الخمرة محمود خيرالله - العرب والنبيذ معاً في مصر(*)

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)

(قرآن كريم ـ سورة يوسف)


"أهلك الرجالَ الأحمران: اللحم والخمر"

"مثل عربي قديم"



تبلغنا الشواهد أن الحضارة الإنسانية هي حضارة واحدة أسهمت في تكوين عناصرها الأممُ والأجناس المتنوّعة، وبالتالي فإن أي انجاز عرفه الإنسان في مصر القديمة ـ مثلاً ـ يُمكن أن يكون قد انتقل إلى مكان ما في آسيا أو أوروبا، وتطور بمعرفة أناس آخرين، يضيفون إليه كل يوم جديداً، على نحو من التفاعل المتصل المتقطع، الذي يسميه المفكر اللبناني الراحل حسين مروة في الجزء الأول من كتابه "النزعات المادية للفلسفة العربية الإسلامية: "وحدة ديالكتيكية بين منجزات الشعوب".

نحن نؤمن أن هذا هو بالضبط ما حدث مع ثقافة احتساء الخمور، عبر التاريخ، وبالطبع لا يمكننا أن نستثني الأمة العربية من هذا الأمر، خصوصاً أننا باتت لدينا من الأدلة على أن العرب عرفوا الخمور وشربوا منها بنهم ـ سواء قبل الإسلام أو في عهد الرسول "ص"، أو خلال عصور الخلفاء الراشدين، ومن جاء بعدهم من الخلافة الأموية ثم العباسية ـ مثلما تنطق بذلك آثارهم الشعرية وكتبهم الأدبية وصفحاتهم التاريخية.

بغض النظر عن ورود مديح الخمور عند كثيرٍ من أعلام الثقافة العربية ووجود الخمور كتيار واضح المعالم في تاريخ الشعر العربي القديم، وبعض البصر عن اهتمام أعلام الأدب العربي القديم بالخمور، بدءاً من "الجاحظ" (عثمان بن بحر ـ الوفاة 253 هجرية)، في: "رسالة الجاحظ إلى الحسن بن وهب في مدح النبيذ وصفة أصحابه"، أقول بغض النظر عن كل ذلك، نعتقد أن لحظة اقتراب الإسلام من ثقافتي الشام ومصر، أي لحظة دخول جيوش المسلمين هذه البلاد، تعتبر من اللحظات الكاشفة التي عكست انتشار ثقافة الخمور على نطاق واسع في المجتمع العربي الإسلامي، لكنها لحظة لم تحظ بالاهتمام الذي يليق بها في تاريخ الإسلام، فرأينا أن نعيد النظر إليها ونحن نؤرِّخ لتاريخ بلادنا، برصد هذا اللقاء الأول من نوعه بين المسلمين ومصر التي كانت وقتها "أرض الخمور"، زراعة وصناعةً وتصديراً، لنتعرف على تلك الإجراءات الأولى التي اتخذها المسلمون الأوائل، بشأن الخمور وتداولها وبيعها وشرائها، وكذا بشأن فرض الضريبة عليها في مصر.

لكن قبل ذلك نريد أن نتجول قليلاً في المصادر الكلاسيكية للثقافة العربية لنتعرف إلى الموقف من الخمور لحظة ظهور الإسلام، فبعض أخبار الفترة الأخيرة من الجاهلية تؤكد أن "المناطق الزراعية ولاسيما يثرب والطائف، كانت تعالج بعض الثمار والنباتات بنوع من التصنيع، كاستخراج الخمر من التمور، وتجفيف الفواكه وصنع أوعية وحفظها ونقلها.".(1)

والكاتب يشير إلى أن انتاجية الزراعة كانت تجتذب كبار تجار قريش في مكة، لتوظيف بعض أموالهم في ملكية الأرض الزراعية بالطائف" ثم ينقل عن البلاذري: "أن أبا طالب عم النبي كان يأتيه الزبيب من كَرْم له بالطائف".

تخبرنا المصادر العربية واقعة شراء قصي بن كلاب ولاية البيت "الكعبة" من أبي غبشان الخزاعي بزق من الخمر قبل ظهور الإسلام بسنوات، خصوصاً أن تلك الصفقة صارت أساساً للمثل العربي المعروف "أخسر صفقة من أبي غبشان"، إلا أن دكتور سليمان حريتاني وفر علينا جهداً مضنياً في بحث واقع الخمور خلال فترة ظهور الإسلام، وقدم لنا في كتابه الغني "الخمرة وظاهرة انتشار الحانات ومجالس الشراب في المجتمع العربي الإسلامي"، الإجابة الوافية عن السؤال: كيف انتقلت ثقافة الخمور من المرحلة الجاهلية إلى مرحلة الإسلام انتقالاً سلساً وسهلاً، حيث تطورت تجارتها بعد دخول جيوش المسلمين البلدان المفتوحة ومنها بالطبع مصر والشام.

كما يقدم لنا حريتاني ثبتاً تاريخياً للخلفاء الذين تولوا الخلافة في الدولة الأموية وكانوا من شاربي الخمر: يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية، وعبدالملك بن مروان، والوليد بن عبدالملك، وسليمان بن عبدالملك بن مروان، ويزيد بن الوليد، لافتاً إلى قائمة أخرى من النساء اللائي شربن الخمور من البيت الأموي، ومنهن زوجة الخليفة هشام بن عبدالملك، المعروفة بأم حكيم، وكان لها كأس كبير فيه من الذهب ثمانون مثقالاً".

ويدلل دكتور سليمان حريتاني على صحة المثل العربي القديم "أهلك الرجال الأحمران اللحم والخمر"، بالإشارة إلى واقعة مذهلة، يقول ص 96: "الواثق آخر خلفاء الدولة العباسية أنشأ خمارتين، إحداهما في دار الحرم، والأخرى على الشط ببغداد"، مضيفاً: "انتقلت مجالس الشراب أو ما يسمى بالحانات "الخمارات"، من العصر الجاهلي إلى العهد الأموي فالعصور العباسية سليمة معافاة مع توسع في الخدمة وتعديل بالمفهوم، وسيرورة في الانتشار، وشقت طريقها في السر والعلن، وعززت وجودها بفضل جموع عشاقها".

ويلفتنا حريتاني إلى أن القائمين على إدارة الخمارات في العصور الإسلامية الأولى استطاعوا أن يرتبوا أمورهم برشوة أصحاب النفوذ من المسئولين، وبالتفاهم مع رجال الشرطة، بدفع المعلوم الذي يحميهم ويحمي نزلاءَهم وروادهم، ويكف الأذى عنهم، لافتاً إلى الموقف الفقهي لأبي حنيفة النعمان، ص 67، وقال "لقد أباح الإمام أبوحنيفة النعمان شرب النبيذ دون التقيد حتى بالمقادير وقال بعدم معاقبة السكران من النبيذ واعتماداً على ذلك سُمح للمسلمين أن يتاجروا به، وعده من الأموال المضمونة، كما اعتبره طاهراً يجوز الوضوء به عند عدم الماء".

خيرات مصر

وعلى عكس الاعتقاد السائد، لم يؤد دخول جيوش المسلمين أرض مصر عام (19هـ ـ 640م)، إلى انقطاع في انتاج الخمر والنبيذ بأنواعه، بل ربما كان العكس هو ما حدث، فقد ساهم دخول العرب في استمرار هذا الإنتاج وربما ساعد على ازدهاره وبقائه لزمن أطول، على نحو ما سوف نطالع في هذا الفصل. حيث كان العرب يعرفون قدراً لا بأس به عن خيرات مصر قبل أن يدخلوها بجيوشهم، وكان النص القرآني قد وصف بدقة مواسم الزروع في البلاد التي أطلق عليها "خزائن الأرض"، لافتاً إلى أهمية ما يعصِر قدماء المصريين من خمور وتأثير تجارتها العالمية على رفاهية مصر، كجزء لا يتجزأ من اقتصادها، الذي شهد عهود ازدهار كثيرة قبل دخول المسلمين.

قال تعالى في سورة يوسف: (قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون، ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يَعصرون)، بما يعني أن القرآن تعامل مع فكرة "عصر العنب ليصير خمراً" تعاملاً موضوعياً عادياً، لا يختلف كثيراً عن "عصر السمسم ليصير دهناً أو عصر الزيتون لصير دهناً"، على حد قول جمهور الفقهاء.

ها هي جيوش المسلمين التي يفترض أنها تؤمن بأن الخمر حرام تدخل البلد الذي يُنتج الخمر ويعتمد اقتصادها عليه، حيث كانت مصر وقتها حاضرة الامبراطورية البيزانطية ومحور تصدير القمح والنبيذ إلى أنحاء متفرقة من هذه الامبراطورية الشاسعة، قبل أن تتحول إلى البلد الذي يدفع لبيت مال المسلمين ضريبة على الخمور، تعادل ما تدفعه من ضريبة على العسل.

علينا أن نعترف بداية أن العرب حين دخلوا مصر في مشرق دولتهم كانوا فئة قليلة وفي أمس الحاجة إلى خيراتها، وجدوا جيوش الامبراطورية البيزانطية وحدودها مريضةً، بمرض زعيمها هرقل (توفي 641م) الذي كانت قد أصابته الشيخوخة، وبات الموتُ منه وشيكاً، وبعد سنوات من طرده الفرس من الشام ومصر، كانت قوات حامياته الرومية قد ضعفت، وصار الحكام الذين يمثلونه في مصر في حال من الفساد والانقسام فيما بينهم، جعلهم يمارسون صنوف الاضطهاد الديني ضد الأقباط، أهل البلد، بسبب خلافات بين المذاهب المسيحية حول طبيعة المسيح، ما جعل الأقباط يتذوقون مرارات التعذيب من قبل جيوش الرومان "أتباع المذهب الملكاني" بزعامة "قيرس".

بحسب الباحث ألفريد ج. بتلر في كتابه المهم "فتح العرب لمصر"، فإن الوضع البائس لجنود هرقل وقسوتهم جعلت الأقباط يتوسمون في العرب أن يكونوا أقل وطأة عليهم من أشقائهم في الدين، لكنهم لم يتورطوا أبداً في اتفاق مع العرب، قبل انتهاء المعارك العسكرية بين العرب وجيوش الرومان، وأنهم (أي المصريين من القبط) على العكس، قاوموا قدر جهدهم الفاتح العربي، مستشهداً بـ "ثورة الإسكندرية بقيادة منويل".

لا نجد أنفسنا في حاجة إلى التذكير بأن خليفة المسلمين لحظة دخول العرب مصر كان هو عمر بن الخطاب، المعروف بأنه: "أشرب الناس في الجاهلية"، والذي استمر يشرب النبيذ فترة حتى بعد نزول الإسلام، وعلى الرغم من أننا لا نعرف بالضبط هل استمر عمر في الشرب بعد ذلك أم لا، وهل أقام فعلاً حد الجلد على ابنه (الذي سكر في مصر)، وهل مات الولدُ جلداً أم مات بعد ذلك بزمن طويل، أقول إن كل تلك الأسئلة من وجهة نظري لا تعنيني من قريب أو من بعيد، لأن مدوّنها العربي القديم، أراد من التمادي في الحديث عنها ـ على الأرجح ـ تضليل الأجيال المقبلة، لصرف النظر عن بعض الأسئلة التاريخية الحرجة للعرب والمسلمين، والتي تكشف جانباً من الحقيقة المادية الملموسة، التي كانت دليلاً على الفارق الشاسع بين الخطاب الفقهي الإسلامي والممارسة العملية التطبيقية لهذا الخطاب على أرض الواقع.

في المقابل، وبقراءة سريعة لبعض مدونات هذه اللحظة التاريخية، نجد أننا أمام أسئلة تتعلق بموقف العرب الحقيقي من الخمور: هل كان العرب يعتبرون الخمر حراماً حينما دخلوا مصر؟.. وهل كانوا يعرفون أن جزءاً أصيلاً من خيرات مصر والشام، التي سوف تصب خِراجاً أو جِزيةً في بيت مال المسلمين هي من متحصلات وعائدات تجارة الأنبذة والخمور؟.. وهل قبل الخليفة عمر بن الخطاب وعماله في الولايات أن تستمر صناعة الخمور والتجارة فيها، وأن يحصلوا عنها الضرائب المقررة، وهل كانت هي نفسها الضريبة التي كان يحصلها رجال الامبراطورية البيزنطية من قبلهم عن الخمور في مصر؟..إلخ.. إلخ.

المدهش أنه يمكننا اليوم معرفة كيف أدت خيرات مصر وبعض الأقاليم التي دخلها العرب مثل بلاد الشام، إلى أن يسود بعض الجشع وأن تدس الدسائس بين قادة جيش الخلافة الإسلامية، والأكثر إدهاشاً أننا لا نعرف ذلك من مؤرخ أجنبي حاقد على العرب مثلاً، بل من مؤرخ عربي يمتد نسبه العائلي إلى قريش، ولا يفصله عن الحدث أكثر من قرنين من الزمان، حيث يمكننا أن نثق في بعض ما جاء فيه، خصوصاً أنه يورد "نصوص" الرسائل المتبادلة بين الخليفة عمر بن الخطاب والوالي عمرو بن العاص، ويشير إلى قصص الوشايات والخلافات التي وقعت بين القادة العسكريين العرب، وحالة التنافس البشع التي وصلت إلى حد القتل بين المرشحين لتولي ولاية مصر.

كَرْم امرأة المقوقس

من بين أكثر المراجع الكاشفة للحظة دخول العرب لمصر، والتي لم تحظ بالاهتمام الذي تستحق كتاب "فتوح مصر والمغرب" لابن عبد الحكم (المتوفى 257 هـ)، حيث يُمكننا أن نلمح تاريخاً أكثر كشفاً لنوايا العرب وأحلامهم من الفتوحات عموماً، ومن فتح مصر تحديداً، حيث كان قادة الجيوش الإسلامية قد فتحوا أعينهم على حجم الخيرات في البلد الذي يطل على بحرين ويمر فيه أحد "أنهار الجنة"، بل إنهم اعتبروا أنفسهم وهم يفتحون مصر إنما هم في الحقيقة "كمن يحلب بقرة"، ولعلنا سمعنا ما يتردد في كتب الإخباريين العرب عن الخلاف بين عمرو بن العاص وعبدالله بن سعد بن أبي السرح، حيث رفض عمرو أن يبقى مسئولاً عن الحرب وابن أبي السرح يبقى مسئولاً عن الخراج، وقال عمرو ساخطاً: "أنا إذن كماسك البقرة وغيري يحلبها".

وفضلاً عن الآية الكريمة في سورة يوسف: "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ"، ما يعني أن مصر كانت في ذلك الزمان تحتوي من وجهة نظر العرب على "خزائن الأرض"، ينقل ابن عبد الحكم حكاية يمكن تصديقها وقد كانت شائعة بين العرب الفاتحين، تؤكد معرفتهم بأن مصر تعوم على بحيرة من الخمر، والحكاية تقول إن امرأة "المقوقس " حاكم مصر وقتها، كانت تحصِّل الضريبة خمراً من سكان الإسكندرية، يقول ابن عبد الحكم: "كانت بحيرة الاسكندرية، كما حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث بن سعد كرماً كلها لامرأة المقوقس، فكانت تأخذ خراجها منهم الخمر، بفريضة عليهم، فكثر الخمر عليها حتى ضاقت به ذرعاً، فقالت: لا حاجة لي في الخمر، اعطوني دنانير، فقالوا ليس عندنا فأرسلت عليهم الماء فغرقتها".

ومصداقاً لفكرة تحري خليفة المسلمين حجم الخيرات المتوقعة من مصر وكيفية توجيه قدراتها لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الإقليم المفتوح، وعلى الرغم من تأكده من أن الخراج لا يُرفع إلا بعد "عَصر الكروم" إلا أن ذلك لم يغير من الحقيقة شيئا، فقد ظلت الدولة الإسلامية الوليدة تحصل مستحقاتها، حيث يورد ابن عبدالحكم طلباً وجهه بن الخطاب لابن العاص، بأن يسأل (المقوقس ـ حاكم مصر السابق)، عن مصر من أين تأتي عمارتُها وخرابُها: "فسأله عمرو فقال له المقوقس: "تأتي عمارتها وخرابها من وجوه خمسة، أن يستخرج خراجها في إبان واحد، عند فراغ أهلها من زروعهم، ويرفع خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من عَصْر كرومِهم، وتحفر في كل سنة خلجُها وتُسد ترعُها وجسورُها، ولا يقبل محل أهلها يريد البغي، (حاكم ظالم) فإذا فُعل هذا فيها عمرت، وإن عمل فيها بخلافه خُربت".

"عَصْر كرومهم"

لقد كان بديهياً أن تتحطم صخرة تحريم الخمور على أرض مصر، وأن ينجر العربُ. وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطاب إلى "فقه الضرورة" من أجل اتخاذ موقف عقلاني وموضوعي ورشيد من الخمور، وهو موقف لا علاقة له بما يُعرف عن عمر بن الخطاب من حب معروف عنه للنبيذ، كما أوضحنا، حيث كان النبيذ أمراً بديهياً في الأسواق المصرية وقتها، بداهة الأخشاب والزيت والسلع الغذائية، خلال السبعين عاماً الأولى للعرب في مصر، وهذا يعني أن العرب اتخذوا موقفاً نفعياً محضاً لا علاقة له بتحريم أو بإباحة الخمور، بل له علاقة بالنفع التجاري المباشر، ومنذ اللحظة الأولى اكتشفوا ـوهم التجارـ أنهم سوف يخسرون كثيراً إذا صادروا إنتاج الخمور، وأن ذلك كان سيغلق أمامهم باباً للرزق، فقرروا أن يتركوا الحديث عن تحريمها للفقهاء، أما خليفة المسلمين، الفاروق عمر فقد عرف من "المقوقس" ضرورة أن يكون محصول الكروم وفيراً، والأرجح أنه أمر أن يستمر في تحصيل الضريبة عن الخمر، مثل غيرها من السلع، هكذا بمنتهى البساطة، خصوصاً إذا عرفنا أن العرب على حد تعبير الخليفة في أحد خطاباته مستحثاً ابن العاص على التعجيل بإرسال الجزية: "قومٌ محصورون".

لكن.. هل انتهى الخلاف، بين الخليفة عمر بن الخطاب والوالي عمرو بن العاص بسبب "خراج مصر" عند هذا الحد..؟ أم امتد إلى مواجهات لفظية بينهما، اتُهم فيها "ابن العاص" بالثراء المالي "المفاجيء" بسبب خيرات أرض مصر.. ودافع "ابن العاص" طبعاً عن نفسه فقد تسبَّب "الخراج" القادم من مصر، في خلاف بين الخليفة عمر بن الخطاب وواليه على مصر حيث زادت الضغوط الاقتصادية على الخليفة، كلما استقر الأمر للعرب في مصر، بسبب الاضطرابات السياسية في منشأ الدولة الإسلامية، حيث كان الخليفة يشكك دائماً كما ورد في بعض خطاباته، في سلوك بن العاص المالي، وقد قال ذلك صراحة في الخطاب: "ولم أقدمك إلى مصر أجعلُها لك طُعْمة ولا لقومك ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك"، الأمر الذي رفضه بن العاص وقد كانت له حُجة وجيهة أوردها بتلر في "فتح العرب لمصر"
نقلاً عن المقريزي:
"طلب عمرو أن ينتظر به على الناس حتى تُدرك غلتهُم، وقال لعمر إنه لا يستطيع أن يزيد الخراج على الناس بغير أن يؤذيهم، وإن الرفق بهم خير من التشديد في أمرهم وإكراههم على أن يبيعوا ما هم في حاجة إليه في أمور معيشتهم، لكي يؤدوا ما يُطلب منهم".

الحقيقة أن كثرة الإلحاح ألهمت أمير المؤمنين فكرة تؤكد صحة استنتاجاتنا، فقد أصر الخليفة عمر بن الخطاب إصراراً على تنفيذ الفكرة، وهي أن يتم حفر خليج من نهر النيل حتى يسيل في "البحر الأحمر"، ولذلك استقبل عمرو ابن العاص في المدينة أحسن استقبال، وقال عمر: "يا عمرو إن الله فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرة الخير والطعام، وقد ألقي في روعي لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين، والتوسعة عليهم، حين فتح الله عليهم مصر وجعلها قوة لهم، ولجميع المسلمين، أن أحفر خليجاً من نيلها حتى يسيل في البحر، فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله على الظهر يبعد، ولا نبلغ منه ما نريد، فانطلق أنت وأصحابك وتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم".



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى