د. محمد عبد الله القواسمة - الخروج عن النقد الأدبي

ينصبّ النقد الأدبي على الأدب شعره ونثره، يبحث فيه عن جماليته وشعريته أي ما يجعله أدبًا، وفي بحثه يفسر ويحلل ويحكم. حتى في مناهج النقد التي تبحث عن المجتمع، أو النفس الإنسانية، أو أي جوانب أخرى تتصل بالمعنى إنما ينطلق من هذا البناء اللغوي للوصول إلى القيم الجمالية التي يعبر عنها.

هكذا فإن الدراسات التي تستفيد من الأدب؛ لدعم حقائق علمية في التاريخ والفلسفة والتربية والاجتماع وغيرها من العلوم ليست من النقد الأدبي؛ فماركس لم يكن ناقدًا أدبيًا عندما أعجب بروايات بلزاك، وأشاد بها في مواضع من كتابه المعروف "رأس المال"، وكذلك رفيقه أنجلز صرح بأنه تعلم من بلزاك أكثر مما تعلم من علماء عصره في الاقتصاد والاجتماع والتاريخ. وكذلك فرويد لم يكن ناقدًا أدبيًا عندما درس روايات دستويفسكي، وأعجب بشخصية المحقق في رواية "الأخوة كارامازوف" التي عدّها مرجعًا نفسيًا لأبحاثه، فضلًا عن رواياته الأخرى، مثل: "المقامر" و"الجريمة والعقاب"، واستطاع أن يتوصل بمساعدتها إلى نظرياته في التحليل النفسي.

وهنا يحسن الإشارة إلى أن النقد الثقافي الذي يروج له في الثقافة العربية كثيرًا، حيث يوصف بأنه قادر على أن يشمل نظرية الأدب والجمال والنقد، والتفسير الفلسفي، ونظريات علم العلامات، والنظريات الاجتماعية والإنثربولوجية، ونظرية التحليل النفسي، والنظرية الماركسية، ودراسات الاتصال، وتحليل الوسائط وغيرها ليس من النقد الأدبي؛ لأنه ببساطة لا يبين القيمة الجمالية للنصوص، ولا يحكم على تميزها أدبيًا. إنه مثل غيره من العلوم التي تلامس الأدب، أو تتناول جوانب منه.

استنادًا إلى ما سبق فإن من الخطأ ــــــ كما أرى ــــــ أن يتعامل بعض النقاد مع الأدباء بأنهم علماء اجتماع وعلماء تاريخ وفلسفة، ويناقشوا أعمالهم الروائية والأدبية وكأنها أعمال فكرية، فما ورد في هذه الأعمال من أحداث ووقائع وموضوعات إنما وردت ضمن سياق أدبي همه بعث فضاء جمالي، وإن كان يقترب من حقائق معروفة في المجتمع والحياة؛ فحقائق الأدب تختلف عن الحقائق العلمية فهي مثبتة بالتجربة، ومتصلة بالعقل بينما الحقائق الأدبية هي رؤى ذاتية تتصل بالعاطفة، وللخيال دور في تقديمها.

إن الاعتماد على الأدب في تقديم تفسيرات اجتماعية وسياسية وغيرها تنقصه الدقة واليقينية، وإن كان يستأنس به فلابد من إسناده بحقائق علمية. لعل في صلب النقد الذي وجه إلى كشوفات فرويد النفسية أن معلوماته غير دقيقة؛ لأنه اعتمد على حقائق أدبية غير علمية. وما يحدث في بعض الأحيان عندما يستشهد بعض النقاد على مواقف فكرية وسياسية بأقوال من الأدباء والشعراء للتأثير بالآخرين فهذه الأقوال ليست من النقد الأدبي في شيء. فما يحمله الأدب من أفكار إنما هي أفكار أدبية قيمتها في صياغتها الجمالية بالدرجة الأولى، وربما في هذا سر بقائها، وسبب الاستشهاد بها.

في النهاية، يحسن القول إن بعض الاتجاهات العلمية في حياتنا الثقافية المعاصرة تحاول دخول ميدان النقد الأدبي، ومزاحمته، والإحلال مكانه تحت ما يسمى النقد الثقافي، والنقد الحضاري، والنقد الاجتماعي. والحجة أن النقد الأدبي غير قادر على مقاربة الأدب بوجهه الجديد، وما ينطوي عليه من تقنيات ودلالات غنية. فقد استنفد مهمته، وغدا مجرد نشاط غير فاعل، وظهرت الحاجة إلى نقد جديد يتعامل مع الظروف الجديدة. إن في هذا التوجه خروجًا عن طبيعة الأدب والنقد الأدبي معًا، مما يلحق الضرر بكليهما، فإذا كان الأدب ضمير الإنسانية فإن النقد ضمير الأدب. وربما تأتي فكرة موت الأدب وموت النقد الأدبي استجابة لهذا الواقع الذي يهدد النقد الأدبي في وجوده وفاعليته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى