د. محمد عبدالله القواسمة - الشاعر والأم في تجربة السجن

أي مشاعر تعتري الشاعر حين يلتقي أمه في السجن؟ وهو بالتأكيد أدخل السجن من أجل قضية عادلة. ربما تتعلق بموقف أو عمل رافض لما يقوم به الطغاة. أو ربما لقصيدة غاضبة على واقع سيئ لم ترق لذوي السلطان. أي أفكار تسيطر على عقل الشاعر وهو يرى تلك المرأة التي كان جزءًا منها قبل أن يأتي إلى الحياة تزوره؛ لتقدم له جرعات من الصمود، وتعينه على تحدي السجان، وتوحي له بمستقبل أجمل وحياة طليقة؟ أي أحلام تداعب قلب الشاعر وهو يشاهد أمه تتزاحم أمام القضبان حاملة ما يحبه من طعام، وما يحتاج إليه من أدوات الكتابة؟ أي ذكريات تداعب مخيلة الشاعر السجين وهو لا يقدر على أن يلامس يدي أمه، أو ويتعلق بثوبها؟

كانت الأم في حياة كثيرين من الشعراء عنصرًا أساسيًا في تجارب عايشوها في السجن، انعكس هذا ليس على ما سطروه من آيات الصمود في مواجهة ظروف السجن وآلام الاعتقال بل أيضًا في ما أبدعوه من شعر ونثر في زنازين الطغاة.

تواجهنا من هذه التجارب تجربة الشاعر التركي ناظم حكمت (1902- 1963م) فقد زج به في السجن ثلاث عشرة سنة لمعارضته نظام كمال أتاتورك. فيروي زميله في السجن علي البرجاوي في كتابه" مع ناظم حكمت في سجنه، مذكرات لبناني زامل الشاعر في سجن بورصة"، والذي ترجمه من الفرنسية إلى العربية زهير السعداوي، ونشرته دار ابن خلدون في بيروت عام 1980م أن أم الشاعر جليلة وزوجته منور كانتا تزورانه في سجنه، وتكتبان الرسائل إليه، وكانت أمه مغرمة بفن الرسم فتدخل في نقاش معه عن مفهوم الفن والمذاهب الفنية، وينتهي النقاش بأن يقرأ لها بعض أشعاره، حينئذ تصمت وتدمع عيناها.

من القصائد التي يذكر فيها الشاعر ناظم حكمت أمه ما جاء في قصيدة "الواحدة صباحًا" من ديوانه "أغنيات المنفى" بترجمة عمير الأحمر.

على مفرش الطاولة الأزرق
ها هي كتبنا واقفة
وعلى أغلفتها ترتسمُ
ابتسامة صريحةٌ شجاعة.
وها أنا قد عدتُ
من الأسر يا أمي
عدتُ من قلعة العدو
القابعة في بلادي.
الساعة الواحدة صباحاً
ولم نطفئ المصباح بعد.
وترقد بجانبي زوجتي
حاملٌ بشهرها الخامس"

وإذا كانت الفرصة أتيحت لناظم حكمت أن يلتقي أمه في السجن، ويدخل معها في نقاشات حول الفن ومدارسه فإن تجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش في لقاء أمه حورية في السجن مختلفة، ففي ذات زيارة جاءت إليه في سجن الرملة وهي تحمل الخبز والقهوة وقيل إن شرطي الاحتلال سكب كوب القهوة على الأرض. وبعد الزيارة كتب قصيدته "أحن إلى أمي" كتبها على ورق الألمونيوم الذي تُغلف به علب السجائر؛ فلم يكن مسموحًا بإدخال الأوراق إلى السجن. لقد قرر أن يعتذر لها عن عقدة كانت تلازمه منذ الطفولة من أنها كانت تهتم بإخوانه أكثر منه؛ فكان ينقصه التدليل والاهتمام؛ لأن ترتيبه الثاني بينهم. يقول:" ولما انصرفت لم أجد أجمل من الاعتذار لها إلا بكتابة القصيدة، اعتذار عن ظلمي لها سنوات لم أكن أفهمها كما ينبغي أن يفهم الأبناء أمهاتهم".

نقرأ من قصيدة " أحن إلى خبز أمي" التي يغنيها الفنان مارسيل خليفة:

أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي ..
ولمسة أمي ..
وتكبُر في الطفولة
يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري لأني
إذا مت،
أخجل من دمع أمي!

ومن التجارب الشعرية في لقاء الأم في السجن نواجه تجربة الشاعر الفلسطيني باسم خندقجي الذي مازال في سجون الاحتلال الإسرائيلي. في ديوانه "أنفاس قصيدة ليلية" 2014م يتردد ذكر الأم والأب في قصائد كثيرة، لا نلمس فيها خوف الشاعر على أمه وشوقه إلى رؤيتها فقط بل نلمس فيها أيضًا التشبث بالأم بوصفها مصدر صموده وارتباطه بقضيته، كما نقرأ في قصيدة "مكاشفة":

تحملُ ما فيكَ على ما فيك وتسي
لا السِتْرُ يُخيفكَ ولا تُخْفيكَ الجُدُرْ ..
تتشَظّى ..
ينالُكَ الغبارُ ولا تَتبدَّدْ لا تزول ..
تُعيدُ التراكيبَ إلى الجسد :
وردة مطر ..
معنى قمر
أغنية حجر ..
أُمّك شجر ..
أبوك قدر ..
ولا تزول ..
هذا معناك والعبءُ كلّه كلّهُ لك ..

هكذا، فإن لقاء الشاعر بأمه أكثر إيلامًا وأشد وطأة على نفسه مما يحس به الذين عانوا من تجربة السجن ولقاء أمهاتهم بها. إن الشاعر أشد من غيره حساسية لما يجرى حوله، وأكثر تعلقًا بأمه. إن رؤية الأم في السجن أو مجرد تذكرها تجعل قلب الشاعر يشع بالأمل، وروحه تمتلئ بالكبرياء؛ فهذه الإنسانة التي أمدته بأسباب الحياة وهو جنين في أحشائها ما زالت تمده بأسبابها وهو في السجن. إنها لم تمنحه أسباب الحياة فقط بل لغته الشعرية وأحلامه وآماله أيضًا. ولعل هذه الأهمية للأم في حياة الشاعر تجعلنا نتفهم الشاعر المهجري رشيد سليم الخوري الملقب بـ (الشاعر القروي) عندما يتناص مع الطقوس المسيحية في الصلاة ليقول:

غلطنا حين صلينا (أبانا) = كما قالوا لنا فالله أم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى