عبدالرحيم التدلاوي - نصوص بين البرودة والسخونة، قراءة في مجموعة "ذرات وأوراق" لفتيحة بنزكري

لن يكون شغلي وأنا أكتب عن عمل "ذرات وأوراق" لفتيحة بنزكري، شغلا نقديا ولا مقاربة، بل سيكون نشاطا يعبر عما تركته النصوص في نفسي، وعن أثره الذي منحني فرصة التأويل الخاص النابع من ذاتي لحظة استقبالها؛ إنه نشاط يقترب من القراءة العاشقة مقياس حكمها الذات والذوق الخاص، وقد يتغير التأويل بتغير شروط القراءة زمنا ومكانا وأحداثا. وبالتالي، فما ستقوله ذاتي لن يكون إلا نسبيا بل يمكن القول إنه سيكون مزاجيا، بمعنى متقلبا، ولذا، لا ينصح التركيز عليه واتخاذها منصة للنقد. إن قولي هذا هو بمثابة احتراز. فالعمل يدخل ضمن جنس الهايكو، ولا يعنيني معاييره ولا مقاييسه ولا طرق بنائه، ما يهمني هو ما تره في نفسي من أثر سلبا وإيجابا بحسب أهوائي ولحظة مزاجي.
"في القراءة العاشقة سيتم الاتجاه إلى التفاعل بين القارئ والمقروء، بين النص الأول والنص الثاني. لا مجال للقراءة العاشقة بغير صفة التقبل الأول الذي يخلفه النص الأول على ذات القارئ." كما قال الباحث أحمد المغراوي، في مقاله المنشور بضفة ثانية والمعنون ب: القراءة العاشقة والكتابة.
ويضيف:
يقول الفعل الأول : اقرأ مؤوِّلا على هواك بانزياحك المرتبط بمقروئك كله. مقروء الحياة، ويومي الحياة بتفاصيل تدخل جسدك، وتشكل ما يسمى بالتجربة، ولا يهم مقدار التجربة في هذه الحالة، المهم هو أن تكون تجربة تدخل المكتوب بالحواس وما بعد الحواس. تفكيك يعوض الرمز برمز آخر أساسه التخييل.
وتجدر الإشارة إلى أن قراءتي بما انها ذوقية فإنها تتحلل من أي منهج ولا تسترشد إلا بنفسها. فهي قراءة شخصية لا ترقى الى ممارسة نقدية تستند في استنطاق المثن الشعري الى مناهج ونظريات نقدية مؤسسة.
وبناء على الاحتراز أعلاه أقول إن الشاعرة قد جعلت لعملها بابين مشرعين ينفذ منهما القارئ مسلحا بخلفيته المعرفية وذوقه الخاص ومنهاجه الذي ارتضاه؛ وقد يكتفي بذوقه لا غير. مع وجود مقدمة لا تنفع القارئ ولكنها تشكل وردة تفوح شاعرية تفتح شهية القراءة. واعتمادا على البابين أجدني أضع النصوص ضمن خانتين بعد فرز قرائي لا يشمل كل النصوص لكنها تسعف في قراءتها جميعا:
خانة تضم نصوصا غير مدهشة ولا تحقق المتعة الفنية والجمالية. وخالية من الدهشة؛ كون بعصها عبارة عن جملة تعجب يمكن أن تصدر عن أي شخص استوقفه منظر جميل فعبر عنه بجملة تعجبية قد لا تجد الأثر نفسه لدى آخر. أو نصوص تكرر بناؤها فأفقد اللسابق دهشة اللاحق. أو لأن الموضوع مطروق إلى حد الاستنزاف.
وخانة تضم نصوصا أمتعتني وجعلتني أقف أمامها مندهشا لجملة اعتبارات تحضر طيها.
**
النصوص الباردة:
من ذلك قولها:
من أين لك
كل هذا الجمال
ايها الشلال؟
قد يجد البعض في النص متعة، بيد أني أراه جملة تعجبية خالية من أي متعة، ولا تقدم دهشة ولا تحفز على أي تساؤل.
والأمر نفسه مع النص الثاني:
كل صباح
تستفيق قريتي
مع صياح الديك.
فالمعلوم لا يحمل مجهولا مثيرا، وما نعلمه أن القرية تنهض باكرا مع صياح الديك. فأين الجديد؟
وينطبق القول نفسه على النص التالي:
إيذانا بالرحيل
تودع الفراشات
أزهار الحقل.
فحين يرحل الربيع تغادر الحقل الفراشات. هي صورة معروفة ومطروقة.
وكذلك بالنسبة لقطرات الندى، الجميع يعلم من خلال تجربته أنها تتلألأ مع طلوع الشمس قبل أن تتبخر.
ولا أرى جديدا في النص الذي يقول:
لن يمحي
عطره الموشوم
من ذاكرتي.
وتوظيف معظم المفردات في نصين يفقدهما البعد الفني والجمالي، وقد يقول قائل: إن التجربة مختلفة، ولا مشاحة في ذلك، لكن ينبغي أن تكون أدوات البناء مختلفة، فالمشاهد المتكررة تشعر الرائي بالملل.
خانة النصوص المثيرة فنيا وجماليا، أو النصوص الساخنة:
معظم نصوص العمل تدخل ضمن هذه الخانة محققة المتعة الفنية والإدهاش، إما لبنائها، أو لطريقة صوغها، أو طبيعة اللمواد المستعملة، أو لما تتضمنه من معاني تجعلها ضمن النصوص المفتوحة على التأويل المتعدد.
ففي النص التالي:
قرنفلة جافة،
بين طياتها
تحمل ذكرى قديمة.
نجدنا نسترجع تجربتنا المتمثلة في وضع قرنفلة بين صفحات كتاب كذكرى حب يفقد مع مرور الوقت سخونته، الأمر الذي يقود إلى جفافها.
والمعجم الموظف يشير إلى ذلك: جافة، ذكرى قديمة.
أما نص:
ذكرى رحيلك،
التقطت ريشتي
لأرسم عطرك.
فالمدهش أن تقوم الساردة برسم العطر وهو المرتبط بحاسة الشم، فكيف سيكون الرسم وكيف سيتم؟
أما نص:
أشجار الأرز
المغطاة بالثلوج
لون الطهارة.
فنجد هذا الهايكو يعتمد على الرؤية، وما تحمله الألوان من دلالات.
في حين، نجد نص:
تحت شجرة البرتقال
تستريح
ذاكرة البستاني.
فنرى تلك الوشيجة الجامعة بين البستان ككل، وشجرة البرتقال بخاصة وبين ذاكرة البستاني، هذا الفاعل الذي لا يمكن أن تزهر الحديقة من دونه؛ فذاكرته عامرة بالرغبات، وممتلئة بالأشغال، وما نتج عنها من ثمار.
أما نص:
ينقش اسم أمه
على الجدار
طفل من فلسطين.
فتحضر تيمة القومية وما يرتبط بها من تعلق بالأرض :كأم جامعة. وهذا النص يتصادى ونصا للقاص بوعزة الفرحان في عملية رسم الاسم أو العلم، فهما متداخلان.
وفي نص:
بغيابك
يختنق الصباح،
والنرجس أيضا.
فالغياب خنق للزمان والمكان معا؛ خنق لأنفاس الصباح بما يحمله من دلالة الولادة، ولأنفاس النرجس بما يحمله من عطر من جهة، ومن حب للذات، من جهة أخرى.
أما نص:
حقيبة سفر،
بلا روح
تصل إلى الشاطئ.
فتحمل فداحة الموت، وتجربة الهجرة الفاشلة. إن الحقيبة رسالة إلى الأحياء عما حصل لصاحبها...
وأكتفي بهذا القدر لأفتح المجال للقراء لينهلوا من حياض المجموعة، ويختبروا نصوصها بناء على أذواقهم، ويخضعوها للقراءة المنهجية، قصد الوقوف على أهميتها كنصوص وكعمل يندرج ضمن جنس الهايكو.



1627428717278.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى