كاهنة عباس - عن خفايا الشعر وأسراره

حين داهمني الشّعر لم يستأذن ، نزل عليّ كالمطر الغزير ، كالنّور في وضح النّهار ، أخبرني أنّه تحرّر من العبوديّة ، لكي يعيد للكلمة سرّها .
أعاد إليّ لحن المواويل القديمة وشوق الاستماع إلى الحكايات والخرافات والأساطير ، فتح النوافذ المؤدّية إلى طفولتي ،اختارني ملكة كي أسود عوالم إلهامه قبل أن تنظّم .
فالشّعر وصل الكلمة بنغمها، بصورتها، كي يحلّق بها بعيدا في أفق المعنى ، حيث لا بداية ولا نهاية ،إنّه روحها، لذلك نشأ قبل ظهور كل الحكايات والروايات ، فأضحى ظلاّ يرافق الإحساس، رديف الفرح والنّشوة وصوت الحزن والعزلة.
إذا ما سكنكم الهوس بالشّعر، فاعلموا أنّكم لستم أقلّ مكانة من الأنبياء وأنّ ما تعلمونه لا يوصف ولا يقال ،فهو جوهر الأسرار ،مهما سعيتم لبيانه ، سيكتنفه الغموض لا محالة، فعين الشّعر هو الاحتفال بشدو العالم ، وصف الدّهشة الأولى عند مشاهدة الموجودات ، وما يصيبنا من غربة نستأنس بها ، الهجرة إلى الأحلام الممكنة ، التعلّق وجدا بالمستحيل وبعض من رؤى اليقظة.
فإذا ما امتزجت رقّة الهمس بمعاني الكلمات ، وتعالت بين عباراتها الموسيقى وتسلّل إليها الصّمت ليكون لها الفاصل والمؤلّف وانطلقت الهجرة إلى أقاصي الخيال وغاب عنّا العالم القديم، فاعلموا أنّ اندفاع الصّبا وحماسته، قد باتت تسكنكم فأصبحتم بحّارة تشقّون ما جادت به اللّغة من حيويّة متدفّقة ،وأنّ الشّعر سيحلّ بكم إن عاجلا أو آجلا .
إنّه نسيج من وهج القلب ،يسافر بالمغامرين منّا إلى بلدان لم ندركها بعد ،تلك الّتي تقع بين الحلم واليقظة ،بين الحدوث والاستقرار،بين الممكن والمستحيل ، بين ما نشعر به وما نرغب فيه ،هو الباعث على حلول الكلمة بمنطق التفّرد ، وهو ترانيمنا الّتي تتغنّى بمن نكون ،وحدتنا بكل خفاياها وأفقها ، التّحليق بالكلمة خارج سياقها وإمكانياتها .
الشّعر ذلك الزائر الغريب الّذي دقّ بابي، فأهداني القدرة المتجدّدة على الضّحك والبكاء ،ورماني بعد كلّ الخيبات الّتي عرفتها في بحر المشاعر المتقلّبة ثّم أوصاني باتّباع بحوره بحرا بحرا العريض ، الطويل، الممتدّ وغيرها ،حتى بتّ لا أشتهي سوى الولوج في أعماقه .
من حمّل الكلمة بأكثر من رمز ؟ من منحها القول والصّمت ،من نفخ فيها المعنى ليسحبه منها فيما بعد ؟من أهداها الألحان وجمال الصّورة ؟ من قال لها : كوني ، فإذا بها تكون ؟ أهي عزلة الشّاعر ، جنونه ، حنينه لما فات ، شغف قلبه أم بكاؤه الصّامت؟
  • أليست اللّحظة الفارقة بين الوجود والعدم ؟
تلك، التي انبعثت منها الأسماء متواترة ، فجاءت فيضا ، لأسبقيّة وجودها على كلّ حكي أو رواية أو حديث ، من رحمها ولد الشّعر، فكان هو القائل والقول معا ، يتلوه الشّاعر عن ظاهر قلب ، باعتباره المعلوم المتقدّم على كلّ علم .
أمّا عن طقوس الشّعر، فهي دواء لكلّ علّة ،مهما كان مصدرها : الهجران ، الفقد ، الغياب ، النّقصان و كلّ الجراح العميقة .
طقوس الشّعر هي أيضا تصوّر العالم من منظور عجائبيّ ، لتوقظ بين النّوّار والأزهار ، الزّنبقة الأرجوانيّة ، السّحر الذي لم تتحدّث عنه أعرق الأشجار ، ما رسمته الدّهور على الجبال والصّخور من إشارات وعلامات وأسوار، معجزة الألوان الطبيعيّة وتغيّر الأشكال وانعكاس النّور على الماء، تمازج الفوضى والنّظام في كائن و بقعة ومشهد واحد.
طقوس الشّعر تجعل الكلمة مرآة للعالم بعد إعادة تشكيله من وجهة نظر إنسانيتنا الهشّة ،المؤهّلة للفناء.
إنّها الطّقوس المؤسّسة لوجودنا الحسيّ الوجدانيّ العاطفيّ، لأنّه الجسر الّذي يجمعنا بمن نحبّ ومن ننتظر .
ومن ثمّة، كان الشّاعر هو من يؤرّخ للمحبّة ، للوّد ، لليأس ، للتأمّل ، للتيه ، للتساؤل ، للشّوق ، للجنون ، للصّمت وللتمرّد .
وهو المؤرّخ لكلّ ما ينسى ويندثر، لأحوالنا وآلامنا وآهاتنا ، وأفراحنا، إنّه من يجمع العالم برموزه واستعاراته، فهو الّذي قال أنّ الفجر أمل والزهر حبّ والحمام سلام والنّار حرقة والشّمس نور واللّيل ظلام .
أزيلوا كلّ الرّموز والاستعارات من رؤاكم من أحلامكم من انتظاراتكم من رغباتكم ، أزيلوا كلّ ما علق بوجدانكم من لغة شاعريّة وسيبقى الجمال عاريا لا بيان يؤوّله ، لا موعد يجمعه بالرّوح وبالنّفس .
وبلوغ ذروة الشّعر يتحقّق حين تلتقي النّفس بالعالم فتكون لها معرفة ما تخفيه كل الاستعارات والرّموز والصور والأنغام ،عندما ترفع الحجب عمّا لا يدرك ولا يرى ولا يقال، فينكشف السّر ويتبدّد الغموض .
فاعلموا، أنّني لو لا الشّعر لفقدت صوابي ،فهو الّذي أزاح السّتار عن تصوّفي حين أحببت من لم يصن عهدي ، وهو الكاشف لي عمّا تخفيه عوالم الصّمت ، وهو الّذي علمني أنّ الموسيقى مندمجة إمّا في مفردات اللّغة أو منفصلة عنها، يعود أصلها إلى حركة تؤلّف حكاية العالم بحروف الهواء المتطايرة .
لانّ الشّعر هو المبدع الخلاّق لكلّ معنى ، كان يعتبر جنونا ومروقا ولغوا ولم يزل ، لكونه صوت المحبّ والمقهور و المتيّم والحالم والمضطهد ،روح الصّبا حين تقبّلناه فرحا ونشوة .
وهو أيضا نسيج من الغّناء الموزّع بإتقان بين شرايين اللّغة، يجري في دمائها كي تكون قادرة على الصّعود إلى ركح الحياة وأداء دورها الرّومانسيّ تارة الدراميّ طورا ،كي تخبرنا أن سبب وجود الإنسان قدرته على تسمية الأشياء حتّى يعيد حبك شاعريّة العالم بما يشعر وما لا يشعر ،بما يدرك وما لا يدرك، بما يعلم وما لا يعلم.

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى