السعيد عبدالغني أحمد - الأبوكاليبس والشعر في وردة التخييل الذاتي ل أشرف يوسف

فترة الحظر بين الجدران الأربعة بسبب الكوفيد كانت لها دلالات مختلفة في الشعراء الحقيقيين كونهم وحدويين بطبعهم ومحاطين بهذه الهالات من الأشباح والشخوص والمتخيلات.
ولكنها أثرت بشكل جذري على جميع الناس بمن فيهم الشعراء. فهذه الوحدة الجبرية ليست الاختيارية والانعزال القسري هو عُمق التأثر للخالقين.هذا القسري الذي يمنعهم من خلق صدف واستيحاء العوالم من الخارج.
كأنها انفجارات في بيضة قوية للغاية،هي الرأس المزعومة بإدارة حسهم للحياة على جانب منوطها بالفرن المعنائي والتخييلي.
وشيوع الموت السهل بالفيروس،الموت القريب بوضوح، فالموت قريب دوما لكن من وراء حجب الأقدار والصدف.
حالة الحصر تلك تؤثر بشدة حيث لا مفر ،ولا أقصد مفر يوتوبي بل أقل شيء وهو التمشي في الشوارع والجلوس على النيل أو السهر مع الأصدقاء كل مدة كبيرة.
وحالة الحصر تلك تفرِد أفقا لمعرفة أبعادا أخرى في الذات قد لا يكون يعرف أنها موجودة.فالمبدع يراقب كل شيء حوله ويحلل ويخلِق فيه وحالة الحصر الكوفيدي تلك تشبه حالة السجن،السجن الشامل للجميع.والسجان فيروس كئيب والمسجون فريسة كئيبة.
من هنا نبعت نصوص أشرف يوسف من الوحدة الإضافية تلك. من آثام البيولوجيا التي تتكرر ولكن بالكوفيد كان الإثم مكثفا مريعا.
المتتالية مليئة بالمعاني الشعرية الكبرى في تاريخ الشعر عموما،الوحدة،التعاسة،الغربة،الاغتراب،الانسلاخ،الجنون،الإيروتيكيا الحزينة،التعدد الصوتي للذات..إلخ
بعد خمسين سنة ،في هذا الآن الذي يبعث صنارته اللغوية ذات الخطافين للماضي والمستقبل،الماضي للتذكر والمستقبل للتصور، ليركب ويرى ويخلق.
[SIZE=22px]الوحدة الجبرية والأسئلة[/SIZE]
إن الوحدة القائمة جبرا على جميع الناس في بيوتهم هي عكس الوحدة الشخصية التي يختارها الشاعر،إنها تفتح سؤال الهوية فالوحدة أيا كان جنسها فاتحة الأسئلة الماهوية كلها.
يقول في ص45
"من أنا في ليالي حظر التجوال..
من أنا؟هل من مجيب:"
في ص55
"لماذا صرت مجنونا ومريضا هكذا يا أختاه؟"
ولأن الجبر عاقبته على رقة الشعراء الثورة أو الجنون أو الانتحار أو الرقص يشك أشرف في ذهنيته فثنائية الصحة والمرض وثنائية العقل والمرض من الثنائيات الشهيرة الذاتية بالخلل أو حدوث عطبا ما.

[SIZE=22px]التعاسة الملونة بالألوان جميعها[/SIZE]
إن تعاسة أشرف يوسف هي من إثر الشعور الكثيف بسلطوية العالم،بسلطوية الرداءة والتفاهة،بهذه الحجوم الضخمة الفقاعية للأشياء.
يقول في ص 63
"ثمة إحساس خفيف بالتعاسة؛
ليس لدي شيء لأقوله
لكل تلك الأصوات المستعارة
التي تقيم بداخلي.
لماذا لا أسكتها صوتا صوتا ،
وأبحث عن صوتي؟"
فالتعاسة شعور ممكن يُوِصل إليه الكثير من الأمور وكون الشاعر بطبيعته كونيا فهو مهتم لاإراديا بصحة العالم المعرفية والقيمية،والأصوات التي تنتجها التعاسة تضيع صوته النابت الأصلي ولكنه يحاججهم بالصمت أو بالتأمل والمراقبة ويريد البحث في تلك الأصوات عن نغمه.
ويقول في 103
"لقد مللت من دوائر الكلام بيني وبين تهيؤاتي،
يا رجل ..تحدث إليّ"
إنه يستخدم حسه الممثل في صوته لاستنطاق روحه المتعددة،ونبر الصوت الخيالي يستنفر فيه هويته،يتشعب في هذه الكينونة الشعرية
[SIZE=22px]الجنون كفعل شعري مختار[/SIZE]
يقول في ص 67
"لماذا لا أجن وأنزل الآن"
الجنون كمفهوم شعري مفهوم مُختار،والبُعد الشعري الذي ينحته الشعراء في كل المفاهيم مختلف جذريا عن أي بعد آخر،كون الشاعر مربوط متنه بالتحسس العميق والرقيق والعنيف لكل شيء حوله.وشخصية المجنون هي الشخصية الفعّالة فيها الشاعرية بشكل كبير فالمجنون للشاعر حد ذاتي للنشوة المطلقة.
والمنزلة الأقل من الجنون هو الحمق في الدلالات الحديثة،والنعت الذاتي على لسان الشعراء ربما حجة على الهوية المزعومة لهم من المجتمع والعالم، أو لتأكيد وصف ينخر في جنسهم.
يا تُرى ما هي وردة التخييل الذاتي؟أهي العالم؟أهي الذات؟أهي طرح كل شيء فيه؟..لا شرح للشعر،إنه مثل السماوات الملونة،مثل موروثات السيموطيقيا،كل أحد يراها ويتذوقها كما يحب.
الجمالية هي التي تحمي الشاعر من العدمية،الجمالية بأنواعها على حسب التركيب الشخصي للشاعر،إنها مُعِينه وشيطانه المبثوث في كل شيء.
"أنا مجرد رجل أحمق
خارج من العزلة
للقاء وردة التخييل الذاتي وسيموطيقاي العجيبة
التي مدت لي يد العون
وساندتني عمرا بأكمله
بين أربعة جدران لكهف مظلم.
[SIZE=22px]الصرخة المعبئة في أرجاء المتتالية بلا ولست[/SIZE]
ص127
"لست صخرة
لست ذلك الدينامت الذي يفتتها
لست ذلك الفتيل المشتعل لحدوث النفجار"
النفي هنا نفي حزين،نفي جميع المرهفين عن ذواتهم رغم أحقيتهم بالإثبات .نفي كونه حجرا أو مفجِرا أو علة للانفجار،نفي يائس بدمار العالم الإنساني المجرد لا اليوتوبيا ولكن العالم الإنساني المجرد ذاك أبعدته سطات كثيرة مرئية ولامرئية،معروفة ولامعروفة،ذاتية وكونية.
ولكنه يتراوح ويأمل وييأس،إنها عالمه المضطرب الحدوث ،الرفيع القيم.
ص 75
"في هذا الشرق الحزين،
بلا موسيقى تنادينا من الضفة الأخرى:
اطمئنوا،حتما سننجو،
وبلا فعل سوى للرعا
الذين يلقون الفتات فوق موائدنا السماوية..
[SIZE=22px]في مقاومة الورود للتشيؤ ولصورها البلاستيكية[/SIZE]
يقول في ص111
"جئت إلى هنا مهانا
ويوما ما سأخرج إلى دوائر العمل والحب والكراهية
ومنح التفرغ،
حرا طليقا
سأعود إلى ما اعتدت عليه بنفس الإهانة
ولن يلاحظ أحدا من معارفي المقربين
أني قد تحولت إلى مريض خائف وحيوان مفلس،
يفضل التأمل والصمت المرير"
إنها مأساة الشاعر في هذا العصر،الإهانة المضنية من تشيؤ كل شيء حوله ومحاولة تشييئه هو بالخصوص فهو مُصدِر الروحانيات سواء كانت ماورائية أو وجودية ومصِدر الجماليات الصافية والقيم والغوامض التي يعيش عليها معنى العالم وتصوره ووضعه على الأرفف مثل علب التونة. وهو ما يقاسي منه جميع الشعراء الحقيقيين،فالذي يهتم بمصير العالم دوما هم الشعراء وبدءه والأسئلة الفلسفية الأولى وفي حالتنا تلك بالصحة الجمالية للعالم وردود الفعل المهينة منه لأنه يراه جميلا.
لينك الديوان:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى