حسن إمامي - الطوطم، من البدايات إلى التركيب الهندسي

لقد سبق تناول موضوع التجريد والتجسيد كبعدين تعامل معهما الإنسان في مختلف الظواهر التي عاشها، بين حواسه وعقله، بين الملموس والمعقول، بين المجرب والمفكر فيه*. وهي ثنائية شقت مجرى التاريخ التقاء وانفصالا، تناقضا وتكاملا، ما خلق جدلية كبيرة عبر مسار التاريخ الإنساني.
ويمكن تناول هذه الثنائية كذلك في مقاربة الظاهرة الدينية والثقافية، الانثروبولوجية بالخصوص.
فإذا عدنا إلى مراحل الحياة البشرية الأولى، والتي تسجل موضوعيا ارتباط الإنسان بالملموس والمجسد وبدايات تجريده للأمور، سنرى كيف يمكن للمفكر فيه والمركب نفسيا ووجدانيا عبر تجارب الحياة الشخصية والجماعية، كيف يمكن لهذا المفكر أن يخلق أشكالا من العلاقات المعقدة والمركبة والصعبة التفسير، ما دام اللاشعور والباطن النفسي الداخلي يتدخل في توجيهها ورسم إنتاجها والعلاقة معها.
وحتى لا تبقى هذه السياحة الذهنية بلا مجرى ولا خط مرسوم، سيقتصر الحديث على ظاهرة الارتباط بنقطة داخل دائرة إن شئنا رسمها، أو علامة مستقبلة لخطوط وحركات... هل سيرمز هذا إلى البحث عن مركز الكون وجوهره؟ هل الحقيقة المفقودة في دواخلنا هي التي تجعلنا نسبح داخل دوامة ملولبة وطبق من البنيات المتفاعلة في دوران حتى الوصول إلى النواة؟ مستوحاة من لولبة الإعصار وترافع الكل دائريا إلى السماء. من الحصار البحري الذي يستدير بشكل لولبي هو الآخر لكي يبتلع كل ما يدور في دائرته بقوته وجذبه.... هل نواة الخلية والبنية لها دور شكلي وأساسي في تفسير ما نتساءل عنه؟
وما الذي نتساءل عنه؟ هل هو البحث عن الحقيقة؟ ومن قام بالبحث عن الحقيقة؟ إنه الإنسان عبر التاريخ. بجميع مستوياته الوجودية والمعرفية. بجميع سبله ومحاولاته في تفسير الحياة والموت، الوجود والعدم، الصحة والمرض، الأمن والخوف، الكمال والنقصان، الإشباع والحرمان... إلى غير ذلك من تجاربه المعيشية التي خلقت جرح النسبية وانفلات الحقيقة وحسرة النفسية وتهديد الوجدان الداخلي بالفقدان.
ماذا سيكون هذا الفقدان؟ كل شيء ابتداء بما سبق من نقيض للكمال إلى فقدان اجتماعي ونفسي وعقلي وحياتي عام.
ولكن، كيف بحث هذا الإنسان عن الجواب، عن التعويض، عن اللجوء، عن الهروب من النقصان والحرمان...؟
دينيا وثقافيا، أشرنا إلى الحياة البدائية الأولى، وكيف ان جل وليس كل الجماعات البدائية خلقت ارتباطا مقدسا وسحريا وأسطوريا مع الطوطم، مع النار، مع الفريسة، مع المحتفى به، مع الزعيم، دائرة حول النواة، وحركة جامعة ملتفة حول المركز.
هي حالة رقص، اعتراف، احتفال، طلب. بالقرابين أو بالطقوس، الأكيد أنها حالة إذعان داخلي نفسي، تسليم الأمر للآخر، السلطة أو القدر الغائب الذي يخبئ المجهول، الذي يتحكم في الغنى و الفقر، الأمن و الخوف، الحياة والموت، الصحة و المرض... باختصار: المفاجئ الذي يجزئ الحياة فلا يجعلها آمنة ولا خالدة.
فهل يمكن أن نلاحظ هذه الأمور عند كل الشعوب الإنسانية، في وجدانها كما في احتفالها الديني؟ أكيد حاضر كل هذا في أستراليا كما في إفريقيا وأمريكا وغيرها من مناطق العالم.
الطوطم غالبا امتداد عمودي صاعد إلى أعلى، إلى السماء. بدأ بسيطا ثم تحول إلى مركب. تحول من جذع خشبي، إلى صنم منحوت، إلى بناء مركب بجدران رباعية الزوايا أو مستديرة، في محاولة لاختراق وعائه والعيش في جوف كهنوته واستلهام هذه القناة الموصلة إلى أعلى إلى السماء...
الطواف إحدى طقوسها، الشطحات والهرولة، التخلص من قيود الدنيا في التواصل مع الأعلى، مع الغيب، مع الروح، مع المجهول، مع المخيف لدواخلنا...
خط المجيء، قصد، طهارة، قرابين، طلبات... مدخل وقناة لعيش الغرائبي والغيبي في حدود طقوس مرسومة يتحكم فيها حارس الطوطم، المبنى، المركز...
سيكون العقل هو الوعاء الجامع لهذا التركيب والمساعد على تفاعل مكونات الذات المادية والمعنوية من أجل أن تتفاعل مسافرة في آفاق العلا كما في آفاق دواخل هذه الذات. وستكون الحركة على إيقاع، ستستعملها رقصا، وهو بدرجات في وتيرته وفي انفلاته واكتشافه، بدرجات في التحكم فيه. والتحكم داخلي كما هو خارجي. ذاتي كما هو مجتمعي ومؤسساتي. تحكم في القول وفي التعبير وفي طقوس الإنجاز عموما. كل هذا إنساني بشري، ولا غرابة في التشابه. يبقى الارتقاء من البسيط إلى المركب، ما يترجم درجات الاعتقاد و عوالمه المنسوجة هندسيا في الذهن الفردي والجماعي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى