مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - هل الشيطان شاطر؟!

من كتاب رحلة إلى شاطئ النار والنور

رغم أن آدم كان في الجنة منعما مكرما، ورغم أنه حظي بشرف عظيم ... فهو الذي خلقه الله بيديه ونفخ فيه من روحه.... وهو الذي أسجد له الملائكة، وقد شاهد آدم بأم عينيه الشيطان، وهو لا يسجد له مخالفا لأوامر الله!!
شاهده وهو يتكبر ويعصي الله، غيرة وحقدا على المكانة التي منحها الله إليه، ورغم أن الله أخبره ، أنه عدوه الذي لا هم له إلا الإيقاع به في وحل المعصية، ليثبت لرب العالمين أنه لا يستحق تلك المكانة الكبرى، وأنه أولى منه بها، أو لعله يريد أن يثبت لله أنه كان على صواب حين لم يسجد له ، فهو المخلوق من نار يرى نفسه أرقى وأعلى من هذا الذي خلق من طين .
رغما عن كل هذا....إلا أن آدم وقع في المعصية واستجاب للشيطان وأكل من الشجرة المحرمة...
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فقال أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قالوا سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ
أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ {33} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ{34}
.. الأمر العجيب أن آدم ترك كل ثمار وأشجار الجنة، التي أحلت له، ومال به هوى نفسه إلى الشجرة الوحيدة التي أمره الله أن لا يقترب منها !!!
أوهمه الشيطان أنها شجرة الخلد وجعل يقسم له بالله، فصدقه، ونسي كل تحذيرات ربه...ظن أن إبليس لم يصل إلى هذه المرحلة من الفسق والعصيان لدرجة أن يقسم بالله كذبا.
هل كان آدم ساذجا إلى هذا الحد!؟
إنه أول البشر وأول الأنبياء، وأول من يقع في المعصية، فيستحق عليه العقاب، وياله من عقاب، بل أسوأ عقاب !!
و هل هناك أسوأ من مغادرة الجنة والنزول إلى الأرض؟ !!
ولعلنا نتوقف هنا كثيرا لندرك، كيف أن إبليس يمتلك مهارات هائلة، وقدرات مذهلة على الإقناع...
وتلبيس الباطل ثوب الحق، فهو قد استطاع أن يغوي نبيا وليس نبيا عاديا بل نبي شهد ما لم يشهده أي بشري !!
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ ".
رواه مسلم فى كتاب البر والصلة
قال النووى فى شرح الحديث : لا يتمالك أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات ، وقيل : لا يملك دفع الوسواس عنه ، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب.
وعن ابن عباس رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم :
"مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ لا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ الدنيا، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفْتَنًا تَوَّابًا نَسِيًّا إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ".
قال المناوي:
ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أي الحين بعد الحين والساعة بعد الساعة.
المقصود ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه أبداً حتى يفارق الدنيا.
و المؤمن خلق مفتناً، أي ممتحناً، يمتحنه اللّه بالبلاء والذنوب مرة بعد أخرى، والمفتن الممتحن الذي فتن كثيراً (تواباً نسياً إذا ذكر ذكر) أي يتوب ثم ينسى فيعود ثم يتذكر فيتوب.
وقد كان آدم يبكي كثيرا على حاله، ويحزن حزنا عظيما لغضب الله عليه، ويتحسر على جنته التي ضاعت منه، ليهبط إلى الأرض حيث الشقاء والتعب....
و ليشهد مقتل ابنه هابيل على يد أخيه قابيل.
***
كانت الملائكة تحزن لبكاء آدم، الذي امتلأ بالندم والحسرة، وكانت تترقب في قلق وهي تعلم أن المعركة، بين الإنسان والشيطان لازالت في بداياتها...
وقد تاب الله على آدم لأنه رجع إلى الحق، واعترف بذنبه بينما بقي الشيطان على كبره عدوا لكل بني آدم، وإن كان
لم يسعد بغوايته لآدم كثيرا، وبكى حين تاب الله عليه، غير أنه فرح فرحا عظيما حين نجح في غواية قابيل، فجعله يزهد في ما أحل له من زوجة، ويطلب الأخرى التي كان هابيل أحق بها...
وقد كانت حواء تحمل في كل بطن ذكر وأنثى على أن يتم، الزواج، بين كل ذكر وأنثى من بطنين مختلفين.
الشيطان ملأ قلب قابيل حقدا وغيره ، وأوغر صدره ناحية هابيل، الأفضل والأقوى، فلم يتركه حتى قتله وهو نائما بعد أن شج رأسه بصخرة كبيرة...
هو لم يقاتله وجها لوجه، كان يعلم جيدا أنه الأضعف ،لذلك تربص به وأخذه غدرا، ليعود نادما خاسرا، ولتحل عليه لعنة كل جريمة قتل تتم من بعده.
حروب ودمار وملايين تسفك دمائهم بغير وجه حق...
يقتل الإنسان أخاه الإنسان ولا يتورع عن اختلاق المعاذير والحجج التي تبيح قتله، بل وقد يقتله باسم الرب، ألم نرهم، وهم يكبرون بينما يقتلون أبناء جلدتهم؟!
بل ويقتلون حتى أنفسهم وهم يصيحون:
الله أكبر !
هل الشيطان شاطر إلى هذا الحد!؟
أم أن الإنسان نفسه ضعيف ظلوم لنفسه!؟
في النهاية تبقى رحمة الله الواسعة، ويبقى باب التوبة مفتوحا أمامنا جميعا ..
هذا الباب الذي يذهب بكل مهارات إبليس سدي، ويحط من قدره ويصيبه كثيرا بالحسرة، على كل جهوده التي تذهب هباء.
في رأيي، إذا كان إبليس يمتلك كل مهارات الإغراء والخديعة بدرجة مذهلة إلا أنه حين يعصي الله، ويأخذه الغرور حتى يصل إلى ما وصل إليه من غضب الله عليه، ولا يتراجع أو يتوب، فهو بالتأكيد ليس شاطرا على الإطلاق، فقد تميز عنه آدم بالرجوع إلى الحق والتوبة.
معروف أن كلمة الشاطر في اللغة العربية، هي مفرد الشطار وتعني اللصوص، وهي من شطر يشطر، أما في دلالاتها العامية ، فقد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن الفلاح والنبوغ، كأن نقول التلميذ شاطر في المدرسة.
***
لمَّا حضرت الوفاة نبيَّ الله آدم -عليه السلام- أخبر أبناءه أنَّه يشتهي ثمارًا من ثمار الجنة، فانطلق أبناؤه يبحثون له عن تلك الثمار، فلقوا الملائكة في طريقهم، فسألوهم عن وجهتمهم، فقال أبناء آدم للملائكة: أنَّ أباهم يشتهي ثمارًا من ثمار الجنة، وأنَّهم في طريقهم لإحضارها.
فأخبرتهم الملائكة: أنَّ مهمتهم قد انتهت وعليهم أن يرجعوا.
فرجعوا وكان آدم قد قُبضَ، فغسلته الملائكة وكفنته، وصلى جبريل عليه وخلفه الملائكة.
وقيل: دفنَ في موضع غار الكنز في جبل يسمَّى أبو قبيس، وقد عاش -عليه السلام- تسعمئة وثلاثين سنة، وقيل: ألف سنة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى