسع للتسكع. تمامًا في هذه اللحظة كان يتدلى رأس أشقر من نافذة، فيما امرأة تنادي على أخرى من الشرفة، وشاب يافع يمر إلى جواري مدندنًا بأغنيته. كانت عيناي ترنوان صوب منعطف الزقاق، أطفأت سيجارتي ومشيت خطوتين. لم أكن آبه لو اصطدم شخص بكتفي، كنت أفيض بالحب، وكذلك كان هناك أناس مثلي في هذه الدنيا، وكان هؤلاء هم من سيجملون الأرض. يتطلع الشخص المُحب للناس والذين يهتمون بضحكته، بكائه وخطواته من ساكني الأرض، إلى أن تكون هذه الدنيا أفضل.

على الأرجح أن هذه الخيالات كانت تُنسج عند الغسق، وكذلك هو موعد خروج الناس من أشغالهم، ووقت مغادرة المدارس، وفي هذه الساعات أيضاً كنت أميز بين الذين يفيضون عشقًا والخالية قلوبهم من الحب. يمكن أن ينخدع الإنسان مرات كثيرة، ولكن ما أعتقده أنني لم أُخدع قط. فإن الشخص العاشق يُعرف أفضل من الأخرين: هذا الشخص الذي يسير في حاله ورأسه منخفض نحو الأرض قد تحرر لتوه من حب ما، وتلك الفتاة التي تجرى وتلوح الشنطة بيدها لا تعرف الحب أبداً، وهذا الذي نسي الصفير والذي تتساءل سينمات (3)بيغلو” عن أحواله، كم مرة عاش حكواتي مشهور مغامرة ذلك الشخص الذي يشتري سجائر، وهؤلاء الذين يلعبون النرد في هذا المقهى ويتحدون الحظ مع كل رمية زهر، والذين يبدو عليهم أنهم يعرفون الحب، وهذا الطالب الذي ينتظر شخصاً، وذاك الذي يمضي قدمًا في الطريق قد تعلم الحب من الروايات والأفلام، والآخر الذي لا يتذكر مطلقاً.

كانت النساء والأطفال والناس الخاوية قلوبهم من الحب يظهرون من منعطف الزقاق، ولكنها لم تكن تظهر. في بعض الأحيان كانت تلوح بمعطف أخضر. كانت تأتي إلى جواري، فتسري قشعريرة في جسدي، وكأنما أُفرغت بسرعة ماء مجمد بداخلي. كنا نمشي في ظلال الأشجار، كنت أصمت، وكانت تتكلم. فتنقشع فجأة الغيوم التي تتزاحم في السماء، ويتوقف رذاذ المطر المتساقط، وتشق الشمس السحب ساطعة. كانت تفيض بداخلي أحاسيس ومشاعر جديدة، في كل خطوة كنا نخطوها جنبا إلى جنب. كانت السيارات تمضي، والناس تنظر، والذين يعرفونها يغمزون إليها، ويسلمون عليها. لكن كان الدرب ينتهي أسرع من المعتاد، كما أنني في هذه اللحظات القصيرة أشفقت على الناس الخالية قلوبهم من الحب. كان ينقضي الشتاء هكذا، ويأتي الربيع، وكانت تُرمى المعاطف، وكنت أخرج إلى الشارع بالجاكيت، وكانت هي والنساء والفتيات يتجولن دون أن يرتدين جوارب. بدأت الرياح في الهبوب بشكل أخف وأكثر عذوبة، فنورت نظرات الفتيات، أما نظراتها فكانت تتلألأ. كانت تتكلم دائمًا بسرعة، وتحكي لي عن حبيبها القديم، فكنت أحاول الابتسام.

ثم مضت الشهور، وتبدلت الفصول مرات عدة، ارتُديت المعاطف من جديد، وكذلك نحيت جانبًا من جديد. حتى جاء يوم، بدأت تظهر لي السماء فيه أكثر قتامة، والمطر أكثر ثقلا على النفس، والأزقة بلا جدوى. لم تكن منعطفات الشوارع تحكي لي شيئًا، ولا تفيد ملصقات الأفلام بأي معنى. لم أكن آبه إطلاقًا بالناس الباسمين أو المتجهمين، حتى بدا لي كل من دكك الحديقة، والطرق الممتدة الخاوية، والمتسكعين ليلاً على الجسر كمنام رأيته قديمًا وأتذكره بشكل ضبابي. بل صارت السجائر بلا طعم، والمياه مرة، والأحلام في منتهى الفوضى. كانت أيامي تمضي في لعب الورق والنَرد بالمقاهي الحارة والتي تعج بالضجيج، ولم يكن أي شيء آخر يعنيني.

وذات غسق بينما كنت أمر في أكثر شوارع المدينة ازدحامًا، عرفتني واجهة محل للمرة الأولى بشخص بلا حب. كان واحداً بلا حلم، ولا أمل، ولا تطلعات، قاطباً جبينه، والابتسامة لا أثر لها على شفتيه؛ كان هذا الشخص هو أنا. باتت كل الأغاني غريبة علي، وأصبحت عدواً لقصائد الحب، وكنت أقول أن المتنزهات للمتشردين والمتسكعين، وأن نسج الأحلام مخصص للعاطلين.

……………
(1) جسر أونكاباني: جسر باسطنبول معروف أيضًا بجسر أتاتورك.
(2) حديقة غول خانة: تعد من أقدم الحدائق التارخية في اسطنبول وأجملها، وكانت حديقة خاصة بالسلاطين وجزء من الحديقة الخارجية لقصر توب كابي.
(3) بيغلو: اسم منطقة باسطنبول تقع في الجزء الأوروبي.


***
* أوكتاي أكبال (1923 -2015):أديب، وروائي وكاتب صحافي، من كبار كتاب القصة القصيرة في تركيا، ويقال إنه من أهم كتاب القصة القصيرة بعد الكاتبين الكبيرين سعيد فائق وصباح الدين علي. ولد في اسطنبول، درس أوكتاي في كلية الحقوق وكلية الآداب بجامعة اسطنبول، ولكنه لم يكمل دراسته في أي منهما، ليتفرغ للكتابة. عمل في عدة صحف مهمة، ومنها مجلة ثروة الفنون، وعمل مترجمًا في مكتب الترجمة التابع لوزارة التعليم.




* منقول عن:
Tumblr

أوكتاي أكبال.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى