د. محمد عبدالله القواسمة - أوهام الناقد الأدبي

يُلاحظ في حياتنا الثقافيّة أن بعض نقاد الأدب ينطلقون في ممارساتهم النقدية وتعاملهم مع الأدب من مفاهيم وأفكار، ما هي إلا مجموعة من الأوهام البعيدة عن الحسّ النقدي السليم، وإدراك الحقائق المتّصلة بالأدب والنقد؛ ممّا يؤثر سلبيًّا في فهم الأدب وتذوّقه، ويحدّ من تطوّر الأجناس الأدبية، ويعرقل الحركة النقديّة، ونموّ الفن عامة.

في مقدّمة هذه الأوهام اعتقاد بعض النقاد بأفضليّة جنس أدبي على آخر؛ فنحن نرى من يضع الرواية؛ لكثرة الاهتمام بها في هذه للأيام، في مرتبة أولى من حيث الأفضلية قبل غيرها من الأجناس الأدبية، ويضع الشعر في المرتبة الأخيرة. ولعلّ في هذا التفاضل قصور في الرؤية النقدية؛ لأنّه يأتي على حساب الاهتمام بتقنية الجنس الأدبي، وبيان مدى نجاحه في التعبير عن موضوعه. فقد تتفوّق قصيدة أو قصّة قصيرة أو مسرحيّة على كثير من الروايات.

ومثل هذا اعتقاد بعض النقاد بتفوّق مدرسة من المدارس الأدبية والفنية على غيرها من المدارس، أو الاعتقاد بتفوّق عصر من عصور الأدب على غيره من العصور. فقد نلتقي في كل مدرسة أو عصر أعمالًا أدبيّة عظيمة وأخرى لا أهمية لها ولا قيمة.

ومن الأوهام أيضًا اعتقاد بعض النقاد بتفوّق الأعمال الأدبية التي تخدم القيم الدينية أو الأخلاقية أو التوجّهات السياسيّة والأيديولوجيّة، على غيرها من الأعمال الأدبية التي لا تهتمّ بتلك القيم والتوجّهات بل تهتم بما هو جمالي. وفي هذا الاعتقاد ابتعاد عن إدراك سليم لطبيعة الأدب، ودور النقد في التعريف بما هو أدبي.

وضمن هذه الأوهام اعتقاد بعض نقاد الأدب أن دراسة المواضيع التي تتناولها النصوص الأدبية دون الاهتمام بما فيها من قيم جمالية إنّما هو في صلب العملية النقديّة الأدبيّة. وفي الحقيقة أنّ هذا النوع من الدراسة ليس نقدًا أدبيًّا وإن كان نوعًا من النقد؛ فالنقد هو دراسة ما يكون عليه واقع ما، أما النقد الأدبي فهو فهم منهجي لأسلوب التعبير الذي تجلّى به النص.

ومن الأوهام أن بعض النقاد يبتعدون عن الحكم على العمل الأدبي وتعليل ذلك. والمعروف أن النقد الأدبي لا يقوم بتفسير الأدب وفهمه وتحليله فحسب بل أيضًا بالحكم عليه، وبيان حسناته وسيئاته، وتميّزه عن الأعمال الأخرى. هكذا فُهم النقد منذ العصور القديمة، ونُظر إلى الناقد بأنّه "قاضي الأدب" كما كان يفعل النابغة الذبياني في خيمته الحمراء عندما كان يُنصّب قاضيا للشعر في سوق عكاظ.

ومن الأوهام الخطيرة استناد بعض نقاد الأدب في نقدهم إلى ما يذكره الأدباء في عتبات أعمالهم، أو ما يطرحونه من آراء نقدية؛ فيأخذون بها ويرون العمل الأدبي وفق ما يراه صاحبه. فنجد بعض النقاد، على سبيل المثال، ينطلق مما جاء في صفحة العنوان من تصنيف العمل إن كان رواية أو سيرة أو قصة قصيرة ويتعامل مع العمل نقديًا وفق هذا التصنيف.

كانت تلك بعض الأوهام التي تسيطر على بعض نقاد الأدب في بلادنا، وهي أوهام تضر بالأدب والنقد معًا، إذ تُضعف من تأثير النقد في الأدباء، فلا يساعدهم على تجويد أعمالهم، وتنقية إبداعهم من الشوائب، ومعرفة موقعهم من حركة الأدب وحركة الحياة أيضًا، كما أن هذه الأوهام قد تلقي بالناقد الأدبي خارج حدوده المهنية أي إلى ما هو غير أدبي، وبالتالي نفتقد النقد الذي يمتاز بالدقة والتماسك وقوة التأثير والإقناع. إزاء ذلك كلّه فمن الضرورة أن يعمل نقاد الأدب على التخلص من هذه الأوهام، وإن كانت الأوهام عامة تفيد بعض الناس كما يرى الفيلسوف نيتشه بما فيها من راحة واطمئنان نفسي. لكن الأوهام هنا لا تخدم الحركة النقدية والأدبية؛ لأن الناقد واسطة العقد بين الأدب ومتلقيه، ودون نقاد بعيدين عن الأوهام ومهتمين بالحقائق التي تتصل بالأدب والنقد لن نصل إلى ما نصبو إليه من نهضة أدبية وثقافية.

تعليقات

أشكرك على هذا المقال الجميل. ولا زلنا نشكوا من الضعف الكمي للنقد الأدبي الجاد، وما نراه ليس سوى محاولات شخصية جداً، بل وغالباً محكومة بدوافع شخصية (عاطفية) لرفع او تبخيس فلان أو علان. ونحن لا نريد فقط نقداً أدبياً منهجياً، بل نقداً يتسم بذكاء الناقد، وقدرته على سبر أغوار النص وما اختفى وراءه، وأن يتسم بلغة مرنة طبيعية أقل تقعراً مما نقرؤه. حتى الآن الناس غير المنشغلين بالأدب يسألون: ماذا تعني هذه القصة أو ما هو مغزى القصيدة..الخ لأن الناس عموماً لا تتوفر لهم مقالات نقدية، تفهمهم أن الكاتب لا يمكن أن يشرح ما يكتب، وأن الشرح يضيِّع المتن، وأن الكتابة ليست معادلة رياضية. وأعزو ذلك كل كله للضعف (الكمي وليس الموضوع) للنقد الأدبي. سنلاحظ مثلاً في موقع الانطولوجيا، عدد القصائد والقصص والمسرحيات..ونضعها في نسبة مئوية مع المقالات النقدية (ولا اقول الدراسات لأن الدراسات تستهدف المتخصصين اكثر من العامة)، وسنجد قلة تلك المقالات النقدية. وفي المقابل، سنجد نقدا رومانتيكياً، وأكثر النقد الأدبي يوجهه الذكور لأعمال الإناث (لشيء في انفسهم)، فيكيلون المدح لأعمال النساء الضعيفة. أحد اساتذة الجامعات خرج في قناة فضائية ورفع رواية لفتاة خليجية إلىى مصاف الأعمال الخالدة، وهو تزييف وكذب وغرض كثر في عالمنا العربي.
وأنتم كمتخصيين في النقد، يجب أن تهتموا بالمقالات النقدية أكثر من الدراسات النقدية، لكي تفتحوا أعين العامة على الأعمال الجيدة، وتميزون الجيد من القراضة كما يقول العرب في النقود.
 
أعلى