د. محمد عبدالله القواسمة - المنفى عند الأدباء... العذاب والعزاء

من المعروف أن كلمة «المنفى» اسم مكان من الفعل «نفى» بمعنى رفض وأبعد. وفي النحو العربي أدوات النفي، مثل: لا ولن ولم وليس.وهي كلها تحمل معنى السلب نقيض الإيجاب. لا أجد كلمة في اللغة العربية أوضح دلالة على القهر والظلم، وأشد قسوة على النفس من كلمة»المنفى». ربما لهذا السبب استخدم العرب كلمة أقل حدة منها، وهي كلمة «المهجر»، فيقال أدباء المهجر لهؤلاء الأدباء العرب، وبخاصة من سوريا ولبنان الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية والجنوبية في أواخر القرن التاسع عشر. ومن هذا القبيل قولهم: الهجرة النبوية التي كانت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ولا ننسى عنوان رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، التي يتحدث فيها عن هجرة مصطفى سعيد إلى بلاد الإنجليز.
يتعرض الأدباء وغيرهم للنفي لأسباب سياسية، كالخوف من السلطة الحاكمة، كما حدث، على سبيل المثال، لبدر شاكر السياب، وعبد الرحمن منيف، وغالب هلسا. وقد تكون الأسباب اقتصادية، كالهرب من الفقر والجوع، كما حدث لكثيرين من أدباء المهجر، على رأسهم جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة. وهذا الشاعر القروي رشيد الخوري يفصح عن ذلك في قوله:
أروم إلى ربى لبنان عودًا
فيمسكني عن العود افتقار
ولو خيرت لم أهجر بلادي
ولكن ليس في العيش اختيار
وقد يكون المنفى لأسباب ذاتية، ويسمي إدوارد سعيد هذا النوع المنفى المجازي، حيث يحس فيه الأديب بأنه، وإن كان يعيش في وطنه، بالاغتراب وعدم الانتماء. وربما يكون هذا النوع من أشدالمنافي قسوة على النفس، حتى إن الأديب يرغب في أن يترك جماعته ليعيش في الغابة بين الحيوانات الكاسرة، كما صرخ يومًا الشاعر الجاهلي الشنفرى:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فإني إلى قوم سواكم لأميل
أو كما نظر الشاعر اليمني عبد الله البردوني في قصيدته « الغزو من الداخل» إلى أبناء وطنه بأنهم صاروا منفيين في بلدهم بفضل الغزو الثقافي والحضاري الذي يجري بينهم سرًا:
فظيع جهل ما يجري .. وأفظع منه أن تدري
يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن
جنوبيون في صنعاء شماليون في عدن
وقد يكون المنفى هو السجن يُزج فيه الإنسان خارج وطنه أو داخله؛ ليكون منفى داخل المنفى،كما تفعل دولة الكيان الغاصب في فلسطين لكثير من الأدباء على رأسهم في هذه الأيام الروائي الأسير المقدسي حسام شاهين الذي وجد العزاء في الكتابة؛ فأبدع روايته «زغرودة الفنجان»من داخل سجنه، وكتابة بعض سيرته النضالية بعنوان»رسائل إلى قمر». وسبقه درويش وهو يتحدى سجانه في قصيدته «سجل أنا عربي».
لعل الأديب عندما يتعرض للنفي يتجه إلى تأمل ذاته وذاكرته قبل أن يتأمل ما يجري في الخارج؛ فلا غرابة أن يضع الأديب تيسير أبو عودة لكتابه «عزاءات المنفى» العنوان الفرعي «الذات تطل على نفسها «ليعبر عن انثيال العواطف والذكريات التي يجد فيها المنفيّ العزاء لمواجهة قسوة الواقع. ففي عملية النفي يبتعد الإنسان عن أهله وأحبابه؛ فيكون في مكان غريب عنه، وفي أغلب الأحيان معاد له. ويبدأ العذاب بالحنين إلى الماضي وذكريات الطفولة والصبا، ولهذا يكون حضور الوطن في المنفى قويًا. يقول خير الدين الزركلي:
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكنًا ألفت ولا سكنا
ويكتب إدوارد سعيد سيرته الذاتية «خارج المكان»، ويذكر فيها أنه عندما جاء إلى القدس عام 1992 منع حتى من إلقاء نظرة خاطفة على منزلهم في القدس الغربية الذي نفي منه عام 1948. إنه لم يستطع أن يعود إلى وطنه إلا بجواز أمريكي،فتراءى له أنه يعيش في اللامكان.
رغم قسوة المنفى إلا أن أدباء كثيرين وجدوا فيه البيئة لإنتاج أعمالهم؛ فكان المنفى عندهم تجربة خصبة ألهبت آلامها العواطف، وأثارت الأفكار، وشحذت الهمم؛ فلولا المنافي لم تكن النتاجات الرائعة التي تحمل في عناوينها مفردة المنفى، مثل:»أوراق المنفى» لحيدر حيدر،»الحب في المنفى»لبهاء طاهر، و»سرديات المنفى»لمحمد الشحات وغيرها.
وإذا كان المنفى عند الأدباء طافحًا بالعذاب فإنه أيضًا فيه العزاء الذي يجدونه في إنتاج الأدب ليساعدهم على المواجهة والصمود.فلا شك أن المعاناة في المنافي توالد منها أدب المنفى، وأدب السجون،وأدب الحنين إلى الوطن والأهل والحبيبة.
#الدكتور_محمد_عبدالله_القواسمة #الأدب #الأدباء #العذاب #العزاء #سعيد #خارج_المكان #إدوارد_سعيد #الظلم #القسوة



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى