مقتطف عزيز مصر

من كتاب رحلة إلى شاطئ النار والنور



رأى يوسف في منامه، حلما عظيما، أصابه بالارتباك و الحيرة الشديدة، فقد رأى أحد عشر كوكباً و الشمس والقمر ساجدين جميعا له، فلما ذهب مأخوذا بما رأي إلى النبي يعقوب والده ليحكي له ، خاف والده عليه من إخوته، ومنعه من أن يقص عليهم تلك الرؤية.

هو النبي الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم جميعا السلام.



***

يوسف عليه السلام كان رمزا للطهر والجمال ، فهو أجمل رجال الأرض إلى أن تقوم الساعة ، كما كان حسن الخلق والمعشر، رؤوف بأبيه محب له، ولأخوته جميعا، و قد تعلق قلب أبيه به حتى صار أقرب ابنائه إليه ، مما جعل إخوته يضمرون له الشر ، فقالوا فيما بينهم:
إن يوسف أحب إلى أبينا منا، و نحن عصبة، إن أبانا إذن لفي ضلال مبين.

و عظم الشيطان هذا الأمر في قلوبهم، فزاد حسدهم و حقدهم على يوسف، حتى قال بعضهم: أقتلوا يوسف، فتنالوا حب أبيكم من بعده.
ولما شعروا بفداحة وجرم ما ينتون فعله، اختلفوا في الأمر، و ظلوا ما بين التنفيذ والإحجام، حتي غلبهم الشيطان، و سوس إلى أحدهم فقال :
اقتلوه، ثم تتوبوا بعدها، و تكونوا قوما صالحين.
فاتفقوا جميعا على قتل يوسف ،إلا أكبرهم قال :
لا تقتلوه، و لكن ألقوه في بئر فيمر بعض المسافرين و يأخذونه.
وقد قال أكبرهم هذا مضطرا، حتى ينجيه من القتل ظلما .
***

ذهب أخوة يوسف إلى أبيهم و رجوه أن يترك يوسف يذهب معهم إلى الرعي، و قد كان صبيا صغيرا، فرفض يعقوب في أول الأمر قائلا :
إني أخاف أن يأكله الذئب و أنتم عنه غافلون.
فألحوا على يعقوب، بحجة أنه سيرتع و يلعب ،فتركه لهم بعد أن أكدوا لأبيهم بأنه سيكون في أمان بينهم و تحت أعينهم، غير أنهم توقفوا عند بئر فى طريق القوافل التجارية المسافرة، وأمسكوا بيوسف بعنف ، ثم ألقوه فى البئر، بعد أن نزعوا عنه قميصه، ثم رجعوا إلى سيدنا يعقوب وقالوا له وهم يتظاهرون بالحزن، ويتصنعون البكاء :
إن الذئب قد أكله ولم يتبق منه سوى قميصه هذا .
ذهل يعقوب مما حدث، وحزن حزنا عظيما، إلا أنه لم يصدقهم حين رأى القميص، فبالرغم من كونه ملطخا بالدماء، إلا أنه كان سليما، غير ممزق من أنياب الذئب !!!

قال يعقوب عليه السلام: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (18)يوسف.
***

بعد مضي فترة من الزمن، مرت قافلة بجانب البئر الذى بداخله سيدنا يوسف، ثم توقفت لتتزود بالماء، وحينما ألقى أحدهم بالدلو فى البئر، ثم قام بسحبه، فوجئ بصبي شديد الحسن متعلقا به، فسر به ، وقام بأخذه ضمن بضاعته .

وعندما وصلت القافلة إلى مصر، تم عرض يوسف للبيع فاشتراه ، عزيز مصر الذي أعجب به كثيرا، وأخذه إلى زليخة امرأته، وأوصاها أن تكرم مثواه عسى أن ينفعهما أو يتخذانه ولدا، و لما كبر و بلغ أشده آتاه الله حكما و علما.

***.
صار يوسف فى بيت العزيز، منعما مكرما، يحبه جميع من في القصر، وكلما مر عليه عام يزداد جمالا وإشراقا، حتى حدث مالم يكن متوقعا ، فقد تعلقت زليخة امرأة العزيز بسيدنا يوسف وأخذت تتودد إليه،وتعرض نفسها عليه، وهو يرفض في أدب مخافة ربه ، حتى دبرت له مكيدة، فأحضرته إلى غرفتها، وغلقت عليه كل الأبواب، وهي ترواده عن نفسه مستخدمة كل وسائل الأنثى في الإغراء....
زليخة غير أنها عرفت بالحسن و الثراء، و المنزلة العظيمة، فهي مولاته، إذا ما عصاها يمكنها أن تنزل به أشد العقاب.
ويوسف نبي، ولكنه في النهاية بشر، إنسان في ريعان شبابه، وفتوته.
واحتدم الموقف بينهما، فهي تشده إليها وهو يمنع نفسه عنها، و إبليس اللعين، قد حضر ليزيد الموقف اشتعالا، فطفق يفعل أقصى ما في وسعه.
وكيف لا يفعل وهي فرصته النادرة كي يوقع نبي طاهر من سلسال أنبياء كرام في الخطيئة؟!

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) . يوسف

هناك الكثير من الروايات المتضاربة، ما بين أن يوسف قد بدأ الشروع في فعل المعصية ثم تراجع، وبين أنه لم يشرع أصلا في الفعل!!
غير أن الواضح وما لا شك فيه أن الله عصمه عن السوء ، و أراه برهانا منه حتى لا يقع في الخطيئة .

قال يوسف عليه السلام :

مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) يوسف.

و انطلق يوسف إلى الباب بينما زليخة في أثره تحاول أن تتعلق به، فأمسكت قميصه من الخلف ويوسف ينزع نفسه منها، فتمزق القميص ، و لما خرجا، وجدا العزيز، فسارعت زليخة باتهام يوسف عليه السلام:
ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم؟!
قالت هذا حتى تبرأ نفسها و تنسب السوء إلى يوسف عليه السلام.

فقال مدافعا عن نفسه: هي راودتني عن نفسي.
فشهد شاهد من أهلها و حكم بينهما فقال: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين، و إن كان قميصه قد من دبر فكذبت و هو من الصادقين.

فلما رأى العزيز أن قميص يوسف عليه السلام تمزق من الخلف قال: إنه من كيدكن، إن كيدكن عظيم.

***

انتشر الخبر في أنحاء البلاد، وصارت واقعة يوسف وزليخة حديث المدينة ،و استنكرت الحاشية موقف العزيز المتخاذل، تجاه زوجته التي تلاعبت به وطعنته في شرفه، وتخلت عن حبه، و إكرامه لها ، وتناقلت جموع النساء مراودة امرأة العزيز لفتاها، و قالوا:
قد شغفها حبا، إنا لنراها في ضلال مبين.
و لما سمعت زليخة بحديثهن عنها و مكرهن، غضبت، ولم تدر ماذا تفعل، أغلق عليها الأمر، و أصابها حرج شديد، حتى هداها فكرها إلى أن ترسل إلى نساء كبارات المدينة ، فدعتهن، و أعدت لهن متكأ و أعطت كل واحدة منهن سكينا تقطع به الفاكهة ، ثم أمرت يوسف عليه السلام أن يخرج عليهن!!

فلما خرج عليهن و رأينه و رأين جماله أكبرن من أمره، و تعاظم جماله، و نوره لديهن فقطعن أيديهن بالسكاكين من شدة ذهولن!!
قالت النسوة في دهشة بالغة : ما هذا بشر، إن هذا إلا ملك كريم.

وقالت زليخة في غضب :
فذلكن الذي لمتنني فيه، و لقد راودته عن نفسه و أردته فرفض و استعصم، و لإن لم يفعل ما آمره ليسجنن أو ليكونن من الصاغرين.

فدعا يوسف عليه السلام ربه فقال:
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) يوسف.

***.

قميص يوسف كان دليل تأمر عليه ، في المرة الأولى فضح إخوته الذين القوا به في البئر، ثم لطخوا قميصه بالدم وزعموا لأبيه أن الذئب أكله، ونسوا أن القميص سليم لم تمسسه أنياب الذئب!!
وفي المرة الثانية كان تمزق قميص يوسف من الخلف دليلا على براءته من مروادته لامرأة العزيز .

ورغم ذلك ألقى به في السجن، ظلما، ولكنه أنتهز فرصة وجوده فى السجن وأخذ يتأمل فى كون الله و ملكوته ودعا المساجين إلى عبادة الواحد الأحد.

وقد أحبه جميع من حوله، من مساجين وحراس، حين رأوا فيه نور الصلاح والسماحة، فامتلأ لأول مرة سجن الفرعون المظلم شديد البرودة، بنور الله ودفء رحمته.

علموا أن يوسف صادق أمين، وأنه يفسر الأحلام فلم يخطئ فيما يخبرهم ولو مرة، اذ كان يتحقق كل ما يقوله لهم بأمر الله، فازداد التفافهم حوله....
كان مع يوسف -عليه السلام- في محبسه، رجلان من خدم العزيز، وقد كانت التهمة الموجهة إليهما:
المؤامرة على الملك.
فلما رأى كلٌّ منهما رؤيا في منامه،
فسألاه أن ينبئهما بتأويل رؤيتيهما ، و قالا له: إنا نراك من المحسنين.
لم يمتنع عنهما يوسف بل طلب منهما أن يذكرا تفاصيل حلميهما.
فقال أحدهما: إني أراني أعصر خمرا.
و قال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه.

صمت يوسف قليلا، ولم يفسر لهما الرؤيا مباشرة، بل أراد أن يبرهن لهما أن تأويله للأحاديث صادق، فقال لهما:
لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلك مما علمني ربي.
و دعاهما إلى الله و أن يعبدوه وحده لا شريك له، و جادلهما في الآلهة التي كانت تعبد هناك و كان آباؤهما عليها.

فقال لهما: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) يوسف.
وتحقق ماذكره لهما يوسف بشأن الطعام، إذ لم تمض بضع دقائق و أحضر الحراس لهما نفس الطعام الذي ذكره يوسف .
ثم بعدها فسر لهما رؤياهما، فقال للأول الذي رأى أنه يعصر خمرا أنه سينجو و أنه سيسقي ربه خمرا.
و قال للثاني أنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه.
ثم قال لهما مؤكدا:( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (41)يوسف.

و قال للذي علم أنه ناج منهما : أذكرني عند ربك.
وقد كان هذان الرجلان هما ساقي الملك و مباشر مائدته .
وقد خرجا من السجن، و صدقت نبوءة يوسف عليه السلام فيهما، فرجع الساقي إلى الملك يسقيه، و صلب الآخر.

ولكن الساقي نسي أن يذكر يوسف عليه السلام لدى الملك، فلبث في السجن بضع سنين.
***

فى أحد الليالي رأى الفرعون رؤيا غريبة جاء فيها: أنّ سبع بقرات نحيفات يأكلن سبع بقرات سمينات، ورأى أيضاً سبع سنابل خضراء وسبع سنابل يابسات.
ثم طلب من كل من يملك القدرة على التفسير لحلمه أن يتقدم إليه...
وقد كان في مصر أعظم المفسرين والمعبرين عن الرؤيا، إلا أنهم جميعا قالوا للملك: أنّ ذلك أضغاث أحلام.

(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)

المستشارون والكهنة لم يقوموا بتفسير الرؤيا إما لأنهم لم يعرفوا تفسيرها حقا ، أو لأنهم أحسوا أنها رؤيا سوء فخشوا أن يفسروها للملك، وعللوا عدم التفسير بأن قالوا للملك: أنها أجزاء من أحلام مختلطة ببعضها البعض، ليست رؤيا كاملة يمكن تأويلها.

مما أحزن الفرعون وأغضبه كثيرا، وهنا تذكر ساقي الملك يوسف عليه السلام..
تداعت أفكاره وذكره حلم الملك بحلمه الذي رآه في السجن، و تأويل يوسف لحلمه.
أسرع الساقي إلى الملك وحدثه عن يوسف،قال له: إن يوسف هو الوحيد الذي يستطيع تفسير رؤياك.
فأرسل الملك ساقيه إلى السجن ليسأل يوسف.
حين سئل يوسف عن تفسير حلم الملك.. لم يقم يوسف -عليه السلام- بالتفسير المباشر المجرد للرؤيا فقط، وإنما قدم مع التفسير النصائح وطريقة مواجهة المصاعب التي ستمر بها مصر.
أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر عليها سبع سنوات تجود فيها الأرض بالغلات،وعلى المصريين ألا يسرفوا في هذه السنوات السبع،لأن وراءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون، وأفضل خزن للغلال أن تترك في سنابلها كي لا تفسد .

وزاد يوسف تأويله لحلم الملك بالحديث عن عام لم يحلم به الملك، عام من الرخاء.
عام يغاث فيه الناس بالزرع والماء، .

***

عاد الساقي إلى الملك، وأخبره بما قال يوسف، فدهش الملك دهشة شديدة، وتساءل : ما بال هذا السجين..؟
إنه يتنبأ لهم بما سيقع، ويوجههم لعلاجه.. دون أن ينتظر أجرا أو جزاء، أو يشترط خروجا أو مكافأة.
فأصدر أمره بإخراج يوسف من السجن وإحضاره إليه.
وعلى الفور ذهب رسول الملك إلي يوسف في سجنه، وطلب منه أن يخرج للقاء الملك،الذي يطلبه على عجل.

إلا أن يوسف رفض أن يخرج من السجن إلا إذا ثبتت براءته، فيقول لرسول الملك وهو في منتهى السكينة والهدوء :
ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيدهن؟!

يزداد الملك تعجبا بأمر ذلك الرجل الذي يرفض الخروج من السجن ويتساءل عن سر تقطيع النسوة لأيديهن، ثم يقرر عقد محاكمة عاجلة ،يجمع فيها كل من له علاقة بيوسف، ويسأل نساء الطبقة العليا عما فعلنه مع يوسف.

(قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ).

وقالت زليخة، كل شيء قد حدث مع يوسف بصدق غريب .
كان اعتراف امرأة العزيز، بألفاظ تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر حب عميقة (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)
شهدت شهادة كاملة بإثمها هي، وبراءته هو.....
ربما هي محاولة منها للتكفيرعما فعلت، ولتصحيح صورتها في ذهن حبيبها،حتى لا يستمر على تعاليه واحتقاره لها .
قالت :(ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ).
وكأنها تقول ليوسف إنني لست بهذا السوء الذي تتصوره!!
وتستمر في صدقها و مشاعرها الطيبة، وكأنها تستغفر الله باعترافها فتقول :
(وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
وكلمات زليخة هذه إنما هي تأكيد على أنها تحولت إلى دين التوحيد.

غير أن النص القرآني تجاوز تماما نهاية المرأة.
أغفلها من سياق القصة، بعد أن شهدت ليوسف، فقد ظهرت المرأة ثم اختفت في الوقت المناسب تماما ..!!
اختفت في قمة مأساتها،وشاب اختفاءها غموض فني يزيد القصة عمقا وإثارة!!
ولربما بقيت في الذاكرة باختفائها هذا زمنا أطول مما كانت تقضيه لو عرفنا يقينا بقية قصتها، بل كان ذلك دافعا لإثارة المخيلة، وجعل كل من يقرأ سورة يوسف يبحث ويتساءل عن ما حدث بعد ذلك لتلك العاشقة.
فجاءت حكايات ومرويات كثيرة ومتعددة لها.

قيل: أنها كانت عذراء، وأن زوجها كان شيخا لا يقرب النساء..
وقيل: إن زوجها قد مات، وأن بصرها ضاع بسبب استمرارها في البكاء على يوسف، فخرجت من قصرها وتاهت في طرقات المدينة، فلما صار يوسف كبيرا للوزراء، ومضى موكبه يوما هتفت به وهي تتكفف الناس:
سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية، وجعل العبيد ملوكا بالطاعة.
سأل يوسف: صوت من هذا؟
قيل له: امرأة العزيز، انحدر حالها بعد عز.
واستدعاها يوسف وسألها: هل تجدين في نفسك من حبك لي شيئا؟
قالت: نظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا يا يوسف.. ناولني نهاية سوطك.
فناولها، فوضعته على صدرها، فوجد السوط يهتز في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها.
وقيل أيضا أن يوسف تزوجها بعد أن دعا الله لها فرد إليها بصرها، وشبابها.
***
ويبدأ فصل جديد من فصول حياة يوسف عليه السلام:
بعد ما رأى الملك من أمر يوسف.
براءته، وعلمه، وعدم تهافته على الملك. عرف أنه أمام رجل كريم، فطلبه ليكون مستشاره.
وعندما جلس معه وكلمه، تحقق له صدق ما توسمه فيه فطمئنه على أنه ذو مكانه وفي أمان عنده.

كان الملك مهموما بتفسير يوسف لحلمه ومصير البلاد فقال له :
لو جمعت أهل مصر ما أطاقوا هذا الأمر.. ولم يكونوا فيه أمناء.
وقد كان الملك يقصد الطبقة الحاكمة وما حولها من طبقات.. حيث قال :
إن العثور على الأمانة في الطبقة المترفة شديد الصعوبة.
لما رأى يوسف حيرة الملك وقلقه وسمع منه اعترافه بعدم ثقته فيمن يتولى أمر هذه الأزمة، زاد ذلك من عزمه على تولي هذا الامر، لإنقاذ مصر وما حولها من البلاد من هذه المجاعة..
فقال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).

استجاب الملك لطلب يوسف وأصبح مسؤولا عن خزائن مصر واقتصادها،وجعله كبيرا للوزراء حتي أنه ترك له كل أمور الحكم، وقال له:
يا يوسف ليس لي من الحكم إلا الكرسي. ***

دارت عجلة الزمن، ومرت سنوات الرخاء، وجاءت السنوات الصعبة ، و بينما يوسف، يمارس مهامه ، يظهر إخوته، وقد جاؤوا من أرض كنعان، بحثا عن الطعام.

(فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ).

لم يجد إخوة يوسف أمامهم سوى الذهاب إلى مصر،وقد سمعوا بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان، فدخلوا على عزيز مصر، وهم لا يعلمون أنه أخوهم،
بينما هو قد عرفهم بمجرد أن شاهدهم.

دارت في نفس يوسف مشاعر وأحاسيس متضاربة، بين الاشتياق، والحزن، والخذلان.....
تذكر ما فعلوه به، وشدة قسوتهم معه وكيف ألقوا به في أعماق بئر مظلم مخيف، تألم كثيرا حين تذكر أباه الحنون يعقوب وما أوصاهم من رعاية واهتمام به ، وكيف خذلوه!!
أدرك يوسف أنه رغم كل شيء لم يستطع أن يكرههم، بل إنه لازال يحبهم، فهم رغم كل شيء أخوته، ولكنه لم يكشف لهم عن نفسه، وأنزلهم منزلا طيبا، ثم أخذ في إعداد أمر ما !!
( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ).
يوسف تركهم يأنسون إليه, ثم استدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل, وأن لهم أخا صغيرا من أبيهم ، وهو أخ يوسف الوحيد من نفس الأب والأم.
أخبروا يوسف أنه لم يحضر معهم لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه.
تألم يوسف لحال أبيه، وعلم أن حالته ساءت كثيرا بعد فراقه، ولكنه لم يظهر لأخوته مشاعره تلك، فقط جهزهم بحاجات الرحلة ثم قال لهم : أريد أن أرى أخاكم هذا.
(قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ).
وقد رأيتم أنني أوفي الكيل للمشترين، فسأوفيكم نصيبكم حين يجيء معكم، ورأيتم أنني أكرم النزلاء فلا تخافوا عليه، بل إنه سيلقى مني الإكرام المعهود.
(أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ )
(قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ).

أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح والعلف،في رحالهم ، لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا بها.
***

في أرض كنعان، رجع الأخوة إلى أبيهم.. وقبل أن ينزلوا أحمال الجمال ويفكوا متاعهم، دخلوا على أبيهم، قائلين له بعتاب: إن لم ترسل معنا أخانا الصغير في المرة القادمة فلن يعطينا عزيز مصر الطعام.
وختموا كلامهم بوعد جديد ليعقوب عليه السلام (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
ويبدو أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب. فهو ذاته وعدهم له في يوسف!
فإذا هو يجهر بما أثاره الوعد من شجونه:
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(64) (يوسف)
وفتح الأبناء أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال،فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها، مردودة إليهم مع الغلال والطعام !!
أدرك أبناء يعقوب إن رد الثمن يشير إلى عدم الرغبة في البيع، أو هو إنذار بذلك..
فأسرعوا إلى أبيهم:
(قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي)
..لم نكذب عليك.. لقد رد إلينا الثمن الذي ذهبنا نشتري به فهم لن يبيعوا لنا إلا إذا ذهب أخونا معنا.
واستمر حوارهم مع الأب.. أفهموه أن حبه لابنه والتصاقه به يفسدان مصالحهم، ويؤثران على اقتصادهم، وهم يريدون أن يتزودوا أكثر، وسوف يحفظون أخاهم أشد الحفظ وأعظمه..
وانتهى الحوار باستسلام الأب لهم.. بشرط أن يعاهدوه على العودة بابنه، وألا
يدخلوا -وهم عصبة - من باب واحد من أبواب مصر.. كي لا يستلفتوا انتباه أحد، وربما خاف عليهم من الحسد.

***

عاد إخوة يوسف الأحد عشر إلى يوسف :
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69) (يوسف)
يحتضن يوسف أخاه ويكشف له وحده سر قرابته، وقد وقع هذا في خفاء وتلطف، فلم يشعر بقية إخوته.
كان يوسف يريد أن يحتفظ بأخيه الصغير معه.
وهو يعلم أن احتفاظه بأخيه سيثير أحزان أبيه، وربما حركت الأحزان الجديدة أحزانه القديمة، وذكره هذا الحادث بفقد يوسف..
يعلم يوسف هذا كله.. ولكنه كان يتصرف بوحي من الله.
ربما كان الله تعالى يريد أن يصل بابتلائه ليعقوب إلى الذروة.. حتى يتجاوز به منطقة الألم البشري ،ويختبر صبره، وإيمانه في فقدان أعز ما لديه .

أمر يوسف -عليه السلام- رجاله أن يخفوا كأس الملك الذهبية في متاع أخيه خلسة.. وكانت الكأس تستخدم كمكيال للغلال.. كما أنها لها قيمتها كمعيار في الوزن إلى جوار قيمتها كذهب خالص.

وتهيأ أبناء يعقوب للرحيل، ومعهم أخوهم.. ثم أغلقت أبواب العاصمة.. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)..!!
كانت صرخة الجند تعني وقوف القوافل جميعا.. وانطلق الاتهام فوق رؤوس الجميع، فأقبل الناس، وأقبل معهم إخوة يوسف.
( مَّاذَا تَفْقِدُونَ)؟
هكذا تسائل إخوة يوسف.
قال الجنود: (نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ).. ضاعت كأسه الذهبية.. ولمن يجيء بها مكافأة.. سنعطيه حمل بعير من الغلال.
قال إخوة يوسف ببراءة: لم نأت لنفسد في الأرض ونسرق!
قال الحراس (وكان يوسف قد وجههم لما يقولونه): أي جزاء تحبون توقيعه على السارق؟
قال إخوة يوسف: في شريعتنا نعتبر من سرق عبدا لمن سرقه.
قال الحارس: إذن سنطبق عليكم قانونكم الخاص .
كانت هذه الإجابة كيدا وتدبيرا من الله تعالى، ألهم يوسف أن يحدث بها ضباطه.. ولولا هذا التدبير الإلهي لامتنع على يوسف أن يأخذ أخاه.. فقد كان دين الملك أو قانونه لا يقضي باسترقاق من سرق.
كان هذا الحوار على منظر ومسمع من يوسف، فأمر جنوده بالبدء بتفتيش رحال أخوته أولا قبل تفتيش رحل أخيه الصغير. كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش.
اطمأن إخوة يوسف إلى براءتهم من السرقة وتنفسوا الصعداء، فلم يبقى إلا أخوهم الصغير.
وتم استخراج الكأس من رحله، فأمر يوسف بأخذ أخيه عبدا.
بعد إحساس الإخوة براحة الإنقاذ والنجاة من التهمة، بدأوا باللوم على شقيق يوسف (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ)
كانوا يتنصلون من تهمة السرقة.. ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب.
سمع يوسف بأذنيه اتهامهم له، وأحس بألم عميق.. قال بينه وبين نفسه :
(أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ).

تذكر إخوة يوسف أباهم يعقوب..
لقد أخذ عليهم عهدا غليظا، ألا يفرطوا في ابنه.
أخذوا يسترحمون يوسف:
أيها العزيز.. أيها الملك..
إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
قال يوسف بهدوء:
كيف تريدون أن نترك من وجدنا كأس الملك عنده، ونأخذ بدلا منه أنسانا آخر؟!
نحن لا نظلم؟!

عرف أخوة يوسف أن لا جدوى بعدها من الرجاء، فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج أمام أبيهم حين يرجعون.
و أخبرهم كبيرهم أنه لن يعود معهم بسبب الميثاق الذي واثقوا به أباهم، قال: لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي و هو خير الحاكمين.

حين رجعوا إلى أبيهم، قالوا له :أن ابنك قد سرق، و أننا شهدنا ما حدث ،و كذلك القوم الذين كانوا معنا أيضا يشهدون على ذلك.
فقال لهم:
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) يوسف.

ثم تولى عنهم و قال يا أسفي على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن الشديد والبكاء.


و لما كان العام القادم أمر أبنائه أن يذهبوا إلى مصر، و لا ييئسوا من روح الله، و لما أتوا يوسف عليه السلام و دخلوا عليه قالوا:
مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين.

و كان القحط قد ضر بهم، وجاؤوا ببضاعة رديئة و غير مرغوب فيها، و حينها قال لهم:
قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) يوسف.

فقالوا بعد أن انتبهوا،وقد أخذتهم الصدمة : إنك لأنت يوسف!
فقال يوسف في ثبات :
نعم أنا يوسف و هذا أخي.
ثم جالسهم، وقال لهم:
لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، و هو أرحم الراحمين.
و لما أخبروه خبر أبيه أعطاهم قميصه و أمرهم أن يلقوه على وجهه ، ثم يأتوه بأهلهم أجمعين.
***
و لما انطلقوا من مصر قال أبوهم لمن كان معه في كنعان إني أشم ريح يوسف !
فكذبوه و قالوا له:
إنك لفي ضلالك القديم.

فلما جاء البشير و ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال لهم:
أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) يوسف.

رجع إلى يعقوب بصره، وبرئت عينيه حين ألقوا على وجهه بقميص يوسف .
فرح أبناء يعقوب بعودة الابصار لأبيهم، وطلبوا منه أن يستغفر لهم عن ذنبهم القديم، ثم انطلقوا جميعا إلى يوسف عليه السلام في مصر، و لما دخلوا عليه عظم أبويه كثيرا، و أكرمهما .

قال يوسف :
يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل.
ثم رفع أبويه على مجلس العزيز، فخر له سجدا، أبواه و إخوته الأحد عشر.

<<وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) يوسف.

***
فكان هذا تحققا لحلم يوسف الذي رآه في طفولته، و سكن آل يعقوب مصر بعد ذلك و جعل الله في ذريته النبوءة و الكتاب، و من ذريته موسى و عيسى عليهما السلام.


***
هي بلا ريب، أحسن القصص كما ذكر الله تعالى في كتابه، وهو وحده المحيط بكل أسرارها !!
فإذا كانت معايير النقد البشرية الأدبية المتعارف عليها اليوم تعطينا بعض الدلائل فهذا يحتم علينا أن نتعامل مع النص القرأني المقدس بحرص شديد.
نحن أمام قصة مكثفة، هي أقرب إلى القالب الروائي، حيث تتعدد الأحداث والشخصيات.
زمن الرواية الداخلي يمتد إلى اكثر من عشرين عاما، فهي أشبه برحلة من المنبع الي المصب، وليست مجرد دوامة واحدة في النهر، وإنما مجموعة من الدوامات العنيفة التي يربط بينها حدث واربط واحد في إطار فني قصصي حمل العديد من المتناقضات.
وقد بينت الأحداث ، مراحل حياة سيدنا يوسف، ما بين العبودية، ثم السجن، ثم الوصول إلى قمة السلطة، فيوسف النبي صار عبدا يباع ويشتري، وكان قبلها ملقى في بئر عميق، بين الحياة والموت، ثم زج به في سجون مصر ، ثم وصوله إلى منصب عزيز مصر!!
و دائما الأحداث ديناميكية متحركة ، فنفاجئ بتغير الحدث، وتحقيق عنصر المفاجأة مما يصنع الدهشة وذلك أحد أهم عناصر نجاح القصة.
مع صراع متصاعد ومستمر في عدة دوائر حتى نصل إلى حبكة شديدة التعقيد...

من مزايا القصة أنها اشتملت على
الشيء ونقيضه، فهي تؤكد بذلك المعنى وتبرزه....
عبودية وملك، حبس وإطلاق، خصب واجداب، ذنب وعفو، فراق و وصال، ذل وعز!!

ولكن كل شئ يحدث بعد أن يمهد له بعناية،وحرفية عالية ،فنحن رغم المفاجأة وتحقيق الدهشة، إلا أن ثمة ترابط قوي بين السبب والنتيجة، وقد تم وضع وصناعة الأسباب بمهارة شديدة ، واستخدمت بدقة متناهية، وبطرق غير مباشرة،وغير متوقعة في التمهيد للوصول إلى النتائج، مع مفاجأة المتلقي بما لا يخطر له على بال، ولكنه يقر بمنطقية النتيجة بل ويتفاعل معها صعودا وهبوطا .
و مع توتر الأحداث الدائم، والصراع المستمر بين شخصيات القص، تتولد الإثارة والمتعة لدى المتلقي فليس هناك أي مناطق سردية مملة، أو رتيبة في فضاء النص القصصي المقدس ، ،الذي يمتلئ بأقصي مشاعر الحب، والكره، والغيرة.....
مشاعر عنيفة،متضاربة، تؤثر على مجريات الأحداث وتأخذ بلب القارئ....
كره وغيرة إخوة يوسف له حتى كادوا يقتلونه......
حب يعقوب ليوسف وتعلقه الشديد به لدرجة ان يفقد بصره حزنا عليه ....
حالة عشق زليخة لفتاها يوسف الذي نشأ في بيتها، وتجاوزها لكل الحدود.........

نحن أمام دراما نفسية دقيقة تعبر عن شخصيات مرسومة باقتدار،حيث تبين انفعالاتهم المتنوعة بين الحزن والفرح والغضب ،تجعلنا دائما واقعين ما بين كيد النساء وكذلك كيد الرجال.
هل هي قصة الصراع الأذلي المحتدم دائما بين الخير والشر، الإنسان بكل نوازعه ونقاط ضعفه، وقوته، أمام جبروت الشيطان وحيله التي لا تنفد ؟!

كما استخدمت الرؤيا والأحلام كمرأة لاستشراف المستقبل،القصة نفسها تبدأ بحلم يوسف وهو صبي، وقد ووضع رموز ودلالات يلزمنا السياق بتتبعها.

وحتى قميص سيدنا يوسف كان له دور كبير في حبكة النص القصصي ، عندما أتوا به إلى يعقوب وهو ملطخ بالدماء ولكنه سليم لا أثر عليه لأنياب الذئب ، وكذلك عندما هرب يوسف من مراودة زليخة له فمزقته من الخلف...
هنا يتضح مدى الدقة، وقوة الملاحظة التي تبني عليها الأحداث والتصورات والتي تؤسس لقاعدة هامة جدا في البحث الجنائي : ألا وهي عدم وجود الجريمة الكاملة....
فلابد للمجرم من الوقوع في خطأ ما أو أكثر مهما بلغت براعته.
دراما وصراع إنساني بين الخير والشر، بين عقيدة فاسدة وأخرى راسخة سليمة تبني على التوحيد والحق.
وإذا تأملنا في نهاية القصة ، سنجدها سعيدة.
فيعقوب رد عليه بصره، وظفر بفلذتي كبده،
ويوسف آتاه الله الملك والحكـــمة وعلمه من تأويل الأحاديث، وإخوته تاب الله
عليهم، وحسن حالهم.
وامـــــــــرأة العزيز، جاء في السورة ما يفيد إقرارها بذنبها، وندمــــــــــــها عليه،و اتباعها لدين يوسف وتوحيدها لله
وأهل مصر اجتازوا
السبع سنوات العجاف ،
حتى قميص يوسف الذي كان له دور هام في القصة، كان سببا لعودة الإبصار ليعقوب الأب.

عالجت القصة، موضوعات متعددة، ، وتناولت مسائل تربوية واجتمــــــــاعية
ودعوية وغير ذلك، ولهذا كانت فيها كما قال الله: "آيَاتٌ لِلسَّائِلِين
في النهاية نحن أمام نص قصصي مقدس غاية في الاحكام والروعة، اشتمل على كل عناصر القصة باقتدار وحرفية مدهشة.

. لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)يوسف.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

أعلى