محمد الطايع - الحارس..

في الطريق إلى القصر، لم أتكلم، على عكس رئيسي الذي لم يتوقف عن الكلام، وهو يقود السيارة بعصبية، كلما تدخلت زوجته الجميلة التي تجلس بجانبه لكي تغير الموضوع، يتجاهلها، كما فعل عندما أشارت إلى امرأة مشردة، قائلة: بعدما حرمها زوجها من أبنائها جنت المسكينة وهامت على الطرقات..
بجانبي يجلس طفلهما الجميل المؤدب، لايبتسم ولا يتكلم، اذ لم يكن أبواه يسمحان له بالالتفات يمنة ولايسرة، وكأنهما اختطفاه من إحدى دور الحضانة..
إنه كما يقول المصريون: ( الكل في الكل ) بهذه الجملة، اختصر رئيسي تعريفه لصاحب القصر الذي تم اختياري للعمل حارسا على بوابته..
- اسمع يا محمد، إن رضي عنك هذا الرجل، ثم اتصل بنا من أجل المزيد من الحراس، فما أكثر متاجره ومصانعه وورشاته، إن هو فعل ذلك، والله الذي لارب سواه، سوف أرقيك وأضاعف أجرتك.
بهدوء تبعته نحو بوابة القصر، وهو يسبقني بخطى واسعة تكشف عن مدى حماسه، ضغط على جرس البوابة مرات عديدة، دون أن يتلقى إجابة، فما كان منه إلا أن أشار علي بدخول غرفة الحارس الخشبية المركونة تحت أغصان شجرة عملاقة، ترخي أذرعها الخضراء، فوق السور العظيم، ثم طلب مني البدأ في العمل..
بعد لحظات، كنت هناك لوحدي، لا أعرف ما الذي سوف أفعله تحديدا، وبعد ساعتين، فتحت البوابة الحديدية العملاقة، فكشفت عن وجود رجلين أحدهما نحيف مسن، والثاني شاب مفتول العضلات، وقبل أن أبادرهما بالكلام، أقبلت نحو المدخل سيارة سوداء ضخمة رباعية الدفع، ثم توقفت ليكشف زجاجها النازل، عن وجه رجل شديد الوقار والوسامة، يناهز عمره الستين عاما، تأملني بعيون آلية، ثم أومأ إلي بالاقتراب..
- أنت الحارس الجديد..؟
- نعم سيدي..
- أعانك الله. قالها ثم حجب وجهه عني زجاج السيارة، التي اختفت بسرعة تحت غابة كثيفة الأشجار، تفصل مدخل القصر عن مقصوراته..
حسنا كانت هذه لحظة الاتصال الأولى، ثم هاتفت رئسي..
- أخبرني يا محمد، هل كلمته؟ هل سألك عني؟ هل أخبرك بمهمتك؟
- لا.. لم يفعل..
- حسنا.. أعرف أنك ذكي، ما الذي استنتجته من نظراته؟
- لاشيء..
- المهم.. لابأس.. انتبه جيدا، مادام لم يطردك، فهذا معناه أن مظهرك أعجبه، اسمع يامحمد، إياك أن تهمل لحيتك، أو ملابسك، غدا صباحا أعطيك بذلات أخرى..
في مساء اليوم الثاني، وفي نفس الموعد تماما، فتحت البوابة، وظهر الرجلان، ثم حضر مالك المكان، هذه المرة أنا الذي اعترضت سبيله..
- أرجوك سيدي، هلا سمحت لي أن أترك حقيبة ملابسي وطعامي، عند الحارس بالداخل..
وجهه لم يقل شيئا، لكنه حرك رأسه بالنفي، ثم غاب..
في اليوم الثالث، أوقفته مرة أخرى..
- سيدي، أنت تعرف لابد للواحد منا من قضاء حاجته، وووو
الرفض.. كان جوابه، وبعد منتصف الليل، اضطررت للتبول تحت الأغصان المتدلية على سور القصر.. بينما قررت عدم الإكثار من الأكل قبل المجيء إلى هذا المكان.. في الأيام المقبلة
- أخبرني يامحمد، ما الذي تفعله تحديدا؟ لابد أنهم كلفوك بتدوين أرقام سيارات الضيوف في سجلات..
- لا.. ثمة حارس يقوم بهذه المهمة..
- إذن، أنت من يفتح البوابة ويغلقها..
- لا.. هناك حارسان مكلفان بهذا الأمر..
- عجيب!! ألم يطلبوا منك فعل أي شيء لحد الآن؟!
- لاشيء..
بعد مرور شهر، زارني المراقب، قرابة الثالثة فجرا، فوجدني على الرصيف القريب من موقع عملي، فتبسم راضيا، ثم ترجل من سيارته..
- أنت أكثر الحراس كفاءة في شركتنا..
- شكرا سيدي..
- منذ اشتغلت معنا، لم تسجل ضدك أي مخالفة أو إهمال، هل تصدق أنت الوحيد من بين كل الحراس الذي لم يسبق لنا العثور عليه نائما..
- نعم سيدي، أنا أعاني أرقا طويلا، حتى أنني أحسد الاشخاص الذين ينامون..
- أخبرني الرئيس أنك في عيد الاضحى السابق، اشتغلت دواما لثلاثة أيام، كيف تفعل ذلك؟
- إنها عملية بسيطة جدا، أنا لا أفكر، ومن لايفكر لاينام..
- غريب! كنت أظن كثرة التفكير هي التي تسبب الأرق..
ثم توالت الليلات، وفي هذا الموقع بالتحديد، ليس هناك حارس بديل، أحضر في تمام السابعة مساء، وعند السابعة صباحا، أغادر..
أمام القصر، ملهى ليلي.. وتلك كانت فرصة جيدة للتفرج على السكارى، وحماقاتهم، وجموح العاهرات، لكنني كنت أشبه تمثال الأمير السعيد، فلاشيء يربطني بهم، سوى المشاهدة.. اللهم بعض المصادمات البسيطة، والتي فصلت في ذكرها من خلال قصة سابقة، بعنوان ( القطة)
ذات مساء، ارتفع صوت الموسيقى صاخبا من قلب الملهى، بشكل غير مألوف، فلما حضر صاحب القصر، توقف أمامي، أنزل زجاج سيارته، دنوت منه، فقال:
- اذهب اليهم، وانظر إن كانت حلفة عرس.. أم حفلة أصدقاء..
بعد دقائق قليلة رجعت إليه..
- حفلة أصدقاء سيدي.
تبسم الرجل مثل ملاك أسطوري، ثم دخل منزله. بعد ربع ساعة، امتلأ المكان بسيارات الشرطة، ثم عم الصمت..
وفي اليوم الموالي، توقف قبالتي، ثم قال ببراءة طفل:
- أرأيت؟ أنا الأعلى سلطة في هذه الأنحاء..
تبسمت ولم أعلق بشيء، وفي صباح الغد، كلمني الحارس الضخم لأول مرة، ثم أخبرني أن بإمكاني، استمعال المرحاض، وتناول وجبات عشاء وإفطار، بالداخل، والحصول على فنجان قهوة، فماكان مني إلا أن حملت البشرى لرئيسي..
- حقا؟ هنيئا لك.. الآن سوف توفر الكثير من النقود، أخبرني هل كلفك بمهمة ما؟
- لا.. مازلت كما أنا.. أقضي الليل، أتفرج على الغواني، وأشكرهن على لطفهن معي، وهن يقدمن لي زجاجات البيرة، وعلب السجائر، وثمة سيدة محترمة جدا، تدخل القصر كل مساء، أعتقد أنها مديرة أعمال الحاج، بالأمس قدمت لي علبة تين من النوع الفاخر، وهي تقول:
لايمكن ألا اقدم لك شيئا أيها الوسيم البائس.. في كل مرة تدخل القصر، تقدم لي نقودا، وثمة فتاة شقراء تركب سيارة بيضاء جميلة، تبتسم لي ابتسامة عاشقة، لكنني خيبت ظنها بي، حين طلبت مني الركوب إلى جانبها، فاعترضت بدعوى أنني أعمل، لكنها ضحكت.. مرددة:
- لا أراك تفعل أي شيء..
- محمد يامحمد..
- نعم أخي..
- لاتنس أنني رئيسك، ولست صديقك، كيف تجرؤ على إخباري بمثل هذه الأمور..؟
- ليس لدي في هذه المدينة شخص آخر أخبره بهذه الأحداث التافهة..
ثم تمر الشهور، مطر ثم شمس، صخب ثم صمت، ثم ثرثرة مع الحارسين، وكان رئسيي يوصيني أن أجمع أكثر كم من المعلومات عن صاحب القصر، معلومات تيسر له المزيد من التقرب منه، والاستفادة من نعمه.. طموحه الزائد، يلزمه بالكثير من الخداع والتجسس والتآمر، وكم شعرت بالخيبة عندما أخبرتني الشقراء، أنها شاهدت رجالا يلبسون مثل بذلتي هذه، يقفون على ورشات الحاج ومتاجره، وقتها عرفت أن شركة الحراسة حيث أعمل، أصبحت مضرب المثل في جودة المنتج الآدمي، وكم أحزنني قولها، أن السيد لم يكن يقبل بأي حارس، لايشبهني، في أناقتي ووسامتي، صمتي وإطاعتي للأوامر..
في ليلة عيد الأضحى، بعد مرور عام على الوقوف هناك.. طلبت من رئسي أن يمنحني بعضا من وقته، فكان لقاؤنا في المقهى الذي يفضله..
- ماذا هناك؟ ماذا تريد؟
- أريد المغادرة..
- لماذا؟ ما الذي أزعجك؟
- أزعجني صاحب القصر..
- ومن أنت لتنزعج من رجل مثله؟
- أنا محمد الحارس..
- ومن محمد الحارس هذا؟ أنت مجرد نكرة يا صديقي.. أخبرني ماذا هناك؟
- حسنا، قبل أن أغادر، سوف أفي بوعدي، وأقدم لك تقريرا مفصلا عن ذلك السيد العظيم..
- هل لديك نسخة مكتوبة؟
- لا سيدي، الكتابة أشرف من أن نسخرها لمثل هذه الأغراض.. سوف عنه مباشرة..
- تفضل..
ماذا أقول، أيها الرئيس؟! إنه شخص ميت، نوع نادر من البشر الذين تحس لمجرد النظر إليهم أنهم بلا روح، تصور إنه شخص مستقيم جدا، ينأى بنفسه عن كل أنواع المجون، وتلك زوجته التي لم يضاجعها منذ سنوات، تغنيه عن كل نساء الدنيا، فهو لايطيق سيرة العاهرات، ولايسمح لأي موظفة لديه أن تتجاوز حدودها معه، إنه لايسكر ولايرقص، ولا يسافر إلا مرة في السنة، كما أنه لايصلي ولا يصوم، ولا يتصدق على الفقراء ولايظلم المستضعفين، إنه يمنح عماله أجورهم دون أي درهم زيادة ولانقصان، حتى في أيام الأعياد والمناسبات الأليمة، كما أنه قليل الكلام، تكفيه بضع كلمات يستعملها حين يكون مضطرا، فلا أحد يناقشه، ولا هو يرغب في محاورة الناس..
أما أنا.. فإنه لايريدني أن أقوم بأي شيء، فلديه لكل مهمة شخص مناسب، رجال الأمن يحرسونه، وبيته مدجج بالكلاب الشرسة وكاميرات المراقبة المتطورة، لذلك تساءلت مرارا، ما الذي يريده مني هذا الثري؟! ثم انتبهت ذات صباح، وعرفت جواب كل شيء..
حدث ذلك عند السادسة صباحا، بينما قرر الخروج للركض رفقة طبيبه الخاص، فتح الباب الصغيرة، ثم وقف بجانبي، ولم تكن تفصلني عنه سوى مسافة نصف ذراع، وما أظنني كنت مبالغا، حين توقعت أن يلقي على مسامعي تحية الصباح، لكنه اكتفى بالنظر إلى ساعة معصمه، وحين تلاقت نظراتنا، وددت فعلا أن يقول: صباح الخير.. لكنه التزم الصمت، وحين حضر الطبيب.. انضم إليه بهدوء ثم شرعا في الركض..
نعم سيدي، كنت بالنسبة إليه غير مرئي، ولذلك تصرف كما لو لم يكن ثمة أحد سواه..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى